إنه صراع وجود والفن رمز «يخيف» العدو والحرب بالريشة واللون لاستعادة كرامة الإنسان
إنه صراع وجود والفن رمز «يخيف» العدو والحرب بالريشة واللون لاستعادة كرامة الإنسان
زهرة مرعي
بيروت ـلم يكن الفن يوماً على الحياد في القضايا الإنسانية بل عبّر منذ القدم عن حالات متعددة مرّت وتمرّ بها الشعوب، منها الحالة الاجتماعية والاقتصادية وكذلك السياسية، وكانت الحالة العسكرية الحربية بما يتخللها من عنف وقتل وإجرام في الطليعة. ولوحة «غيرنيكا» لبيكاسو شاهد منتشر ومتداول بين الناس كرفض للحرب وما تُخلّفه من مآسي.
في اللحظة المصيرية التي تعيشها فلسطين وشعبها في غزة والضفة الغربية برزت إلى واجهة الأثر الفني في السياسة فعلة غير مستغربة من دار كريستيز. فقد عمد الدار الشهير لسحب لوحتين من مزاد لندن للأعمال الشرق أوسطية في التاسع من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري للفنان اللبناني أيمن بعلبكي. وأبلغت الدار الفنان بأن فعلتها ناتجة من شكاوى كثيرة تلقتها رفضاً لمشاركة اللوحتين في المزاد.
اللوحتان مصدر الشكاوى «الكثيرة» هما «الملثّم» التي تُظهر رجلاً يغطي وجهه بكوفية حمراء زاهية رسمها أيمن بعلبكي عام 2012. والثانية «مجهول» ورسمها بعلبكي بين 2011 و2018 وتصوّر رجلاً يرتدي قناع غاز، مع شريط أحمر حول رأسه تعتليه كلمة «ثائرون» باللغة العربية.
فنانون من لبنان أجابوا على سؤال طرحته «القدس العربي» من وحي هذه الفعلة. والسؤال: هل اُدخل الفن إلى الصراع السياسي وبدأت الحملة ضد رموز التحرر الفلسطيني؟
ميشال روحانا: إنه الخوف من فن أيمن بعلبكي
رئيس جمعية الفنانين اللبنانيين للرسم والنحت ميشال روحانا قال: يؤثر الفن ويتأثر بالمجتمع، إذ يمكن للوحة أو كاريكاتور أو أغنية أو مسرحية أن تغير رأياً. وفي أحيان تأتي كل تلك الفنون نتيجة للتغيير. في الوضع الراهن الذي نعيشه كعرب، لا شك بأثر كبير للفن خاصة مع الانتشار الذي حققته وسائل التواصل الاجتماعي. أن نصرخ وحيدين في بلدنا فلن نلفت الانتباه، بعكس ما هو حاصل في الغرب، حيث يمكن أن تصل الصرخة حتى لو أطلقها عشرة أفراد. ولا شك أن التركيز على الجانب الفني مؤثر جداً في الغرب. فقبل العدوان على غزّة كنا في الجمعية بصدد معرض عن الأرض، وضرورة أن نتيح لها أن تتنفّس.
بالعودة إلى العملين اللذين سُحبا من مزاد دار كريستيز، بات واضحاً مدى تأثير اللوبي الصهيوني على سياسات تلك الدار. خاصة وأن أعمال الفنان اللبناني أيمن بعلبكي باتت عالمية، وبات اسمه معروفاً بشكل واسع. ولو أنجز فنان غير معروف هذين العملين اللذين نتكلم عنهما، لما التفت أحد للأمر. ولا شك بأن منعهما منح صاحبهما مزيداً من الشهرة. كما من حقنا تفسير منعهما على أنه خوف من أيمن بعلبكي كفنان بات له حضوره المؤثر. مع العلم أن حرية التعبير الفنية لا يجب أن تخضع للرقابة أو المقص. يمكننا في هذه المرحلة بالذات، وما تابعناه ونتابعه خلالها من أحداث وتطورات أن نقول بأن ديمقراطية الغرب غضّت الطرف عن المعايير الإنسانية، وضربت بها عرض الحائط. إنما ومع تصاعد الأحداث المؤلمة في غزّة بدأت الآراء بالتبدل.
مارون حكيم: العمل الفني «رمز» يتحدى الآخر «العدو»
وقال الفنان مارون حكيم: بشكل عام إن الأعمال الفنية والأدبية والعلمية وكل أثر خلاّق هو الزمن الفعلي والحقيقي للأحداث. وهو بالتالي يحفر كينونته في ذاكرة التاريخ البشري. وما تبقى من نهر الوقت الهش يتحول كماً من الأرقام والذكريات.
يعكس العمل الفني حركة الفنان الداخلية المتولدة من الطبع، والمزاج، والحلُم، والتخيل، وتأثير الزمان والوقائع. لذا فكل ما ينتجه هذا الفنان يُستحسن أن يكون حصاداً من الانفعالات، والتجارب، والرؤى، والموقف من الحياة والوجود. والوقوف بجانب الخير ونبذ الظلم، والتحريض على الانتفاض والتحرر.
وهذا لا يعني أني أؤيد بالمطلق الفن الملتزم سياسياً أو المؤدلج فكرياً، بل اعتقد بأن للفنان رسالة إنسانية أولاً، وفنية واحترافية ثانياً. فالمواضيع الفنية وحدها لا تصنع جوهر الفن وتألقه.
في الحالة الحاضرة وفي خضم هذا الصراع الوجودي بين مكونات عدائية متناقضة في النظرة إلى الكيان والأرض والدين والموروث الحضاري، يستحيل على أي مثقّف أو فنّان الوقوف على الحياد. فالعمل الفني هنا صار «رمزاً « يتحدّى الآخر «العدو» وينعره في الصميم، وأصبح جزءاً من الصراع الوجودي المستميت. لذلك استبعدت اللوحتان موضوع البحث لأنهما أصبحتا جزءاً من هذا الصراع الوجودي والسياسي. قصد الفنان ذلك أم لا. وبما أن المشرفين والقيمين على مزاد كريستيز، وكما أعتقد، هو تابع لجهات تؤيد العدو، ولأنها مؤسسة تبغي الربح المادي، وتتبع كل الألاعيب والوسائل المشبوهة للوصول إلى ذلك، فلا استبعد إعادة طرح هذين العملين في مزادات أخرى، وفي زمن آخر، للاستفادة من الموجة الدعائية العالية التأثير على مقتنيي الأعمال الفنية، خاصة في العام العربي بغية جني الأرباح الكبيرة.
حسن يتيم: الفن لا ينأى بنفسه هو جزء من معركة الوعي
بدوره لم يعزل الفنان حسن يتيم سحب عملين للفنان أيمن بعلبكي من مزاد كريستيز عن ما يجري على صعيد عالمي من محاولات تمويه الفن بحيث يخدم السياسات الاستعمارية. وبالتالي إقصاء أي موضوع فني يواجه هذا الاستعمار والظلم المتأتي عنه. وأي صورة فنية سواء كانت وردة أو فراشة فهي ذات رسالة في مكانها وزمانها، فكيف الحال بعرض أعمال فنية ذات طابع نضالي، وتحمل بعداً سياسياً ناتجاً عن واقع نعيشه في منطقتنا. ليس للفن أن ينأى بنفسه، بل هو منخرط في معركة الوعي. وهو جزء من الوعي المضاد، وهو بالمرصاد لمحاولات التوعية على حقيقة الصراع في العالم. حرب الإبادة التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزّة وعلى الشعب الفلسطيني منذ ما يقارب الشهرين هزّت ضمير الشعوب في العالم. وبالمقابل هناك أدوات إعلامية وسياسية وتعبوية تقع تحت سيطرة اللوبي الصهيوني وخاصة في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. ما يقوم به الصهاينة في غزة يتّم بدعم من الاستعمار الغربي. نحن في صراع مع هذا الاستعمار في السياسة والعسكر والإعلام والفن كذلك. وليس غريباً على قوى الاستعمار في الغرب أن تعمل لتزييف الحقيقة. مواجهتنا معه تشمل كافة المستويات من صوت وصورة ورأي والفن بكافة وجوهه. بالنهاية لا بد من كي الوعي كي تظهر الحقيقة. الفن لا ينفصل عن الوعي. والحقائق الثابتة والواضحة والصريحة والموضوعية ستصل. وهذا المستعمر الذي زُرع في أرضنا، لا بد من مقاومته. يقاومه الفنان بالصورة، والمقاتل بالبندقية والصحافي بالوعي وكشف الحقيقة. نحن حيال معركة وجودية مع الاستعمار الغربي المتمثل بالصهيونية، معركة تبدأ بالحرف، وتنتقل إلى الصورة والفكر. وليس لنا استثناء الفن، بل انخراطه حاد في هذه المعركة. وهذا ما يقوله أرشيف الفن الفلسطيني منذ ما قبل النكبة حتى الآن. وكل ما يعبّر عن مأساة هذا الشعب موجود بحرارة وقوة. وفيها تاريخ المجازر والحروب وسفك الدماء، وبالوقت نفسه تحمل بندقية المقاومة وصاروخها وحجارتها. إذا فن المقاومة هو حجر الأساس والشاهد على ما يجري في الواقع، وما يمكن أن يحمله من تغيير جذري دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة برمتها.
د. إلهام كلاّب: حرب بالريشة واللون لاستعادة كرامة الأوطان والإنسان
ورداً على سؤال: كيف عبّر الفن على مدى التاريخ عن واقع الشعوب من حروب ومقاومة وتوق للحرية؟ قالت أستاذة تاريخ الفن في الجامعة اللبنانية الدكتورة إلهام كلاّب: منذ بداية التاريخ احتفت الفنون بالمعارك والحروب وغلبة العدو. وبينما كانت تمجّد أبطال الحروب وتحتفي بانتصاراتها، كانت فنون القرن التاسع عشر والعشرين، تستعيد صدى ثورات الشعوب وقرقعة سلاح حربين عالميتين، بإدانة العنف وتصوير المآسي، وإعادة النظر بصورة البطل المنتصر، وإنجاز لوحات قاسية تدين القوي، وتحتفي بالمغلوبين أكثر من تمجيد الغالبين. أذكر منها لوحات غويا ومانيه التي كان لها وقع بيان سياسي، فمُنع عرضها وأخفيت في أقبية القصور. ولوحة غرنيكا الشهيرة لبيكاسو لاقت المصير نفسه، مع قوله «لوحتي ليست للعرض في الصالونات المريحة. لوحتي موقف سياسي».
وأضافت كلاّب: في عالمنا العربي ومع تعرّض الشعوب للتهجير، وللظلم، وللحكم العسكري، وللفوضى والخراب، ومفاجآت الحروب وتهديد الإرهاب، ومع التطور الهائل لطرق العنف وأسلحة العنف، لا يخلو نتاج فنان عربي من لوحة أو منحوتة، تمثّل أو تشجب أو تصرخ، في وجه هذا الواقع سواء في فلسطين أو لبنان أو العراق أو سوريا. نجد نخبة من الفنانين ذوي الشهرة العالمية الذين تطرقوا بإبداع وموهبة وألم إلى مظاهر العنف وقساوة الحروب. يحاربون بالريشة واللون لاستعادة كرامة الإنسان والأوطان.
«القدس العربي»: