ثقافة وفنون

قصديّة الخطاب لدى الرسام العراقي ضياء العزاوي: الشكل بوصفه الجملة الأولى

قصديّة الخطاب لدى الرسام العراقي ضياء العزاوي: الشكل بوصفه الجملة الأولى

مروان ياسين الدليمي

ليست لوحاته مجرّد مشاهد بصرية، بل هي خطاب، أو بالأحرى، نظام دلاليّ مُعقّد، حيث يتحوّل الخط العربي إلى لغة ثانية، والزخرفة الإسلامية إلى استعارة لحالة وجودية. ضياء لا يرسم لوحات، بل يكتبها، لا بالأحرف، بل بتوتر اللون، بانكسار الخطّ، بارتجاف الشكل. على الرغم من أن العزاوي ولد في بغداد، لكن ولادته الحقيقية كانت في التمزق. منذ البدء، لا يمارس هذا الفنان الطقوس الشكلية للرسم بل يُعيد تشكيل العالم كمن يبحث عن ضالته في العتمة. فهو، مثل الكاتب، يعرف أن الهوية لا تُورث بل تُخترع. عنده، بغداد ليست جغرافيا، بل ضرب من الحنين الممزّق.
لا نستطيع قراءة تجربة العزاوي من دون أن ننصت إلى صمت الخط. هنا، لا يعود الحرف مجرّد وسيط لغوي، بل هو كائن بصري يئنّ ويتمرّد. فالحرف العربي في أعماله لا يُقرأ، بل يُلمَس، يُقاوِم، يتنفس. إنّه ليس كلمة، بل جسدا مشطورا بين المعنى والصورة. في هذا التوظيف للخط، لا يبحث العزاوي عن “جماليات” الشرق، بل عن عنف الرموز، عن لحظة الارتطام بين الدال والمدلول. الخط الكوفي يتلوى، يمتد، ينكسر، ويتحوّل إلى أثر، إلى ضرب من الحنين. هنا، نكون إزاء كتابة بلا أبجدية، رسم بلا موضوع، لغة بلا مرجع.

الزخرفة: لا أزهار بل متاهات

الزخرفة الإسلامية في أعماله ليست تكراراً زخرفياً بل طيفاً لفكرة مستحيلة: النظام داخل الفوضى، ليست هندسة زخرفية بل محاولة لترويض الهشاشة. فالتكرار عنده ليس دليلاً على الثبات، بل على الهشاشة. مثل بروست الذي يبحث عن الزمن في رائحة، يبحث العزاوي عن هوية في تموّج خطّ أو تكرار نمط. هو لا يقتبس الزخرفة بل “يُخطئها” عمدًا، يُعيد كتابتها بحساسية مأزومة، كأنما يريد أن يقول إن الجمال الإسلامي لا يُستعاد، بل يُرتكب من جديد.
العزاوي ليس فنانًا، بل كاتب ذاكرة جماعية. حين يرسم مجزرة صبرا وشاتيلا لا يصوّرها، بل يصرخ بها. اللوحة ليست تمثيلاً بل احتجاجا، اللون القاتم لا يصف الجريمة بل يشارك فيها بوصفها جرحاً مفتوحاً. في أعماله، لا نرى وجوهاً، بل بقايا أصوات، لا تفاصيل، بل جروح. هناك عنفٌ مضمر، لا على الجسد فقط، بل على اللغة، على الصورة نفسها. هنا، ينسف الفنان التمييز الكلاسيكي بين الجمالي والسياسي، ليقيم بدلًا منه فضاءً مشوّشًا، حيث الجمال هو الألم الذي لا يُحتمل.

المادة كذاكرة

أليس من الغريب أن يتحوّل الخشب إلى نَص، والمعدن إلى تأوّه؟ العزاوي لا يكتفي بالقماش، بل يغوص في ماديات الأشياء: الطباعة، النحت، الكتاب، الحفر، لا لأنّه يسعى إلى التنويع، بل لأن كل وسيط يحمل ذاكرته الخاصة، كل مادة عنده هي ترابُ مقبرة، غبار مدينة مهدّمة، لا يهم الشكل بقدر ما يهم الأثر، لا يهم الجمال بل أثر الفقدان.
هل يمكن للوحة أن تبقى وفية للتراث بدون أن تتحوّل إلى خطاب ماضوي؟ سؤالٌ مؤلم في تجربة العزاوي. البعض يرى أن أعماله تنزلق أحيانًا نحو تكرار رمزي، وأن الحرف، بكل عبقريته، قد يغلق الدائرة على العالم العربي بدل أن يفتحها على الكوني. وربما، في لحظة ما، تضعف اللوحة أمام رسالتها، فيسود “ما يُقال” على “كيف يُقال”. هنا، تنشأ المفارقة: حين تكون اللوحة حاملةً لعبء السياسة، قد تفقد خفتها الشعرية.
ضياء العزاوي لا يُرينا العالم بل يكتبه، ليس كرسام بل كمن يُنتج نصًا بصريًا لا يُقرأ، بل يُعاش، يُحدّق فيه، يُسائل، يُخيف أحيانًا. تجربته ليست في الفن فقط، بل في تحويل اللوحة إلى مكان تُطرح فيه الأسئلة لا تُجاب. هناك، في تداخل الخطوط، في صراخ الألوان، في توتر الحروف، يولد النصّ، ويولد العزاوي ككاتب لا يملك لغة واحدة، بل لغاتٍ تتقاتل داخل إطار واحد، هو رسام لا يرسم بل يكتب العالم كمن يودّ تدميره ليعيد اختراعه.
من الادراك الحسي إلى المتخيل

هيمنة الشكل في لوحات ضياء العزاوي لا تُقاس بالعين، بل تُقرأ كما تُقرأ الجملة المتلعثمة في نصّ شعريٍ لا يكتمل، كما لو أنّ الشكل عنده ليس غاية بصرية، بل عقدة لغوية تتهيّأ لتتكلم. الشكل عند العزاوي ليس إطارًا لما يُقال، بل هو ما يُقال. هو الجملة الأولى في خطاب اللوحة، لكنه أيضًا صداه، تردده، انكساره على سطح المعنى. الشكل ليس ما يُرى، بل ما يُحسّ به وهو ينسحب من الإدراك الحسيّ إلى المتخيّل.
حين يرسم العزاوي، لا يملأ فراغ اللوحة، بل يفتح فراغًا داخل الامتلاء، كأنّ الشكل هنا ثقب في الجدار لا يُفضي إلى شيء، بل يُفضي إلى غيابه. الأشكال تتناسل لا لتتكاثر، بل لتكثّف: دوائر، حروف، كتل هندسية، لا تطمح إلى التشخيص بل إلى التأويل، كأنّها شظايا نصّ مفقود، أو ظلال صوت لا نعرف إن كان يصرخ أم يهمس.
في عالم العزاوي، الشكل يهيمن لأنّه يرفض أن يُخضع، لا يتنازل إلى المعنى، بل يجرّه معه إلى مجاهل الشكل. وهو حين يستدعي الزخرفة أو الحرف العربي، لا يهادنها في تماثلها المريح، بل يفككها، يعجنها، يعيد ترتيبها كما يُعاد ترتيب القصيدة التي سقط منها وزنها عمداً. الشكل هنا لا يزيّن، بل يشكّل، أي يكوّن، يولّد، ويفكّر.
الشكل في أعمال العزاوي هو “أسلوب بلا مضمون”، أو لنقل “مضمون متنكّر في هيئة أسلوب”. الشكل لا يحمل الرسالة، بل يتواطأ مع ضجيجها، يلتفّ حولها، يزحزحها عن مركزها حتى تصبح الرسالة نفسها شكلاً مشوّشاً، مشكوكاً فيه، ملغوماً.
هذه الهيمنة ليست استبداداً، بل رغبة في تشويش العرف، تقويض العادة البصرية، إدخال الشك في النمط. الشكل في لوحات العزاوي يتصرّف كجسم يرفض التشريح. لا يُفتح بدون أن يتكسر، ولا يُفسَّر بدون أن يتبخّر.
إنه، باختصار، شكلٌ يُمارس الفعل لا ليُرى، بل ليؤخِّر الرؤية، ليجرّ المتلقي إلى طقس تأمليّ حيث يصبح الإدراك نفسه موضوعاً للتساؤل. في حضرة لوحات العزاوي، الشكل هو البداية، هو النهاية، وهو الشك بينهما.

من أين نبدأ في قراءة لوحاته؟

حين نعاين تجربة ضياء العزاوي، لا يمكننا أن نبدأ من نقطة زمنية أو أسلوبية محددة، كما لا يمكن أن نبدأ قراءة نص سردي من منتصفه بدون أن نفقد أثر التنفس الأول فيه. العزاوي ليس فنانًا بمراحل، بل هو فنان بصراع، لذلك، فإن بداية قراءته لا تكمن في لوحة بعينها، ولا في أسلوب، بل في “الموقف”، كما يقول بارت، الموقف الذي يتخذه الجسد في حضرة العالم، الموقف الذي يتخذه الفنان في مواجهة اللغة، والهوية، والذاكرة. نبدأ من التمزّق، نبدأ من تلك الفجوة التي تُقيم في لوحاته بين الحرف والمعنى، بين الزخرفة والغضب، بين الأثر البصري والصرخة الكامنة فيه. العزاوي لم يشتغل على الصورة باعتبارها شيئًا يُرى فحسب، بل بوصفها بنية للمعنى، تمثُّل واحتجاج في آن. من هنا، لا تكفي القراءة التشكيلية التقليدية لفهمه، يجب أن نقرأه كما نقرأ نصًا مفتوحًا، ملغزًا، غير مكتمل.
نبدأ من التكرار، لا باعتباره مللاً، بل كتجريب لا ينتهي. هو لا يعيد بل يواصل. يعيد الحرف العربي لكنه لا يعيده كما هو، بل كما صار عليه، ممزّقًا، مكسورًا، مهدّدًا بتمرده على نسقه الكلاسيكي. يعيد الوجوه، الأجساد، الفراغات، لا بوصفها أيقونات بل كأنقاض حضارات وشظايا ذاكرة. في كل تكرار، خيانة صغيرة للثبات، انحراف متعمّد عن التناسق.
لوحات العزاوي لا تُقارب الزمن الخطيّ، بل الزمن المجروح، المتشظي، زمن القصيدة المهزومة، زمن العراق الذي يطفو بين المنفى والحداد. لوحاته لا تحكي الماضي، بل تحمله كندبة. لا تعيد رسم الحدث، بل ترسم أثره على الجدار، في الروح، في صمت المدن الميتة.
في تجربة العزاوي، اللغة لا تنطق، بل تُرى. الحرف لا يكتب، بل يصرخ، يتلوّى، يتّسع حتى يصبح زخرفةً أو يتقلّص حتى يصير ندبة. واللوحة لا تقول، بل تقترح: تقترح ذاكرةً، مجازًا، دمعةً قديمةً انحبست في زوايا العين.
في النهاية، ربما لا نبدأ من العزاوي، بل نبدأ معه. نبدأ ونحن نحمل أوزاننا- أوزان المعنى، التاريخ، الجسد، والمنفى- ونمشي معه داخل لوحاته كمن يمشي داخل قصيدة لا يعرف نهايتها، لكنه مأخوذ بإيقاعها. هنا، فقط، تبدأ القراءة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب