فلسطينثقافة وفنون

يسري الغول يُنطق الموتى ويستنطقهم كتبت بديعة زيدان

كتبت بديعة زيدان

يسري الغول يُنطق الموتى ويستنطقهم
كتبت بديعة زيدان:

“أتعرفين يا حبيبتي لماذا لا يحرقون أجسامنا؟ لماذا يدفنونها تحت التراب بلا توابيت؟ لماذا يلبسونها القماش الأبيض بعد غسلها جيّداً؟ لأننا بشرٌ من الدرجة الثانية أو الثالثة، نحن سماد هذه الأرض، نتحلل فتلتصق همومنا وآلامنا بالتراب حتى نصبح وقوداً نقيّاً يستخرجه صانعو التوابيت، يملؤون به طائراتهم ليقتلوا أطفالنا، ثم يدفنونهم من أجل وقود أكثر.. نحن مجرّد وقود يا حبيبتي.. وقود لأي معركة خاسرة”.
هكذا قدّم القاص والروائي الفلسطيني يسري الغول لمجموعته القصصية الأحدث “جون كينيدي يهذي أحياناً”، الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، قبل الحرب الحالية بأشهر، وكأنه ينطق بما يتبادر في أذهان من باتوا تحت التراب بالآلاف، أو ينتظرون تحت الركام، أو في ثلاجات الموتى التي تعطلت في غالبيتها.. نعم لقد أنطق في قصصه المبتكرة شكلاً ومضموناً، الشهداء، أو الموتى، أو القتلى، في مجموعة قصصية يمكن تصنيفها من بين الأهم ليس فلسطينياً بل عربياً في السنوات الأخيرة.
في عشرين قصة، يقدّم الغول سردية مذهلة على درجة عالية من الرقي لجهة اللغة، والفكرة، والتعبير، والتسلسل، والتماسك، وقبلها الفنتازيا الممزوجة بسخرية تأتّت من فرط الوجع، بل إنها شكلت نوعاً من النبوءة لما يحدث، اليوم، في غزة، خاصة لو قُدّر لمن لم يعودوا أحياءً، أن يتحدثوا، ولو قليلاً، كما شخوص “جون كينيدي يهذي أحياناً”.
ومن بين اللافت في قصص هذه المجموعة، تسليم ناصية السرد من هذا لتلك فأخرى وآخر، وهكذا، بحيث يروي كل قصته وأناه، ففي قصّة “بصري اليوم حديد”، يتحدث القاص أو الراوي من داخل ثلاجة الموتى، حيث البرد ينهش جسده والعتمة تحاصره.. “وحدي في هذا المكان منذ عشرة أيام، متجمد لا أقوى على الصراخ أو النداء لفتح كوّة كي أتنفس.. الرجال يدخلون ويخرجون دون أي تعاطف تجاهي، كل ما في الأمر أن أحدهم قال بتقزز: يجب التخلص من هذا العجوز على وجه السرعة”، قبل أن يستعيد حكاياته في المشافي الألمانية، وحول العالم قبلها، وشيء من الحب والعناق والقبلات، متنقلاً بين ماضيه وحاضره المفترض كسارد ميّت، ما يبعث على الدهشة، لصلابة السرد وإلقاء صاحبه القبض عليه دون تكلّف، حيث السلاسة المدروسة رغم قساوة النصوص أحياناً، وما وراءها.
وتتجاوز القصص مرحلة “البرزخ” أو تحط عندها أحياناً، متوغلة أكثر في الذاكرة، حتى ان بعض الرواة يسردون شيئاً من حيواتهم السابقة، وإن كان غالبيتهم يرصدون حكايات موتهم، وما بعدها أو بعيدها، ففي قصّة “عظام نخرة” نرى السارد يتحدث عن سرقة العظام من القبور.. “كان الأمر مفاجئاً للجميع: استيقظوا، فاكتشفوا سرقة بعض عظامهم، وأن عظاماً أخرى لا تنتمي لأجسادهم موجودة داخل القبر، حتى صار كل واحد فيهم يتصارع مع الآخرين من أجل عظمة أو رأس”.
ويستعيد الغول، الذي يحضر باسمه وبعض أوصافه في متون متعددة، شخصيات سياسية وأدبية عالمية بطريقة صادمة، بحيث يعجن الحكايات متجاوزاً بخيالاته الحصارات المتعددة في قطاع غزة، حيث الموت مضاعفاً هذه الأيام، ففي القصة التي باتت عنواناً للمجموعة، أو تحمل المجموعة عنوانها، نرى الزعيم الأميركي الراحل في حادثة اغتيال يتذمر من داخل قبره الضيّق، مشيراً إلى واحد من المجانين أو “الثرثار” كما وصفه، لا يملّ من استفزازه ليبوح بما كتمه “عن الأحياء في بروكلين، وعلاقاتي الفاجرة مع فتيات الليل، وموافقتي على غزو خليج الخنازير، والحروب على غزة، والحرب الأهلية اللبنانية، وغزو العراق، وتفجير ميناء بيروت، والأزمة الروسية الأوكرانية”، وكأنه هنا يُنطق كينيدي بما يدين السياسات الخارجية الأميركية العابثة حد الخراب، وباستمرار، ليس فقط في منطقتنا، بل في العالم كله.
وفي قصة “سلفادور الليندي يلقي خطابه الأخير”، نرى قطعة سردية أخرى مرصعة بما يجعل القارئ خارج أزمنته وأمكنته، فالزعيم التشيلي المنتخب ديمقراطياً، يعترف: “أخبرني قبل قليل روائي فلسطيني مغمور أن السلطات التشيلية قررت إعادة التحقيق في اغتيالي/ انتحاري، وكذلك اغتيال صديقي الشاعر بابلو نيرودا، ولا أعرف إن كان من الواجب أن أنتشي لمثل هذا الخبر أم أزداد تعاسة، خصوصاً بعدما هجرتُ السياسة، وانشغلتُ بكتابة مذكراتي لعشاق الدراما وسينما النجوم”، قبل أن يُنطق نيرودا الحائز على جائزة نوبل في الأدب، في حوارية مع الليندي، يصارحه فيه بأنك “أنت وحدك من يعرف كيف حقنوني بمادة سامة في مستشفى سنتياغو بعد اغتيالك باثني عشر يوماً، كي لا أهاجر إلى المكسيك وأفضح تصرفاتهم”، وقبل أن يواصل خطابه المُفترض: أيها المثقفون المثقلون بالمشاعر الجياشة، إن روح تشي جيفارا، ولوركا، وأسانوما إنجبيرو، وعبد القادر علولة، وغسان كنفاني، وفرج فودة، وباسل الأعرج تناديكم، يجب أن تقفوا في وجه الاستعمار الكولونيالي الذي تقوده الولايات المتحدة بمساعدة “إسرائيل” والأنظمة الشمولية الخائنة، أعلنوا للعالم أن الشاعر ريكاردو نفتالي ريبيس تم اغتياله بلا رحمة، وأن الخائن بينوشيه مسؤول عن الدم الحاصل في تشيلي، وأن انقلابه لن يمر، مهما مرّت الأعوام والسنون”.
“يسقط حكم سوموزا”، هي القصة التي يستعيد الغول من خلالها، وعلى طريقته، شيئاً من حكاية حاكم نيكاراغوا “رجل الولايات المتحدة الجديد” في البلاد، وهو الرئيس الذي اغتيل على يد شاعر يدعى ريغوبيرتو لوبيز بيريز في الحادي والعشرين من أيلول 1956، لينهي حقبة الحاكم السادي زير نساء، ومخترق صفوف الثوار، تمكن من السيطرة على الحكم بمعاونة الجنرالات الآخرين، و”هذا بالضبط ما جعل الدولة ميراث أبنائه المجرمين”.
ولابد لقارئ المجموعة أن يتوقف أمام قصة “ماركيز يصفق بحرارة”، فزوجة السارد التي وصفها بالمتبرمة تطالبه بالتواصل مع جابرييل غارسيا ماركيز ليعيد النظر في قصته “أحداث موت معلن”، لكون النهاية لم ترقها، فهي لا ترغب بموت البطل، ولذا يتوجه تحت إلحاحها إلى المقهى المفترض، حيث كان بابلو نيرودا يتغنى بفتاة تشبه شيرين أبو عاقلة، أو ربما تكون هي، بينما يحتسي هتلر النبيذ في الزاوية ويدندن أغنية للفرنسية أديث بياف، التي اشتهرت بالغناء في الحانات والملاهي، بينما يواصل ديغول الشتائم للاحتلال النازي الذي سرق الأغنية، فيما كان ماركيز كما القاص وحدهما من يتأملان فوكتر، وبورخيس، وبلزاك، وغيرهم.
ويدور حوار بين السارد وماركيز في برزخه، ليستهجن الأخير ليس فقط اقتحام خلوته، بل محاولة الأول نقاشه في رواياته، محاولاً إحالته إلى فوكنر، الذي يجلس في طاولة مع رفاقه المصريين رضوى وسعيد الكفراوي ومحمد البسطامي، قبل أن يغمض صاحب “الحب في زمن الكوليرا” عينيه، وتطفر دمعة على خده، مخاطباً السارد: كان يمكنك الحديث عن شيرين التي تشكو للشعراء والكتاب من رصاصة سرقتها وجاءت بها إلينا قبل أسابيع.. كان يمكنك احترام الموت قليلاً، والتمعن في وجوه الضيوف الجدد من العجائز والأطفال في جنين ونابلس.
ماركيز الذي لا تروق له فكرة السماح “لمغمور غبي” إعادة صياغة الحكايات بالشكل الذي يريد، ينصح السارد الفلسطيني محاوره، بأن يكتب عن شيرين أبو عاقلة “قصة سريالية أو تجريدية لفتاة تشبه الملائكة ستضرب بلفور بالحذاء بعد قليل أمام بيكاسو ودافنتشي وناجي العلي”، مضيفاً: “جلستْ معي شيرين قبل يومين، حرضتها على ذلك، لا بد من الثورة في وجه الطغاة”، كاشفاً: “منذ بداية الانتفاضة وأنا معكم أيها الصبي، ياسر عرفات صديقي، تناولنا الغداء مرات عدّة وضحكنا، التقطنا الصور في الخنادق والثكنات”، وحين سأله الفلسطيني عن عرفات، ولماذا يغيب عن برزخهم في المقهى المفترض، أجاب ماركيز بأنه “كان هنا منذ ساعة تقريباً، أظنه ذهب ليخلد إلى النوم، بعد وليمة غداء صنعتها سميرة عزام”.
ويحاور الغول، أو من يتقمصه سردياً جيفارا في قصته “الأرشيدوق تشي جيفارا”، ليؤكد الثائر الأرجنتيني مجدداً: كيف يمكن لطالب من طبقة متوسطة يعيش القهر أن يترك البندقية؟ وكيف وقد تعالى أبناء الطبقة الأرستقراطية في بيونس آيرس على الطلبة؟ يعذبون رفاقي في الكلية ثم يركبون جيباتهم المرسيدس، يلبسون نظارات ريبان الفاخرة كأن شيئاً لم يحدث؟ كيف لمصاب بالربو مثلي أن يترك المرضى الذين قصفتهم طائرات الـ”ف 35” في مخيم الشاطئ بلا حماية؟ لماذا درست الطب، إذاً؟
وفي قصص يسري الغول هذه، نجد سرداً حول أهل غزة غير الناجين، وكأنه يحاكي الواقع المتواصل الآن، فهذا رجل يبلغ من العمر واحداً وأربعين عاماً، فقد طفلين في واقعتين مختلفتين، أحدهما بترت قدمه عند الحدود، وظل ينزف حتى انطفأ ومات، بينما أصيب الثاني بالسرطان لأن الفسفور الأبيض سرق إكسير الحياة، والمعضلة أنه لم يجد علاجاً لابنه، لأن غزة بلا دواء.
وهو ما ينسحب على حكاية مرأة تزوجت رجلاً “لا يشبه أحداً في المخيم”، وأنجبت جيشاً من الفقراء، وظلت تعاني حروباً ونزاعات، رغم قدراتها الخارقة التي تميزها عن جاراتها اللواتي لا يعرفن شيئاً من فنون الغزل، لذا قررت التواصل مع شقيقتها في السويد، لتخبرها عن رغبتها بالهجرة إلى أي مكان في أوروبا، والفرار من المجهول، لأن “الموت يخطف الأرواح كلعبة سمجة”، قبل أن يرصد تداعيات انتشار خبر بأن “لا أحلام في الأرض اليباب”، وبأن الأحلام ماتت وتوقفت إلى الأبد في البلاد الملأى بـ”حيوات مشبعة بالتيه”، و”قبر حزين”، و”هذيان”، فهذا الذي يتابع حكايات المارين على جثته، يؤكد: سأحيا كلما مررت بجوار معهد الموسيقى في مدينتي التي لا تعرف السلام، حيّ لأن فتاة المعهد تغني في شرفتها المطلة على قبري، وأنا برفقة المحتجزين تحت التراب نغني في جوقة أمام أسياد السماء، حي وأنا أهتف شغفاً: “نموت نموت وتحيا الفتاة، نموت نموت وتحيا الحياة، نموت نموت ويحيا الوطن”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب