ثقافة وفنون

«أوكار الهزيمة»: ولادة العنف في العراق الحديث

«أوكار الهزيمة»: ولادة العنف في العراق الحديث

محمد تركي الربيعو

عادة ما تركز نصوص أدب السجون على حياة السجناء السياسيين وأحوالهم داخل الزنازين، وما عاشوه من قصص من التعذيب لا يصدقها العقل أحيانا. في المقابل هناك بعض النصوص والمذكرات، التي وإن لم تضم تفاصيل متنوعة عن السجون وواقعها في فترة معينة، لكنها وفّرت لنا صورة أوسع، حول السياقات التي ولد فيها عنف السجون في المشرق العربي بعيد الخمسينيات في القرن العشرين، ولماذا غدت أكثر عنفا ومرارة مقارنة بالنصف الأول من القرن نفسه.
ويعد كتاب العراقي البعثي السابق هاني الفكيكي «أوكار الهزيمة» واحداً من أهم هذه النصوص، كونه قدم لنا سردية وتفسيرا للعنف الذي جرى خارج سجون العراق في فترة الستينيات، وكيف انعكس لاحقا على حياة السجن والمعتقلين بمزيد من الوحشية والموت تحت التعذيب، أو الإعدام رميا بالرصاص.
كان الفكيكي (مواليد 1936) قد انتمى في فترة الخمسينيات لحزب البعث العربي الاشتراكي، وكان العراق خلال هذه الفترة يعيش بداية تاريخ من العنف السياسي، وهو ما ظهر من خلال مشهد قتل الملك فيصل الثاني والعائلة الملكية، ولاحقا إعدام عبد الكريم قاسم رميا بالرصاص، دون أن يحظى بأي محاكمة عسكرية، حتى لو كانت صورية، ففي أحد المباني الحكومية، أخذ الفكيكي يراقب من وراء الزجاج عددا من ضباط البعث وهم يطلقون الرصاص على أول رئيس للعراق في الفترة الجمهورية. سيدرك الفكيكي لاحقا أن هذا العنف، مثّل إيذانا بتشكيل أيديولوجية للتعذيب في العراق الحديث، وهي أيديولوجية لم تستوحِ إرثها من المجتمع العراقي القديم بالضرورة، بل من خلال التأثر بأيديولوجيات وثقافة الحرب الباردة. كان الصحافي العراقي يونس بحري قد لاحظ في يومياته في سجن أبو غريب، والتي كتبها عام 1958، أول ملامح هذه المدرسة بعد عدة أيام من الانقلاب الذي قاده عبد الكريم قاسم على الأسرة الحاكمة في العراق في 14 يوليو/ تموز 1958. يومها أخذ جنود الجمهورية الجديدة يسحلون جثة الملك وحاشيته في شوارع بغداد، واتجهوا بعدها ليعبّروا عن هذه الوحشية من خلال اعتقالهم لمئات المسؤولين الحكوميين ووضعهم في السجون. لاحقا جاء البعث بمستويات جديدة من العنف، وهو ما انعكس على واقع السجون في العراق وسوريا أيضا بمزيد من العنف والقهر، وهو عنف يرى الفكيكي أنه لم يوجد بالضرورة في الفترة الملكية في العراق، وأن الذي ولده هي الأفكار الأيديولوجية التي تبناها الشيوعيون والبعثيون، وفي الغالب كانت تدعو إلى إفناء الآخر وتدميره بحجة حماية الفلاحين والشعب والأمة.

أخذ الشيوعيون وبعد قدوم عبد الكريم قاسم، يقودون عمليات قتل جماعي في الشوارع، وبالأخص بعد محاولة الضابط عبد الوهاب الشواف الانقلاب على عبد الكريم قاسم 8 مارس/ آذار 1959، فما كان منهم إلا أن اجتاحوا مدينة الموصل، التي جرت فيها المحاولة، وأخذوا بسحب الرجال والأطفال والنساء من منازلهم وأعدموا وعلقوا على أعمدة الكهرباء. والمفارقة هنا أن هذه المدينة ستعود لتشهد عمليات وأساليب مشابهة في عام 2014 على يد تنظيم «داعش» الذي اجتاح المدينة أيضا وقام باعتقال وقتل العشرات بتهم مختلفة. ومما يذكره الفكيكي هنا أن موضوع الاعتقالات والتعذيب داخل السجون، غدا أمرا متكررا ويوميا في بغداد وباقي المدن العراقية، وهو ما يفسره بسيطرة الشيوعيين ولاحقا البعثيين على السلطة، بينما يشير إلى أنه في فترة العهد الملكي لم تكن للشرطة أو لأجهزة الأمن أي صلاحيات في الدخول إلى البيوت، أو اعتقالهم، إلا بأمر قاضي التحقيق. كذلك كان يحق لأي عراقي استدعاء محام يدافع عنه. لكن استقلال القضاء وسائر مظاهر القانون بدأت تتبخر بعد 1958، وأصبح الاعتقال الكيفي مألوفا، ومداهمة البيوت من قبل لجان «المقاومة الشعبية» أو أجهزة الانضباط العسكري «عملا وطنيا مباركا». بالتوازي مع ذلك، بات التعذيب يتفشى داخل المعتقلات، وتحولت معسكرات الجيش إلى معتقلات جديدة، كمعتقل الهندسة العسكرية في معسكر الرشيد، أو معتقل أبو غريب في معسكر الدبابات، ومعتقل كتيبة الدبابات الثانية في معسكر الرشيد، وهو تحول كان يجري آنذاك أيضا في غالبية دول المشرق العربي، إذ غالبا ما تحولت بعض الثكنات العسكرية إلى سجون، مثلما حدث في سوريا مع سجن المزة في الخمسينيات، أو في القاهرة مع السجن الحربي، كما ينقل لنا ذلك المصري اليهودي ألبير آريه في مذكراته المنشورة قبل فترة وجيزة. وبالتالي نرى أن ما حدث في السجون كان بمثابة صدى لموقف فكري وثقافي/عنفي مارسته قوى ومؤسسات مدنية وحزبية حالفت مؤسسات الدولة واستخدمتها في مشاريعها الخاصة.

قدوم البعث: توسع العنف والسجون

كان البعثيون قد نجحوا في انقلابهم على عبد الكريم قاسم يوم 8 شباط / فبراير 1963. وفي الوقت الذي برروا فيه ما جرى من « أجل مصلحة الشعب» وردا على الانتهاكات التي قادها قاسم والشيوعيون في السجون، رصد لنا الفكيكي كيف قام البعثيون بتأجيج موجة العنف بشكل أكبر في الشارع، إذ أخذت البلاد تشهد حملات إبادة وإعدامات جماعية بحق ضباط شيوعيين، كانت تصفية قاسم والشيوعيين لخصومهم السياسيين واستهتارهم بالقضاء، واستخدام المحاكم العسكرية تحت شعار «إعدم.. إعدم، جيش وشعب يحميك، إعدم.. لا تقول ما عندي وقت إعدمهم الليلة» قد فتحت الباب أيضا أمام تطوير لفكرة الإعدام العسكري، ولذلك لم يكن غريبا أن يصدر البعثيون قرارا فوريا بإعدام قاسم بعد استسلامه وتسليم نفسه للانقلابيين. وفورا أذيع بيان تنفيذ حكم الإعدام، وظهرت جثة قاسم ورفاقه على شاشة التلفزيون.

صورة من قصر الرحاب عقب مقتل الأسرة الملكية في العراق 1958

يسجل لنا الفكيكي هنا جزءا من ذاكرة تعذيب الشيوعيين على يد البعثيين، ومما يذكره قيام أحد المسؤولين في معتقل «قصر النهاية» الذي عرف سابقا بقصر الرحاب، واستخدم مقرا للأسرة الملكية الحاكمة، بتسليم أكثر من عشرين معتقلا، دون أي أمر رسمي، إلى زمرة من الضباط البعثيين وغير البعثيين، حيث نفذوا فيهم حكم الإعدام، وحين علمت قيادة الحزب بذلك اعتبرتها جريمة قتل عادية، وحاولت اعتقال المسؤولين وتقديمهم إلى المحاكمة، إلا أنها اصطدمت بمعارضة شديدة من حسن البكر وبعض البعثيين، كما عين أحد المسؤولين عن تلك الحادثة ملحقا عسكريا. وبسبب هذه البدائية في التعذيب والقتل الكيفي خيم على حياة المعتقلين شعور عميق بالهلع والقلق، كما يذكر في هذا السياق أسماء بعض ممن قتلوا تحت التعذيب مثل الطبيب البغدادي محمد الجلبي، وهو شيوعي، وعمل رئيسا لدائرة صحة بغداد بعد انقلاب عبد الكريم قاسم. ومما يذكره تحسين معلة (القيادي في حزب البعث آنذاك) والذي أشرف على معالجة المعتقلين في هذه الفترة، أنه في واحدة من زياراته شاهد الجلبي ممدا على الأرض وهو يشكو من آلام التعذيب وأجواء المعتقل ومعاملة السجانين. يأتي الفكيكي على ذكر قصة أخرى عرفت بـ(حادثة قطار الموت) فعند الساعة الثالثة من فجر الثالث من تموز/ يوليو 1963، أيقظه حارس البناء الذي يقطن فيه ليعلمه بسماع إطلاق نار كثيف من جهة معسكر الرشيد، وعند وصوله للسجن أعلم بسيطرة الشيوعيين على السجن واعتقال عدد من قيادات البعث كرهائن، وأمام هذا الواقع، لم يحاول البعثيون التفاوض مع الشيوعيين، بل استدعوا الدبابات التي اقتحمت السجن، وعلى إثرها أخذ قرار بإعدام 450 ضابطا عملوا مع عبد الكريم قاسم والشيوعيين، ولتبرر القيادة هذا القرار أخذت تنشر وريقات حول صدور فتاوى من رجال دين سنة وشيعة بجواز قتل الشيوعيين! وأمام إصرار البكر على إعدامهم، تقرر تهريب الضباط إلى سجن نقرة السلمان، وتمت تهيئة ما توفر من عربات السكك الحديدية، وبسبب الحر الشديد وقلة الماء وصعوبة التنفس توفي أحد المعتقلين. وعلى الرغم من نجاة بعض المعتقلين لاحقا من حياة هذا السجن، إلا أن قطار الموت العراقي، ظل يسير بين المدن العراقية، ناقلا قصصاً وذكريات مؤلمة عن الموت والسجون والخوف في سجون البعث والقوات الأمريكية والميليشيات العراقية و»داعش» وعن مسار العنف في العراق، والذي يبدو أن رحلته ما تزال طويلة.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب