التكلفة الاقتصادية لحرب غزة على الدول المجاورة

التكلفة الاقتصادية لحرب غزة على الدول المجاورة
إبراهيم نوار
لم يعد في غزة حقيقة مؤكدة غير مقاومة الموت الذي حصد أرواح ما يقرب من 18 ألف فلسطيني منهم ثمانية آلاف طفل حتى وقت كتابة هذه السطور. إسرائيل لا تسعى لغير الموت، ورسالتها إلى المدنيين الفلسطينيين هناك هي الموت. وهي تقتل مدنيين عزلا، لا حول لهم ولا قوة. لا جدوى إذن للحديث عن مساعدات إنسانية، بعد أن انهارت برامج هذه المساعدات باعتراف المجتمع الدولي. ولا جدوى لمحاولات تضليل العالم عن الطريق الصحيح لإنهاء حرب إسرائيل لإبادة الفلسطينيين إلا بوقف القتال فورا. ليست هناك مناطق آمنة، ليست هناك مستشفيات للعلاج، وليست هناك طرق للنجاة من الموت. هذه هي حرب غزة الآن، ولا بديل عن إنهائها. ومهما كانت قسوة المعاناة في أي مكان على وجه الأرض، فإنها لن تكون مثل معاناة الفلسطينيين فيما هم فيه الآن. ولا توجد وراء الفلسطينيين قوة تساندهم لوقف الإبادة والدمار، وهو ما يحرق أي احتمال للأمل في غد أفضل قريبا، خصوصا وأن الولايات المتحدة التي حشدت قوتها العسكرية لحماية إسرائيل، تقدم لها غطاء سياسيا وعسكريا كافيا لاستمرار الحرب. ومع استمرار الحرب تتعاظم تداعياتها على الأطراف المتحاربة وعلى دول المنطقة ككل، وهو ما قد يؤدي إلى تحول ما تبقى من جهود الإغاثة الإنسانية إلى خارج قطاع غزة، بعد أن انعدمت فرص استمرارها في الداخل، ودراسة إسهام مؤسسات اقتصادية وتمويلية دولية لتقديم المساعدات الاقتصادية للدول المجاورة، خصوصا مصر، من أجل مساعدتها على استيعاب أعداد أكبر من اللاجئين في حال حدوث موجة أو موجات فرار عبر الحدود، هربا من خطر الموت المؤكد بواسطة نيران الحرب الإسرائيلية. ومن ثم فإن صندوق النقد الدولي وهيئة المعونة الأمريكية وصناديق التنمية الخليجية ومؤسسات أخرى مثل بنك الإعمار الأوروبي باتت تستعد لاحتمالات تقديم مساعدات طارئة لدول مثل مصر والأردن ولبنان، في حال تفاقم الأوضاع على الحدود الفلسطينية. هذا التحول في أهداف برامج الإغاثة الإنسانية، من المرجح أن يرتبط أيضا بوضع خطط وبرامج اقتصادية طويلة الأمد لمرحلة ما بعد الحرب، وتأهيل المنطقة ككل لليوم التالي.
تخفيض معدل النمو
من المتوقع أن تترك حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة تداعيات اقتصادية وبشرية كبيرة على الدول المجاورة ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عموما، حسب تقديرات كل من البنك الدولي وصندوق النقد. ونظرا لتضاؤل فرص النمو في العام الحالي عما كانت عليه في العام الماضي، فإن تأثير الحرب سيترك آثارا سلبية مضاعفة على الاقتصاد الإقليمي، الذي من المتوقع أن يحقق بنهاية العام الحالي نموا بنسبة تقل عن ثلث معدل النمو الذي تحقق في العام الماضي. وقال خبراء صندوق النقد الدولي إنهم حاليا بصدد مراجعة تقديرات النمو للعام الحالي، على ضوء ثلاثة متغيرات رئيسية مرتبطة ارتباطا مباشرا بالحرب. المتغير الأول هو طول المدى الزمني للحرب. المتغير الثاني هو مدى كثافة العمليات العسكرية. والمتغير الثالث هو مدى اتساع نطاق الحرب، وما إذا كانت أطراف أخرى ستنضم إلى القوى المتحاربة. ولا تتوقف تكلفة الحرب عند الآثار الاقتصادية فقط، وإنما تشمل أيضا الآثار البشرية الخطيرة المتوقعة في حال تقطيع أوصال قطاع غزة جغرافيا، ومطاردة الفلسطينيين للرحيل، وجعله الخيار الوحيد للنجاة من القتل. ومع أن مصر تتحمل نصيبا كبيرا من الأعباء الاقتصادية والبشرية الناتجة عن الحرب، فإننا لم نشهد حتى الآن موجة هجرة بشرية فلسطينية عبر الحدود.
وكان صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر بمناسبة اجتماعات دورة الخريف المشتركة مع البنك الدولي قد ذكر أن النمو الاقتصادي المتوقع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيبلغ حوالي 2 في المئة في نهاية العام الحالي، مقارنة بمعدل نمو بلغ 5.6 في المئة في العام الماضي. وعلى الرغم من تفاوت معدلات النمو بين دول المنطقة حسب طبيعة اقتصاد كل منها، فإن استمرار الحرب، التي دخلت شهرها الثالث، من المرجح أن يعمق تأثير تداعياتها السلبية على النمو، خصوصا وأن كل الدول المجاورة لفلسطين وإسرائيل (مصر والأردن ولبنان) هي دول ذات اقتصاد ضعيف نسبيا، يعتمد إلى حد كبير على تصدير العمل والسياحة. ويمثل دخل السياحة ما يتراوح بين 35 في المئة إلى 50 في المئة من الحصيلة الكلية لصادرات السلع والخدمات في كل من مصر والأردن ولبنان. وتدل مؤشرات الحرب منذ بدأت على أن قطاع السياحة هو أكثر القطاعات تأثرا بالحرب إلى جانب قطاعات أخرى مثل النقل والتجارة. ففي لبنان على سبيل المثال انخفضت نسبة الإشغال في الفنادق إلى ما يقرب من 45 في المئة في الشهر الأول من الحرب، مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي. هذا يعني أن لبنان يمكن أن يتعرض لأضرار فادحة إذا اتسع نطاق الاشتباكات الحدودية في الجنوب عبر الحدود الإسرائيلية إلى العاصمة بيروت أو المدن الرئيسية الأخرى، وهو ما سيؤدي إلى حالة من عدم اليقين بشأن فرص النمو حتى نهاية العام الحالي على الأقل.
تأثير هامشي على الاستثمار والنفط
ولاحظ صندوق النقد الدولي أن تأثير الحرب على أسواق الطاقة في العالم والأسواق المالية في المنطقة كان محدودا ومؤقتا. ومن أهم المؤشرات في أسواق الطاقة أن أسعار النفط الخام والغاز المسال قد ارتفعت بسرعة مع بداية الحرب، خشية أن يتم استخدام النفط سلاحا للضغط على حلفاء إسرائيل في الدول الصناعية. لكن الأسعار لم تلبث أن تراجعت بسرعة لتعود الآن إلى مستويات أقل من تلك التي كانت عليها قبل انفجار العمليات القتالية في غزة، حيث هبطت أسعار النفط إلى ما دون 80 دولار للبرميل في حين هبطت أسعار الغاز المسال في أوروبا إلى ما دون 13 دولار للمليون وحدة حرارية بريطانية. وتعكس أسعار الغاز المسال على وجه التحديد تأثير الحرب على الإمدادات إلى أوروبا. ورغم أن الأسعار في الوقت الحالي تعادل أقل من ثلث ما كانت عليه في هذا الوقت من العام الماضي، إلا أنها ما تزال فوق المستوى الذي كانت قد هبطت إليه في الأيام السابقة لانفجار القتال في غزة.
الملاحة في البحر الأحمر
تصعيد الحرب وامتدادها إلى البحر الأحمر يمكن أن يتسبب في ارتفاع تكاليف النقل وانخفاض معدل نمو التجارة العابرة، ومن ثم خسارة كبيرة لإيرادات عبور السفن في قناة السويس، التي يمر من خلالها حوالي 12 في المئة من التجارة العالمية، بما في ذلك 5 في المئة من تجارة النفط الخام و 8 في المئة من تجارة الغاز المسال، و10 في المئة من تجارة الوقود والمشتقات النفطية وما يعادل 30 في المئة من التجارة العالمية المنقولة بواسطة سفن الحاويات. وقد أدى التصعيد في البحر الأحمر من خلال عمليات بحرية وجوية قامت بها حكومة أنصار الله في اليمن إلى ارتفاع صاروخي في تكلفة التأمين على السفن العابرة للبحر الأحمر شمالا إلى قناة السويس والبحر الأبيض المتوسط، وجنوبا إلى باب المندب وشمال المحيط الهندي. وبسبب ارتفاع تكلفة التأمين على المخاطر بنسب وصلت إلى ألف في المئة (على السفن نفسها وعلى الحمولات) فإن بعض شركات النقل البحري تحولت عن البحر الأحمر إلى استخدام طريق آخر. ومن المتوقع أن يسبب ذلك أضرارا اقتصادية في الأجل القصير لقناة السويس، نتيجة الميل لتحول السفن إلى مسار آخر حتى إذا كان أطول، خصوصا مع انخفاض أسعار الوقود. وذلك نظرا لأن تفضيل طريق قناة السويس يزيد مع ارتفاع تكلفة الوقود، حيث أن قصر المسافة بين المحيط الهندي والبحر المتوسط عن طريق قناة السويس يحقق وفرا كبيرا في تكلفة الوقود للسفن العابرة.
ورغم ذلك فإن بيانات هيىة قناة السويس تخالف تماما هذه التوقعات. وطبقا لبيان أصدرته الهيئة في نهاية الشهر الماضي، فقد القناة حققت أعلى إيرادات في تاريخها لمثل هذا الشهر بقيمة 854.7 مليون دولار، بزيادة سنوية بلغت نسبتها 20.3 في المئة. وتضمن بيان الهيئة أن القناة سجلت أيضا أكبر حمولة صافية شهرية قدرها 135.5 مليون طن، بارتفاع 8.2 في المئة على أساس سنوي، فيما زاد عدد السفن العابرة للقناة بنسبة 4.3 في المئة إلى 2264 سفينة في الاتجاهين، بمتوسط 73 سفينة يوميا. أما بالنسبة للسياحة فلم تصدر بعد أرقام حركة السياحة في الربع الثاني من السنة المالية. ومن الصعب تقدير تأثير الحرب على السياحة. لكن البيانات الصادرة عن الوكلاء السياحيين تشير إلى أن هناك نسبة ليست كبيرة من إلغاء الحجوزات السياحية المسجلة قبل الحرب. وتشير بيانات الحركة السياحية في إسرائيل والضفة الغربية إلى أن موسم السياحة الشتوية في كل من الأردن وفلسطين وإسرائيل ومصر سيتلقى ضربة من الصعب تقدير حجمها الآن.
إمدادات الطاقة الإقليمية
ترتبط إسرائيل مع كل من مصر والأردن باتفاقات لتصدير الغاز الطبيعي، إما لتشغيل محطات الكهرباء المحلية، كما هو الحال مع الأردن، أو لإعادة تصدير الغاز بعد تحويله إلى سائل في معامل الإسالة الموجودة في مصر. كذلك فإن كلا من المملكة الأردنية وإسرائيل كانتا قد اتفقتا من حيث المبدأ على تنفيذ مشروع بمشاركة دولة الإمارات لمبادلة الطاقة الشمسية المنتجة في الأردن بمياه صالحة للاستخدام المنزلي منتجة في محطات تحلية مياه إسرائيلية. وقد تعرضت إمدادات الغاز الطبيعي لقدر من الاضطراب في الأسابيع الأولى من الحرب، لكنها استعادت حاليا المستوى الذي كانت عليه قبلها تقريبا، سواء بالنسبة لتشغيل محطات الكهرباء في الأردن، أو بالنسبة للإمدادات إلى محطات إسالة الغاز في مصر لغرض التصدير إلى أوروبا. وكانت مصر والاتحاد الأوروبي وإسرائيل قد وقعت اتفاقا لتزويد أوروبا بالغاز (المصري- الإسرائيلي) عام 2022 في إطار تخفيف اعتماد أوروبا على الغاز الروسي. وبالنسبة لمشروع مبادلة الماء بالكهرباء بين الأردن والإمارات وإسرائيل الذي كان من المقرر توقيعه في الشهر الماضي، فإن وزير الخارجية الأردني هدد بعدم التوقيع لكنه لم يعلن إلغاء المشروع تماما. ولا يوجد قلق في إسرائيل من التهديد الأردني، على اعتبار أن حاجة الأردن إلى المياه العذبة أكبر من حاجة إسرائيل إلى الطاقة.
ولا يزال من المبكر حصر وتقدير الآثار الاقتصادية المباشرة للحرب، سواء على الأطراف المباشرة أو على الدول المجاورة والمنطقة. ومن الملاحظ أن التقديرات التي صدرت في الأسابيع الأولى من الحرب كانت متحفظة جدا، وقللت من حجم التكلفة الاقتصادية. وقد ظهر ذلك بوضوح بالنسبة لحساب تكلفة الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي حتى نهاية العام الحالي، حيث أن بنك إسرائيل كان يقدر تكلفة الحرب بما يعادل 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. لكن إعادة تقييم تأثير الحرب على القطاعات المختلفة أدى إلى تقدير التكلفة بما يصل إلى 10 أمثال تلك النسبة، أي بحوالي 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وبسبب ذلك فإن الحكومة الإسرائيلية قدمت مشروع قانون إلى الكنيست للموافقة على ميزانية إضافية للحرب تغطي مدة 6 أسابيع فقط بقيمة 30 مليار شيكل، أي ما يعادل 8 مليارات دولار، بمعدل إنفاق إضافي بقيمة 190 مليون دولار يوميا لتمويل نفقات الحرب في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.