أثر بعد عين: شلومو أفنيري والتمركس الصهيوني

أثر بعد عين: شلومو أفنيري والتمركس الصهيوني
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
مع رحيل شلومو أفنيري (1933-2023) فإنّ الفكر الصهيوني المعاصر يطوي صفحة أُريد لها أن تكون منفردة ومتميزة، بمعنى التمايز عن سواها؛ وشهدت مساعٍ (محمومة مراراً، كما يتوجب القول) لمصالحة كارل ماركس وفردريك هيغل مع النزعات القوموية الصهيونية إجمالاً، ومشروع الدولة اليهودية كما اقترحه وطوّره تيودور هرتزل خصوصاً. المأزق التكويني كان، مع ذلك، قائماً منذ البدء، وترسّخ عقداً بعد آخر في عمر الكيان الصهيوني الوليد، وانعطافة إيديولوجية بعد أخرى في معمار التفكير الصهيوني، وتوجّب أن تضمحلّ المساعي ذاتياً في طور؛ أو تتآكل تباعاً تحت معاول تَصَهْيُن يميني متشدد في أطوار أخرى متعاقبة.
وهكذا، حين يُذكر أفنيري اليوم، أو كما ترثيه الجامعة العبرية مثلاً، فإنّ مؤلفاته على غرار «فكر كارل ماركس الاجتماعي والسياسي»، أو «كارل ماركس حول الاستعمار والتحديث» أو «تنويعات الماركسية»، أو «كارل ماركس: الفلسفة والثورة»… فقدت أيّ زخم، فكري أو منهجي، أو جاذبية الحدود الدنيا بالمعنى المبدئي للقراءة والاستقبال؛ مقابل أعمال مثل «صناعة الصهيونية المعاصرة» و«تيودور هرتزل وأساس الدولة اليهودية» أو «إسرائيل والفلسطينيون».
ولم تكن مفارقة، بقدر ما كانت ترجمة بليغة لمنهجية أفنيري الفكرية، وتتويجاً لخياراته السياسية منذ أن انضمّ إلى وزارة الخارجية في عهد إيغال ألون وإسحق رابين؛ أنّ تحليله للانتخابات الإسرائيلية الأخيرة، التي جاءت بالحكومة الأكثر يمينية وفاشية في تاريخ الكيان، فضّل الهروب إلى أمام، فرفع المسؤولية عن انحطاط صهيوني يشمل العقيدة والمؤسسة والمشروع، وألقى بها على عاتق موجات يمينية شملت غالبية الديمقراطيات الغربية، وكان مثاله دونالد ترامب (وليس بنيامين نتنياهو أو إيتمار بن غفير).
كما لم يكن مستغرباً أن يصمت أفنيري عن عمليات الإبادة والعقاب الجماعي وجرائم الحرب والمجازر التي تواصل دولة الاحتلال ارتكابها ضدّ أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة؛ ليس لأنه لا يبادر بين حين وآخر إلى انتقاد الائتلاف الحاكم، على خلفية التعديلات القضائية مثلاً؛ بل أساساً لأنه يضع الفلسطينيين، الشعب قبل السلطة والفصائل، في سلال النقد ذاتها لأنهم اقترفوا إثم… رفض قرار التقسيم سنة 1948!
وحين لا ترثيه جهات أكاديمية، في داخل دولة الاحتلال، فإنّ حقبة انخراط أفنيري في العمل السياسي المباشر لا تنفصل، ويندر أن يتسامح أحد فيفصلها، عن شخصية رئيسه المباشر الوزير ألون: أحد أبرز رجال عصابات الـ«هاغاناه»، وأحد أبرز مؤسسي الـ «بالماخ»، ذراعها العسكري الإرهابيّ الضارب؛ وقائد الجبهة الجنوبية في النقب وإيلات وسيناء، خلال حرب 1948؛ وصاحب خطة السلام الشهيرة التي تحمل اسمه، وتقضي بضمّ الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية، ولكن من دون السماح للجيش الأردني بالانتشار فيها…
ولعلّ نعي أفنيري، ومعه تمركس الصهيونية في شتى أنساق الابتذال، وقع مراراً قبل سنوات طويلة من رحيله مؤخراً؛ حين شاء إيهود باراك (الجنرال «الأكثر أوسمة» في تاريخ دولة الاحتلال، للتذكير) الانشقاق عن حزب العمل؛ وتشكيل حزب جديد باسم «عتسمؤوت»، بذريعة أنّ الحزب الأمّ «انزلق إلى أقصى اليسار»، وأخذ يعتنق «آراء ما بعد حداثية وما بعد صهيونية»؛ وأنّ الحزب الجديد سوف يكون «صهيونياً ديمقراطياً».
وإذْ لاح أنّ انشقاق باراك كان المسمار، الذي انتظره نعش حزب العمل قبل التشييع إلى مقبرة السياسة الإسرائيلية المعاصرة؛ فإنّ مسامير أخرى أظهرت أنّ النعش مسجى لتوّه منذ التحاق شمعون بيريس بصفوف «كاديما»، وهرولة باراك نفسه للانضمام إلى حكومة نتنياهو، واستيلاء يوسي ساريد على حركة «ميرتس» وإفراغها من تسعة أعشار توجهاتها الاجتماعية وردّها إلى أسفل سافلين بصدد يخصّ برامجها حول السلام مع الفلسطينيين…
وهكذا فإنّ تمركس أفنيري، ومعه أيّ فكر صهيوني يزعم التمسّح بالماركسية، بات أقرب إلى أثر بعيد عين؛ أو أدنى وأقلّ، صوب أطياف استيهامات كاذبة خادعة.