ثقافة وفنون

نابليون في غزة: كيف أسقط اليهود السلطنة العثمانية؟

نابليون في غزة: كيف أسقط اليهود السلطنة العثمانية؟

حسام الدين محمد

في غزة، التي دخلها عام 1799، أثناء حملته العسكرية على فلسطين بعد مصر، سيطلق نابليون بونابرت، امبراطور الثورة الفرنسية الأشهر، نداء إلى يهود الشرق يطالبهم فيه بالانضمام إلى جيشه، ويعدهم، قبل اللورد البريطاني بلفور، بمئة وثماني عشرة سنة، بإنشاء دولة لهم في فلسطين، مكافأة لهم على مشاركتهم في مجهوده الحربي.
كان ذلك ضمن الجهود الغربية للتغلغل في فلسطين، وكان على مشروع كهذا، كما يقول إيلان هاليفي، في كتابه «المسألة اليهودية: القبيلة، الشريعة، المكان»، أن يستخدم كل الاتجاهات المحلية المهيأة: الطبقات ذات الامتيازات والمستعدة لأن تغير توجهها في دور «السماسرة»، وأقليات دينية أو قبلية ميّالة إلى الاعتماد على الأجنبي لتعديل التوازن بين الطوائف الأخرى لصالحها.
كان صهاينة منعطف القرن التاسع عشر قد وعدوا باستمرار، مخاطبيهم الأوروبيين، بإمكانية استخدام الاستيطان اليهودي. غير أن هذه الوظيفة الأساسية للحصول على دعم القوى الغربية للمشروع الصهيوني، كما يؤكد هاليفي، ليست الأداة وإنما الغاية. لأن المقصود بالنسبة للصهاينة، كما كان ينبغي على التاريخ أن يثبت، لم يكن تبديل المجتمع الفلسطيني، وإنما اغتصاب مكانه وإقليمه «بإعادته إلى الصحراء». نشر أرنست لاهاران، مرافق نابليون الثالث عام 1860 كتيبا عنوانه: المسألة الشرقية الجديدة: امبراطوريتا مصر والجزيرة العربية، إعادة إنشاء القومية اليهودية». كان هناك لغز تمثله الدولة العثمانية ويعترض توسع بريطانيا وفرنسا، وكان السؤال هو: كيف يمكن التعجيل بتحليل هذا الجسد الكبير والتعاون على إعادة تركيب ذراته في نظام يتلاءم والضرورات الجديدة للحرية البورجوازية والصناعة؟ رغم أن نداء بونابرت توجه إلى يهود الشرق، أخذا في اعتباره وجود مجمع يهودي في فلسطين، ومجمعات يهودية في أنحاء الإمبراطورية العثمانية، فإن يهود أوروبا هم الذين سيكون لهم الدور الأكبر في المساهمة بتفكيك السلطنة، مع ظهور الصهيونية السياسية في رؤية الصحافي النمساوي ثيودور هرتزل لـ«دولة اليهود» عام 1896، ومؤتمر بازل عام 1897، لتثبّت علاقة هذه الحركة مع القوى العظمى، وليتم العمل على حاجتين أوروبيتين: التخلّص من يهود القارة، والهيمنة على الشرق، بتأسيس دولة يسيطرون عليها في فلسطين.

إنكلترا تحمي اليهود من المسيحيين!

سيدوم احتضار «رجل أوروبا المريض» أكثر من قرن، وسنشهد آثارا أدبية وسياسية أوروبية كثيرة تروّج له وتدعو لتحقيقه ومنها «عن بعث اليهود»، لجيمس بيشينو، الذي نُشر في لندن عام 1800، و»من أجل محاربة الأحكام المسبقة المتعلقة بالأمة اليهودية»، لتوماس ويذربي عام 1804، و«الأغاني العبرية» لبايرون (1815)، ورواية «دانيال ديروندا» لجورج أيلوميت (1876)، ومطالبة لورد هافتسبروي عام 1838 بزرع «مؤسسة يهودية تضمنها القوى العظمى» في فلسطين، وتعليمات بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا، لقنصليته في القدس بـ«حماية اليهود» عام 1839، وإرسال إنكلترا بعثة إلى دمشق لحمايتهم من المسيحيين عام 1860.
بدأ الزمن العثماني يتفكك، مع استسلامات الباب العالي المتلاحقة للقوى الغربية، عبر إسباغ الأخيرة حماياتها على ما تختاره من أديان وطوائف. كان تطبيق «الحماية القنصلية» يقضي باستثناء مواطن أو فئة من المواطنين العثمانيين من سلطة محاكم الإمبراطورية، وقد شاركت كل الدول الأوروبية في بسط حمايتها على الطوائف التي تختارها. كان العامل الثاني هو الإعصار النابليوني، الذي اجتاح مصر وفلسطين، ثم احتل ولاية الجزائر (1830)، فيما كانت بريطانيا تنصب رأس جسر لجيوشها نحو الهند في جنوب الجزيرة العربية (1839).
حتى عام 1850 كان المسيحيون في البلقان، وليس اليهود، يشكلون، كما يشير هاليفي، موضوع اهتمام الدول الأوروبية، في ما يخص تصفية ممالك «الرجل المريض» العثماني، وقد تكفلت بذلك موجة الثورات «القومية الديمقراطية» عام 1848، التي ربطت رومانسية التحرر البورجوازي بالمخيال الرمزي للحروب الصليبية. ستحرّك قصص اغتصاب جنود مسلمين لفتيات يونانيات أعماق أوروبا، التي ستكتشف أن «الامبريالية المحرِّرة والتقدمية، هي مرحلة عليا للمسيحية».

تظهر الاشتباكات بين طوائف الشرق في تلك الحقبة، علاقة أيضا، باستراتيجيات نزع العثمانية من باب نشوبها، نتيجة اختلال توازن القوى بينها بفضل تدخل القوى الغربية المباشر، أو غير المباشر، وبما أن النظام القديم كان يرتكز على توازن تعدد «الملل» المحمية من قبل الدولة، فإن العمل على تغيير ذلك التوازن سيعجّل بالقضاء على النظام.

الجنرال فرحي يقاتل إمبراطور فرنسا

تظهر الاشتباكات بين طوائف الشرق في تلك الحقبة، علاقة أيضا، باستراتيجيات نزع العثمانية من باب نشوبها، نتيجة اختلال توازن القوى بينها بفضل تدخل القوى الغربية المباشر، أو غير المباشر، وبما أن النظام القديم كان يرتكز على توازن تعدد «الملل» المحمية من قبل الدولة، فإن العمل على تغيير ذلك التوازن سيعجّل بالقضاء على النظام.
هجّر الصليبيون اليهود من القدس، وأعادهم صلاح الدين الأيوبي. في عام 1855 وبعد 668 عاما من تلك الواقعة، لم يكن عدد أعضاء المجتمع اليهودي في فلسطين يزيد عن عشرة آلاف نسمة، الذي ارتفع عام 1882، إثر موجة هجرة من جمعية «عشاق صهيون» الروسية إلى 24 ألفا (قرابة 6% من عدد سكان فلسطين آنذاك). مع عام 1929 سيبدأ يهود فلسطين القدماء بمغادرة بيوتهم وأحيائهم لـ»الاحتماء» بالمستوطنات التي أقامها المهاجرون الصهاينة الآتون من أوروبا. لم يقدم هذا النزوح مكانا «مميزا» ليهود فلسطين الذين أصبحوا «مادة للاحتقار الاستيطاني لدى أغلبية المهاجرين الأوروبيين». حصل أسوأ من ذلك لليهود اليمنيين الذين شكّلوا تجمع المهاجرين الشرقيين الأكبر قبل 1948، حيث أصبحوا مادة للاستغلال والعنصرية، ورفض يهود المستوطنات الاختلاط بهم أو السماح لهم بالسكن داخلها. يفنّد هاليفي خرافتين: الأولى دعوى التمثل الكامل لليهود كافة في كل التجمعات العربية، والثانية ادعاء وجود اضطهاد دائم لليهود في ظل الإسلام. يورد الكاتب حوادث تظهر المفارقات التي تفكك هاتين الخرافتين، مثل تصويره للعصر الذهبي للتكافل الإسلامي اليهودي في الأندلس، وإشارته إلى أن اليهود كانوا ممنوعين من حيازة السلاح في المجتمعات الإسلامية، غير أن قائد القوات التركية التي قاومت نابليون بونابرت في مصر، كان الجنرال فرحي، اليهودي، ومثل اختباء ابن خلدون، العلامة المسلم، من السلطات في مراكش عند عالم رياضيات يهودي هو خلوف المجهبلي.
يشير المؤلف إلى ارتياح الصهاينة طوال ثلاثينيات القرن العشرين من تصاعد الفاشية ونزعة العداء للسامية في أوروبا. حول هذه العلاقة المثيرة يورد تصريح هرتزل الشهير الذي يقول: «إن الشعب اليهودي لم يتألم بما فيه الكفاية وينبغي أن يكون مهانا أكثر ومذبوحا لكي يكون ناضجا من أجل الفكرة»، كما ينوّه بوجود اتفاق ترحيل بين الوكالة اليهودية والرايخ لـ«تسهيل هجرة اليهود الألمان إلى فلسطين»، كما يورد أطروحة أستاذ في جامعة أورشليم تنقل نشرة للبوليس النازي يسمح لأعضاء حركة بيتار بالاجتماع سرا، وبارتداء البزات الرسمية لحركتهم، وسعي منظمة شتيرن للتحالف مع النازيين عام 1942، رغم عمليات الإبادة التي كانت جارية ضد اليهود، وكذلك واقعة المفاوضات بين النازيين والصهاينة في هنغاريا حول مبدأ: «يهود مقابل شاحنات».
بوصولها إلى فلسطين العثمانية سنة 1860، ستلتقي صهيونية يهود أوروبا، بصهيونية بونابرت ونابليون الثالث، وستنجح في إنجاز حيّزها من مهمّة تفكيك «المسألة العثمانية»، لكنّ هذا سيجعلها وجها لوجه مع «المسألة الفلسطينية»، وكما بدأنا مع بونابرت في غزة، تعود بنا الدائرة إليها مجددا، ومع دعوات بن غفير وسموتريتش لتهجير الفلسطينيين نتذكر ما قاله هرتزل عام 1897: «سنحاول حث السكان البؤساء على اجتياز الحدود بتدبير عمل لهم في البلدان التي يهاجرون إليها مع رفض أي عمل لهم في بلدنا»!

كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب