بين وقاحة واحتباس: دموع الهستيريا الصهيونية
بين وقاحة واحتباس: دموع الهستيريا الصهيونية
صبحي حديدي
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية نشرت مقالة للحاخام موشيه تاراجين تناولت فحوى الرسائل الأخيرة التي يتركها جنود الاحتلال قبيل «مغادرة هذا العالم»، ولكن في ساحات القتال «دفاعاً عن دينهم» تحديداً؛ وليس على سرير المرض، أو أشكال الوفاة المختلفة. وتلك، في نظره، رسائل تترك طرازين من الاستذكار: 1) الاحتفاء بالحياة بدل تمجيد الموت، و«تشجيع الأهل على تجنّب الغرق في اليأس»؛ و2) إدراك «ضخامة البرهة التاريخية» التي تسجّل رحيلهم عن الدنيا، وأنهم قاتلوا «بالنيابة عن التاريخ اليهودي».
وإذا كان الحاخام تاراجين يتوخى استدرار الدموع (عكس ما يزعم أنّ رسائل القتلى الإسرائيليين تحثّ عليه)، وتأجيج العواطف والأحزان والحداد (على نقيض مزاعم مفصلية في سطوره)؛ فإنّ قراءات أخرى مشروعة للنبرة الأعلى في مقالته تبيح مقادير مختلفة من العجب الساخر والتأويل التهكمي، وربما بعض قهقهة عالية أيضاً؛ حين يتنيه القارئ، من دون عناء في الواقع، إلى أنّ إحالاته الكبرى بصدد إطلاق الأسى أو حبسه إنما تعود إلى… أكثر من 1900 سنة خلت، نحو عهد الإمبراطور الروماني هادريان، والوقائع التي تسجّل مقتل 10 حاخامات بأمر من الإمبراطور، عقاباً لهم على جريمة سالفة ترتدّ بدورها إلى آلاف السنوات ارتكبها أخوة يوسف.
طريف، أيضاً، أنّ الحاخام ابن السنة 2024 ينفي عن جنود الاحتلال القتلى صفة تكريم مفهوم الشهادة، ولكنه لا يقتبس الحاخام شانايا ابن السنة 130 إلا لأنّ الأخير «شهيد الدفاع عن الديانة اليهودية»؛ وبهذا فإنّ الطرافة تفسح مساحة إضافية لخلائط الخبل تارة، أو استغفال العقول تارة أخرى، ليس من دون مستوى في تخابث مفضوح بقدر ما هو بليد. فكيف لرغبة الجندي الإسرائيلي (اليهودي حصرياً، طبقاً لإصرار الحاخام تاراجين) في النأي بالنفس عن الاستشهاد والشهادة؛ أن تجد أمثولتها الدينية، وبالتالي الأخلاقية، عند حاخام «شهيد» عاش في أزمنة الإمبراطور هادريان، وليس في عهود بنيامين نتنياهو ويوآف غالانت وإيتمار بن غفير؟
ولأنّ هذه أحدث مساخر الهستيريا الصهيونية، أو أطوار ما بعد الصهيونية كما يحلو للبعض توصيفها، قبل أن تكون خزعبلات دينية حاخامية؛ فإنّ الشيء بالشيء يُذكر، بصدد الأسى الصهيوني عموماً والدموع الإسرائيلية على وجه التحديد. ففي زمن مضى، لكنه وثيق الصلة وغير بعيد، اجتاحت دولة الاحتلال حمّى من نوع خاصّ وفريد، كان وقودها هذا السؤال العجيب: هل يتوجّب السماح للجنود الإسرائيليين بذرف الدموع في جنازات زملائهم؟ شرارة اللهيب، صانعة المناخات المحمومة، انطلقت من هذا التضاد: اجتهاد قائد الجبهة الشمالية بأنّ البكاء صفة إنسانية، ولا مانع بالتالي من أن ينخرط فيه الجندي الإسرائيلي؛ مقابل قرار رئيس الأركان، الذي اختار النقيض، فاعتبر أنّ البكاء علامة ضعف لا تليق بالمقاتل إجمالاً، وهي حتماً لا تليق بالمقاتل الإسرائيلي خصوصاً!
آنذاك توفّر باحث إسرائيلي جادّ، واحد على الأقلّ، هو أفيشاي مرغاليت؛ تصدّى لفضح هذه المسخرة المعلنة، في مقال اختار له هذا العنوان اللاذع: «قلّة ذوق إسرائيل». ولقد بدأ من حيث يتوجب البدء حقاً، أي ردّ الجدل حول الدموع إلى ظاهرة جوهرية أكثر شمولاً، تتصل بالمسألة العاطفية ضمن «الثورة الصهيونية»؛ تلك التي، كما يُقال للمواطن الإسرائيلي، هدفت إلى قَوْلَبة «اليهودي الجديد»، ورأت في المآقي الدامعة علامة عاطفية سلبية، تؤشر على يهودي ضعيف، منفيّ، حزين، طيّب… يتوجب استئصاله من الذاكرة اليهودية، مرّة وإلى الأبد!
المشكلة، مع ذلك، تظلّ ماثلة في حقيقة أنّ ما يسعى الحاخام تاراجين إلى استئنافه اليوم بصدد حبس الدموع، شُوهد من قبل في دولة الاحتلال، وجُرّب، وتكشفت جوانب الوقاحة في أشكاله مثل مضامينه؛ وذلك بصرف النظر عن حقيقة أنّ صمود المقاومة الفلسطينية تولى دمغ المآقي الإسرائيلية بما هو أقسى، وأشدّ مضاضة، من العبرات الشفيفة.