ثقافة وفنون

فيلم «عائدة» لكارول منصور: العودة وإن بالاحتيال

فيلم «عائدة» لكارول منصور: العودة وإن بالاحتيال

سليم البيك

الكثير من المواضيع الفلسطينية في السينما والأدب والفنون عموماً، تكرّرت في أساسها، فهذه القصة طُرحت بشكل أو بآخر هناك، وتلك الشخصية تشابه بشكل أو بآخر، شخصية هنا. تَعبر العناصر السردية الأنواعَ الفنية المتناوِلة للفلسطينيين وقضيتهم. يبقى الاختلاف والتمايز في «كيف هي القصة؟» لا في «ما هي القصة؟» ويبقى في الأسلوب الذي يجعل من عمل فني ـ سينمائي في حالة موضوعنا هنا – عالياً أو عادياً أو متواضعاً.
انطلقت اللبنانية/الفلسطينية كارول منصور في فيلمها الجديد «عائدة» من هذا المشترك الفلسطيني، من قصة أقرب لفولكلور الشتات الفلسطيني، قصة الخروج وما تحمله من ذاكرة لما كان قبله ولما سيليه، ثم الحديث عن المكان المفقود بنوستالجيا ما زالت حيّة منذ لحظة الفقد. يتأسس الفيلم على لقاءات وأحاديث عفوية وعشوائية، أجرتها المخرجة مع والدتها التي تقدّم بها العمر دون أن ينال من ذاكرتها اليافويّة، صوّرتها عبر التليفون دون أي خطّة لفيلم مقبل، بل لاستعادة التسجيلات لاحقاً استجابة للشوق، بعد رحيل الأم، عائدة.
هذه الحالة المشتركة بين فلسطينيي المخيمات والشتات، صوّرها أحدنا مع أهله، أم لم يصورها، سجّلها أم لم يسجّلها، هي أقرب لتكون فولكلوراً للشتات الفلسطيني يمارسه الجميع بتفاصيل وسياقات تخصّ كلّ حالة وتفصلُها عن الأخرى. هو فولكلور الخروج المنقطع، لا أحاديث عن العودة فيها. وهذا ما أمكن أن يجعل «عائدة» فيلماً آخر عن قصة لجوء فلسطينية، هي فردية، وهي بالقدر ذاته جمعية، تتكرّر القصص فيها وتتراكم، في فعلٍ طقوسيّ لذاكرة جمعية ضروريٌّ حفظها بأي شكل، وقد تتمايز من بينها الأكثرُ دراميةً في طبيعة السرد وتطوّره، وتراجيديةً في مأساوية هذا السرد وذلك التطوّر. لم يكن «عائدة» إضافة كمّية وإن ضرورية في هذه السردية الفولكلورية للشتات، بل نوعية في أسلوب السرد والتّحضير للصُّدف التي أعطته منعطفات رفعت من دراميته الناقلة، بإخلاص، لتراجيدية الخروج من فلسطين، يافا في حالة والدة كارول منصور، هنا.

ذكريات الأهل

يبدأ الفيلم بمشاهد حميميّة وعفوية للأم تحكي عما تتذكرّه عن يافا، تفاصيل وأسماء تدهش في قدرة ذاكرة المنفيين على الاستعادة، كأنّ المكان المخصّص ليافا هنا محفوظ، مجمّد، كما هو منذ توقّف، منذ انقطعت تغذيتُه بالصّور والأصوات والروائح اليافويّة. ترحل الأم وتُكمل كارول التصوير. نراها من الربع ساعة الأول للفيلم تضع رماد والدتها في أكياس لينقلها أصحابها إلى فلسطين، في كيسين فإن التقط الاحتلالُ واحداً يمكن لآخر أن ينفذ متسللاً في حقيبة، إلى يافا. يمر الكيسان المعبّآن بما يشبه بودرة بيضاء نقيّة، على أن يلقيه الأصحاب في بحر يافا.
يتقدم الفيلم بموازاة ذلك، بالأحاديث المسجّلة بين كارول ووالدتها، تتشكّل صورٌ أكثر حول يافا وقصصها، من خلال السردية الفردية لعائدة عبّود، ونرى بين وقت وآخر تواصل كارول من بيتها عبر الكاميرا مع صديقتيها، رائدة طه وتانيا حبجوقة حاملتين الرّماد باحثتين عن حيِّ والدَي كارول وبيتهما. هذا البحث كان تطوّراً تلقائياً لفيلم سيقدّم حبكته بصدفةٍ حيّة وتامّة، بلقاء أحدهم في الحيّ خلال البحث، أوصل الصديقتين إلى جدّه الذي عرف العائلة ودلّ على البيت، يتّخذ الفيلم مسرى جديداً، في صدفة من تلك التي تحمل على عاتقها امتياز الفيلم الوثائقي، فهذا الأخير ما لم تسعفه صدفٌ تمرّ بمراحل صناعته، وما لم ينتبه إليها صانع الفيلم ويحسن التقاطَها والانطلاقَ منها، يبقى الفيلم، أي فيلم، محدوداً بالمكتوب مسبقاً، ما يسحب من الفيلم عصبَه الوثائقي.

تصل الصديقتان إلى بيت الأهل، تقتحمانه كما لم نتعوّد أن نشاهد أو نسمع في قصص كهذه، تدخلان إلى جنينة البيت وتدفنان في ترابها بعض الرماد، تدفنان بعدها بعضاً آخر في مقبرة المدينة، وترشّان ما تبقى في بحر يافا وسمائها. ليس الفيلم، بذلك، فيلماً آخر عن قصة الشتات. هو فيلم بقصة العودة، من عنوانه «عائدة» إلى اسم الأم «عايدة» إلى قصة الفيلم عن العائدة عايدة. الخروج كان مقدّمةً للعودة، كان ضرورةً درامية لبنية الفيلم الأساسية وهي طريق العودة. استعادَ الفيلم الفولكلور الفلسطيني لا ليقف عند حدود الخروج ومساحات الشتات الشاسعة، بل ليقلب الخريطة ويختار طريقاً للعودة لا يكون مألوفاً. هو أقرب لسينما العودة منه لسينما الشتات. أقرب لرحلة عوليس عائداً في «الإلياذة» لا مشتَّتاً في «الأوديسا».

طريق العودة

فكّكت كارول مسلّماتٍ في المجتمعات الفلسطينية والمشرقية العربية، بها فقط استطاعت إعادة أمّها إلى موطنها، بالحرق وتحويلِ الجسد إلى رماد، لا يخضع لسيطرة الاحتلال على المساحة والحدود، فلا يعترف الرماد بالمساحات المحدودة والمنقطعة، يتطاير في الهواء ويذوب في المياه، تماماً كما اختفى في بحر يافا وهوائها، وكما تخبّأت ذرّاته في التراب وبين حبّاته في الجنينة، لتعود عائدة، أو عايدة، أخيراً إلى تراب يافا وبحرها وسمائها، إلى ثلاثتها معاً، تعود فعلاً لا تمنّياً. تفكّكت المسلمات كذلك باقتحام البيت، لسنا في «عائد إلى حيفا» هنا لنستأذن الدخول، ولا في تقارير صحافية ومَشاهد توثيقية لنرى أهل البيت يقفون على حافة السور يقولون، بما يثير الشفقة، إن هذا كان بيتنا قبل النكبة، متوسّلين مستوطنيه للدخول، ولم يقف مستوطنٌ هنا ليقول «إن لم أسرقه أنا غيري سيسرقه».
في الفيلم تسلّل الأصحاب إلى الجنينة، عنوةً، ودفنوا الرماد بالتراب، سكان البيت، عربا كانوا أم يهودا، كانوا في قيلولة في الداخل أم متجوّلين في الخارج، لا يهم، كان هذا تفصيلاً صغيراً لم يستحق دقيقةً للوقوف والتفكير فيه. في الحقيبة رماد صاحبة البيت، العائدة أياً تكن العودة، وإن على شكل رماد. العائدة بعكس اتجاه التاريخ، واحتالت عليه كما استطاع عوليس العودة أخيراً إلى إيثاكا، بالحيلة وحسب على الآلهة ووحوشها (أدورنو/هوركهايمر1944 ) الحيلة كذلك طريق للعودة.
رمت رائدة الرماد على البحر، في مشهد أخير من نهاية غير مأساوية، نهاية التفّت على التاريخ واحتالت عليه، فكّكت مسلّمات وابتكرت طرقاً للعودة. نهاية غير ما تعوّدته السينما الفلسطينية. رمت الرماد كأنها تسقي البحر منه، لينمو ويكبر ويتّسع لرماد آخرين كثر. هنا، في الفيلم، تعريفات جديدة للعودة، هي عودة ما بعد الموت، ببساطة لأن العودة، مسألة جمعية لا تختفي بفناء الفرد.

كاتب فلسطيني سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب