حرب غزة وأزمة “إسرائيل” الأخلاقية
أظهرت الحرب الإسرائيلية على غزة عمق الأزمة الأخلاقية التي تعيشها “إسرائيل”، وذلك ما بدا واضحًا في تصريحات المسؤولين الإسرائيلين حيال الطريقة التي ينبغي من خلالها التعامل مع سكان القطاع.
إذ تكشف هذه التصريحات طبيعة الخلل في المنظومة القيمية للمجتمع الإسرائيلي، وهو خلل نابع بالأساس من السياق العام في “إسرائيل”، من حيث منظومة التربية والتعليم والمناهج الدراسية في الجامعات والمدارس الإسرائيلية، والتي ترسّخ جميعها فكرة الانتقام والدونية في التعامل مع العرب بصورة عامة، وشعب فلسطين بصورة خاصة.
فإلى جانب كون التصريحات التي صدرت عن المسؤولين الإسرائيليين مؤخرًا تعكس مدى الفشل الإسرائيلي في تدارك انهيارات “طوفان الأقصى” أمنيًّا وسياسيًّا، فإنها تعكس من جهة أخرى رغبة مسبقة في الانتقام العامّ من سكان غزة، وذلك ما تدلّل عليه عمليات القصف العشوائي والقتل الممنهج للسكان.
إذ لم تفرّق الآلة العسكرية الإسرائيلية بين أهداف مدنية وعسكرية وبين مقاتل أو مدني، المهم أن تكون هناك إصابات وضحايا، يتمكن من خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نتنياهو أن يصدر صورة نصر وهمي للداخل الإسرائيلي، حتى وإن كان ذلك على حساب قتل الأطفال والنساء.
نماذج أزموية إسرائيلية
في تنافس محموم، يتسابق قادة “إسرائيل” في التحريض على سكان غزة، وكأن شحنة الغضب المعبَّر عنها ستخفف حجم ما وصفه كثير منهم بالفشل العسكري والأمني الهائل، الذي قاد حتى الآن إلى موت أكثر من 1300 إسرائيلي، وما زالت اللائحة في ازدياد.
إذ يفتخر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، بأن جيشه فرض حصارًا شاملًا على غزة، تضمّن قطع الماء والكهرباء ومنع الإمداد بالوقود والطعام، معلنًا العزم على إبادة سكان القطاع لأنهم “حيوانات على شكل بشر”، على حد وصفه.
ورغم أن لا جديد في العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة سوى حجم الانتقام، فإن “إسرائيل” مصرّة على أن تمنح العالم سردية جديدة، تنقلها من مقام الدفاع عن النفس إلى “مقام إبادة الحيوانات”.
ولم يتوقف غالانت عند هذا الحد، إنما طالب الجيش الإسرائيلي بعدم التقيُّد بقواعد الحرب والاشتباك في غزة، مطالبًا إياهم بتحقيق النصر دون النظر إلى اعتبارات أخرى، إذ نقلت صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن غالانت قوله إن من المتوقع أن تستمر الحرب في غزة أيامًا عديدة، مشددًا على أن الجيش ستكون له “حرية العمل الكاملة دون قيود على استخدام القوة”.
كما أثارت تصريحات وزير التراث الإسرائيلي المتطرف، عميحاي إلياهو، موجة من الانتقادات المحلية وعاصفة من التنديد الدولي، عندما قال إن أحد الحلول المطروحة للتعامل مع قطاع غزة المحاصر، هو ضربه بقنبلة نووية مع دخول الحرب عليه شهرها الثاني، حيث قال إلياهو في مقابلة إذاعية سابقة، إن خيار قصف قطاع غزة بالسلاح النووي “أحد السبل” للتعامل معه.
إن تصريحات إلياهو لم تكشف عن عقدة “إسرائيل” فحسب في مواجهة صمود غزة، إنما تؤكد أنها تمتلك سلاحًا نوويًّا، وهو ما لا تقرّ فيه “إسرائيل” رسميًا وتلتزم الصمت حياله.
أصوات إسرائيلية معارضة
إن الأزمة الأخلاقية التي تعيشها “إسرائيل” خلال حرب غزة أصبحت واضحة للعيان، إذ قال زعيم المعارضة في “إسرائيل” يائير لابيد، إن “إسرائيل لم تعد مكانًا آمنًا، ولن تكون دولة أخلاقية أو قوة إقليمية، ولن تربح الحرب ما لم تعيد المخطوفين”، معلنًا عن تأييده لصفقة تبادل مع الفصائل الفلسطينية للإفراج عن الأسرى الذين احتجزتهم، مهما كان حجمها.
جاء ذلك خلال زيارته لخيمة الاحتجاج التي أقامتها عائلات الأسرى لدى الفصائل الفلسطينية في تل أبيب، حيث قال: “سندعم أي صفقة مهما كانت مدلولاتها وتداعياتها”.
وليس هذا فحسب، بل شهدت العديد من الولايات الأمريكية تظاهرات قامت بها جماعات يهودية منددة بما تقوم به حكومة نتنياهو في غزة، إذ شارك المئات من أعضاء الجالية اليهودية في نيويورك في وقفة احتجاجية دعت إليها منظمة “الصوت اليهودي من أجل السلام” مطلع الأسبوع الجاري، لإعلان موقفهم الرافض للعدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة.
وحمل المتظاهرون لافتات كُتب عليها “اليهود يقولون أوقفوا الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين” و”الصهيونية إرهاب” و”أوقفوا الفصل العنصري الإسرائيلي”، ويذكر أن حركة تدعى “ناتوري كارتا (حارس المدينة)” مناهضة للصهيونية تأسّست عام 1935، يرى أعضاؤها أن دولة “إسرائيل” لا تمثل الديانة اليهودية، ويطالبون باستمرار بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإعادة الأرض للفلسطينيين.
تحديات داخلية وخارجية
إن التصعيد العسكري الإسرائيلي في غزة يكشف حجم التحديات الداخلية والخارجية التي تعيشها حكومة نتنياهو، إذ بدأت الأصوات تتعالى في الداخل الإسرائيلي بضرورة أن تكون هناك نهاية لهذه الحرب، كما أن ذوي الأسرى الإسرائيليين بدأوا بالضغط على حكومة نتنياهو، من أجل تفعيل المسار السياسي بالشكل الذي يعيد أولادهم الأسرى لدى حركة “حماس”.
حيث اعتبروا أن حكومة نتيناهو لا تبالي بهم، وكل ما تفكر به هو النصر بهذه الحرب، وهي رؤية أكّدتها صحيفة “هاآرتس”، بقولها: “يجب على الحكومة أن تعلن أن عودة الرهائن هي أهم أهدافها. ولا تملك الدولة صلاحية التضحية بـ 229 شخصًا؛ ولن يمنحها أحد هذا التفويض”.
ويوم أمس دعت الصحيفة نتنياهو إلى “الرحيل”، محذرة من أن الثمن الذي ستدفعه “إسرائيل” مقابل استمرار حكمه “باهظ للغاية”، وتحت عنوان “فقط ارحل يا نتنياهو”، اعتبرت الصحيفة في افتتاحيتها أن “الثمن الذي ستدفعه “إسرائيل” مقابل استمرار حكمه باهظ للغاية”.
ولفتت الصحيفة إلى تصريحات قبل يومَين تراجع عنها نتنياهو لاحقًا، قال فيها إن إعلان الجنود الاحتياط رفض الخدمة، دفع رئيس حركة “حماس” في غزة، يحيى السنوار، إلى تنفيذ هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في غلاف قطاع غزة.
وقالت: “عاد نتنياهو إلى طرقه الشريرة، بالتحريض وزرع الدمار، وإذا كان هذا السلوك في الأوقات العادية يسمّم المجتمع وأنظمة الدولة، فإنه في زمن الحرب يعرض إسرائيل لخطر وجودي”.
وفي هذا السياق أيضًا، تشير الحركة الدبلوماسية الأمريكية الجارية في المنطقة، إلى تحول ملموس في سياق الدعم الأمريكي لـ”إسرائيل”، فرغم التحشيدات العسكرية الأمريكية في مياه شرق المتوسط، إلّا أن الداخل الأمريكي يبدو غير مستعد للتعامل مع حرب طويلة الأمد، كما هو الحال مع حرب أوكرانيا.
إذ إن الإدارة الأمريكية بدأت تجد نفسها أمام ضغط حُزَم الدعم الاقتصادي المقدَّمة لـ”إسرائيل”، كما أن مخاطر توسُّع الحرب في غزة تشير بما لا يقبل الشك، إلى أن الدعم الأمريكي لن يكون إلى ما لا نهاية، وهي حقائق ألمح إليها الرئيس الأمريكي جو بايدن، عندما التقى مؤخرًا بحاخامات يهود في واشنطن.
فمع تجاوز أعداد الضحايا في قطاع غزة الـ 10 آلاف، تواجه إدارة بايدن ضغوطًا متزايدة في الداخل والخارج، لإرغام “إسرائيل” على اتخاذ خطوات لتقليل أعداد القتلى المدنيين خلال حملتها العسكرية في غزة.
وقال رفائيل كوهين، المحلل السياسي في مؤسسة راند: “إن عقلية الحكومة الإسرائيلية الآن هي أن العالم ينقلب ضدها”. ويدعم المشرعون الأمريكيون الذين يؤيدون وقف إطلاق النار قيام “إسرائيل” بالقضاء على حركة حماس لكن البعض يقولون إن هذه الاستراتيجية الإسرائيلية ستأتي بنتائج عكسية على الداخل الإسرائيلي، خصوصًا مع التفكك السياسي الذي تعيشه “إسرائيل” الآن، وتحديدًا في جدوى استمرار حرب لا أهداف واضحة فيها، سوى مواصلة ارتكاب مذابح بشرية في غزة.
إجمالًا، يمكن القول إن الصورة الأخلاقية لـ”إسرائيل” تعرضت لانتكاسات كبيرة جديدة في حربها الأخيرة على غزة، وأظهرت وجهها المتوحش في التعاطي مع القضايا الإنسانية، فرغم محاولاتها المستمرة على تصدير صورة “الشعب المظلوم تاريخيًّا”، إلّا أن حربها الأخيرة -كما حروبها السابقة- أظهرت بجلاء أنها دولة الظلم والطغيان.
واللافت هنا أن الشعب الإسرائيلي، أحفاد اليهود الذين تعرضوا للإبادة على يد الزعيم الألماني أدولف هتلر، فيما عُرف آنذاك بالحل النهائي للمسألة اليهودية، يمارسون هم ذاتهم الإبادة في غزة اليوم، وبصورة أكثر دموية وبشاعة، وعلى الهواء مباشرة أمام العالم.
نون بوست