لبنان بين أفقين للصراع لا ثالث لهما حالياً

لبنان بين أفقين للصراع لا ثالث لهما حالياً
وسام سعادة
كاتب وصحافي لبناني
لبنان هو اليوم أمام مفترق عسير.
فإما أن تبقى المواجهة بين حزب الله وبين إسرائيل على جبهة الجليل «تكتيكية – ضاغطة» رديفة لميدان «الحرب – المقتلة» الأساسي في قطاع غزّة، وأن يُسارَع، ولو بشقّ النفس في كل مرة، لاستيعاب كل جنوح أو تصعيد يبتعدان عن هذه الدائرة، وإما أن تصير المواجهة «استراتيجية – شاملة» بالشكل الذي يمكن فيه أخذ المنطقة إلى مشهديات لا تزال حتى وقتنا الحالي قرينة الخيال العلمي – الكارثي.
ليس هناك في الوقت الحالي من احتمال ثالث. كمثل إخماد جبهة الجليل قبل أن يجري إيقاف الحرب على غزة. أن يرغب لبنانيون كثر بهذا الإحتمال الثالث، فهذا قد ينفع لجهة تثبيت الخلاف الداخلي مع «حزب الله» وسلاحه، ومن يملك قرار الحرب والسلم، من دون أن يرقى ذلك إلى طرح يكون بالفعل، الآن، بمثابة ثالث ثلاثة ما بين المشاركة «التكتيكية» في الحرب الحالية، أو الانخراط «الاستراتيجي» الشامل بها.
أما من الجهتين الغربية والإسرائيلية، فإنه كلما صار المطلب الضاغط هو إخماد الجبهة اللبنانية قبل إيقاف الحرب على غزة وليس فقط خفض التوتر في «الشمال» كلما أدّى ذلك عملياً إلى رفع أسهم الحرب الشاملة. في الوقت نفسه، عودة حال الحدود اللبنانية الجنوبية إلى ما قبل 7 أكتوبر لم يعد مرتبطاً فقط بمآل الحرب على غزة، هذا إن كان من الممكن بعد الحديث عن عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل هذه الحرب.
ثمة في كل هذا خطأ قد يرتكبه أي طرف، وهو الاعتقاد بأن الطابع الأبوكاليبسي للحرب الشاملة يجعلها متعذّرة أو مستبعدة.
الذهاب إلى الحرب الشاملة بين «كل منظومة الممانعة» وبين إسرائيل دونه عدد من الحواجز والعراقيل، إنما الاعتقاد بأن هكذا حرب هي ممتنعة بالضرورة، والبناء على ذلك، فله مفاعيل عكسية.
الحرب المحدودة لا تزال تحول حتى الساعة دون الحرب الكلّية. والعمل على ضبط التوتر ضمن الحرب المحدودة أكثر نفعاً من العمل غير الواقعي في الوقت الحالي على طلب إخماد الجبهة ككل. إلا إذا كان المطالب بإخماد الجبهة ككل يدرك تماماً بأن ما يطلبه يمكنه أن يؤدي عملياً إلى تأجيجها أكثر.
الا أن المواجهة الحالية بين الحزب وإسرائيل لها سمتان لا واحدة: هي حرب تكتيكية، اذا ما قارناها بالحرب في غزة، إلا أنها أطول حرب حتى الآن بين «حزب الله» وبين إسرائيل من بعد انسحاب الأخيرة من جنوب لبنان عام 2000.
المواجهة الحالية بين الحزب وإسرائيل لها سمتان لا واحدة: هي حرب تكتيكية، اذا ما قارناها بالحرب في غزة، إلا أنها أطول حرب حتى الآن بين «حزب الله» وبين إسرائيل من بعد انسحاب الأخيرة من جنوب لبنان عام 2000
في هذه الحرب التكتيكية التي يتمدد وقتها أكثر فأكثر يسعى كل طرف كي يظهر لغريمه أنه لا يخشى الحرب الشاملة وأنه مستعد لها، وبشكل أو بآخر «لا يريدها بل يشتاق إليها»! في الوقت نفسه لا يقوم هو بإشعالها بل يترك أخذ هكذا مبادرة للغريم كي يكون البادئ في ارتكاب «الكبيرة» علّه ينال إثر ذلك عقابه على هكذا مبادرة في ساح القتال والوغى!
هذا من دون أن يكون التناظر كاملاً. فالأمور من زاوية حزب الله – منظومة الممانع يجري التمييز فيها بين نموذجين للحرب الشاملة. واحدة تتم بالتزامن بين الجبهتين، الفلسطينية واللبنانية، وثانية تتم بالتعاقب، فيما لو تمكنت إسرائيل من تحقيق مرادها تجاه غزة وحماس ومضت بعد ذلك لحملة ضد الحزب، متكئة على التبدل في ميزان القوى الإقليمي آنذاك.
أما من الجهة الإسرائيلية، فلم تخض حربا على عدة جبهات في وقت واحد منذ 1973، أي منذ نصف قرن. ومنذ أكتوبر الماضي لم تعد الحال كذلك، ولو أن جبهة لبنان لا تزال تكتيكية رديفة. بالمطلق، يمكن أن تكون إسرائيل تفضل البقاء في الحرب التكتيكية دون الذهاب إلى الحرب الشاملة. ليس هذا بأكيد. لكن، حتى لو كانت إسرائيل تفضل الوضع الحالي الملتهب على الاشتعال الكامل، إلا أنها لا يمكن أن تتصالح مع تفضيلها هذا. فشعورها منذ بدء الحرب الحالية أنها واقعة «تحت ابتزاز» حزب الله. فالحرب الحالية التي يخوض ضدها كان يمكنها أن ترد عليها بكثافة تدميرية عالية لولا أنها منهمكة في حرب أخرى، ضد قطاع غزة. هذا الشعور في إسرائيل بأنها تحت ابتزاز الحزب، وبأن الأمريكيين يبررون عملياً، من موقعها هي، لهذا الابتزاز، هو الذي يدفعها إلى توسعة مدى التهديف، ويتصل بذلك اغتيال قيادي حماس صالح العاروري. ليس صحيحا أنه اغتيال «صادف» وقوعه في الضاحية الجنوبية. إنه، ولو بشكل غير مباشر، استهداف بشكل أساسي لحزب الله قبل حماس، يعبر عن عدم صبر إسرائيل على الشعور بأنها واقعة تحت ابتزاز الحزب المتواصل. تسعى إسرائيل إلى تحقيق معادلة «توازن في الابتزاز» في وقت يميل فيه «توازن الرعب» إلى التصدع.
المؤسف على هامش كل هذا، أن «حزب الله» وحده تقريباً في لبنان اليوم، يقف على محددات اللحظة، وسمة المرحلة. القوى الأخرى ميالة بدلاً من ذلك إما إلى الاستسلام للإحباط وإما إلى تزيين رغباتها على أنها الواقع الحالي أو الآتي. المدخل الأساسي لدخول أطراف لبنانية أخرى إلى دائرة التأثير على مجرى الأمور يبدأ من إدراك أن الواقع الآن يطرح أحد احتمالين لا ثالث لهما، إما المواجهة التكتيكية مع إسرائيل، وإما المواجهة الشاملة معها، في الجنوب اللبناني.
إقفال الجبهة، وتحييد لبنان، كل هذه الرغبات، لن تكون قادرة على التبلور منهجياً، برنامجياً، طالما أن الحرب – المقتلة مستمرة في غزة، وطالما أن البلدان العربية «المعتدلة» هي في أقل تقدير في وضعية «غيبوبة» حيال الحرب الحالية، بالشكل الذي يبعثر القدرة على بلورة خط الاعتدال في الداخل اللبناني، ويدفع على العكس من هذا شتات من تصادم مع حزب الله سابقا في الداخل اللبناني إما إلى تماثل كلي في الوقت الحالي مع خطابه، وإما إلى تبني خطاب عالي السقف ضد الانخراط في الحرب الحالية، وإما إلى الغرق في معزوفة أن هذا الانخراط شكلي فقط. والطامة أنه في الكثير من الأحيان يحصل التخليط بشكل عشوائي بين ردات الفعل هذه. وحده يجدي حاليا، في الوضع اللبناني، التصالح مع فكرة أن تبقى الحرب تكتيكية، وأن يجري السعي إلى ضبط توترها أولا بأول، مع الإقرار ضمنا وجهرا، بأن كل هذا عمل غير مضمون ومحفوف بدرجة عالية من المخاطر. لا يعني هذا في المقابل بأن المواجهة الحالية، من غزة إلى باب المندب إلى كرمان، لن تقترب ولو بعد حين، وبالأحرى في أمد منظور، من مساءلة التركيبة المجتمعية والكيانية اللبنانية.
كاتب من لبنان