
عن ظافر المسالم وحياته التي لم يفهمها

حسن داوود
بطل رواية وجدي الأهدل الأخيرة أتيح له أن يشاهد امرأة عارية وهو في عمر السادسة. كانت قد خرجت من الحمام فزِعة مولولة من الفأر الذي ظهر لها هناك. وعلى الرغم من أنه، هو الطفل، لم يشبع نظره منها إلا لعشر ثوان، طُرد من بعدها شرّ طردة، إلا أن جمال جسدها خطف قلبه خطفا، وهو من اللحظة تلك وقع في غرام كل الإناث.
وقد عرف كثيرات منهن: عبير ونبات وناجية وكفاية وأشجان وطروب، وأخريات عديدات، لكن لم يحالفه الحظّ مع أيّ منهن. دائما كان هناك رجال آخرون يظهرون في اللحظات الأخيرة، ليقطعوا عليه الطريق وهو بعد في أوّلها. لكنه حظِيَ بقليل من النجاح مع بعضهنّ، إلا أن ذلك سرعان ما كان يتلاشى بتخلّي المحبوبات، واحدة إثر الأخرى، أو بموتهنّ نتيجة لأسباب كثيرة. وقد شاعت أخبار فأله السيئ لدى مَن لم يكن قد حصل وقوعه بغرامهنّ بعد، أو لدى من كان يُحتمل ظهورهن في حياته. هكذا بقي دون علاقة غرام. أما ناجية، الأخيرة بينهن، والتي تزوجها، فكانت امرأة منكوبة مبتورة الساق جرّاء قذيفة أطلقت على مكان عملها.
أسباب مختلفة وكثيرة حالت بينه وبينهن. منها مثلا معايرة بعضهن له بضخامة أنفه، منها أيضا أنه في أماكن العمل التي تنقّل بينها كان يتقرّب من كل موظفة، فتعلم الأخريات جميعهن بذلك. ومنها، أيضا، أنه قبِل ذات مرّة بما قامت به زميلة أعلنت خطوبتها عليه دون أن تستشيره، فأبعد ذلك عنه احتمال أن تتقرّب منه الأخريات لرضوخه وقلّة رجولته.
الكتاب يروي، في جانب منه، سيرة ظافر، وهذا اسمه، مع النساء اللواتي كانت لكل قصة من قصصه معهن وقعها المختلِف. فحينا تنتهي العلاقة مع إحداهنّ بما يشبه الخاتمة المضحكة، وحينا بركوب أخرى سفينة مغادرة إلى حيث لا تعلم، كما في فيلم رومانطيقي، وحينا تنتهي العلاقة بما يشبه المأساة. ربما لأنهن كثيرات وهو جاهز على الدوام للمبادرة، أو لقبول المبادرة أو رفضها، مع أي منهن، أي أنه بلا طبع خاص، وهذا ما يبديه كبطل روائي بلا ملامح دائمة.
إنه مختلف في كل من المرّات التي تنقّل فيها بين أعماله، وهذه مختلفة ومتعارضة، فمرة هو ممثل وكاتب سيناريو مسرحي ناجح، لكن يحبطه تدخل المسؤولين الحكوميين لإفشال عروضه، وحينا هو موظف عادي في مصنع لقلي البطاطس وتعليبها (التشيبس). في هذين العملين، أو المكانين، يتعدّى ما نقرأه ما يؤدي إليه اختلاف نوع العمل لنصل إلى أن الشخصية هنا ليست هي نفسها التي قرأنا عنها هناك. وقد يرى من يقرأ الرواية أنها تذهب في اتجاهات قليلة الصلة ببعضها بعضا، كأنها تتألف من موجات درامية متعارضة.. أعني أننا نجد أنفسنا منسجمين مع السياق الفكاهي للأحداث، لكن لنجد أنفسنا، في الصفحات اللاحقة، وقد انتقلنا إلى سوداوية لم نكن نشعر بأن الرواية متجّهة نحوها، مثل أن يتحوّل مركب بانعطافة مفاجئة عن الخط الذي كان يسير فيه، والانعطافات كثيرة، كانت أولاها ما ظنناه، في بداية الرواية من أننا إزاء تاريخ أُسري ومكاني لعائلة يمنية، سيمتدّ ملاحقا الأجيال التي سيكون هو، ظافر، آخرها.
تحوّلات وتبدّلات كثيرة إذن جرت في الرواية التي ابتدأت بسرد تذكّري وانتهت بمشاهد وعوالم سريالية، وإذ يسعى الروائي إلى إدخال تلك السريالية في مجال رمزي، كما حين يصوّر تلك السمكة التي دخلت في أنف امرأة غريقة كدلالة على الانتقام ورفض الحرب، أو حين نقرأ عن تلك الضباع التي تحول أحدها إلى رجل سليم البدن بعد أن كان يعيش على كرسي متحرك، جراء الحرب أيضا، نشعر كما لو أن الرواية أخذت كاتبها إلى حيث لم يكن قد خطّط أو توقّع. ربما هكذا توصف الكتابة الجديدة عادة: أن تستدرج كاتبها وتحاوره وتقترح عليه، بل تقوده في أحيان، لكن هنا، مع تقليب الصفحات، نحسّ أننا نوضع دائما أمام بداية مختلفة للرواية. هي عوالم غريب بعضها عن بعض.. وأزمنة روائية غريب بعضها عن بعض أيضا. هذا ما تفعله الحرب ربما: أن تحوّل بشرها إلى ما لم يخطر لهم أن يصيروا إليه.
رواية وجدي الأهدل «السماء تدخّن السجائر» صدرت عن مؤسسة نوفل في 185 صفحة سنة 2023
كاتب لبناني