مقالات

عن بوشنيل الذي أحرق جسده من أجل غزة

عن بوشنيل الذي أحرق جسده من أجل غزة

سنان أنطون

شاعر عراقي

في واحدة من مستشفيات مدينة أتلانتا، ترقد امرأة أمريكيّة لا نعرف اسمها. تغطي جسدها الحروق من النار التي أضرمتها هي بنفسها، حين وقفت أمام القنصلية الإسرائيلية في أتلانتا في ديسمبر من العام الماضي، احتجاجاً على حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزّة. وذكر رئيس شرطة أتلانتا أنهم وجدوا علماً فلسطينياً قرب البقعة التي قامت المرأة فيها بما سمّاه «عملٌ احتجاجيُّ متطرّفٌ». وأضاف أن الفعل لم «يهدد» أياً من موظفي القنصلية وهم بخير.
ولعل هذه الجملة تقول الكثير عن الانحياز المؤسساتي والأيديولوجي لدى الشرطة الأمريكية، وما يماثله في صفوف الطبقة السياسية عموماً. وليس سرّاً أن الكثير من أقسام الشرطة في عدد من المدن في الولايات المتحدّة تتعاون منذ سنوات مع الجيش الإسرائيلي. ويسافر منتسبوها إلى إسرائيل ليتلقوا تدريبات بإشراف الجيش الإسرائيلي، كما يزور مسؤولون وخبراء إسرائيليون الولايات المتحدّة لتدريب عناصر الشرطة على التعامل مع الاحتجاجات. ويذكّر الناشطون ضد عنف الشرطة في الولايات المتحدة بهذه الحقائق باستمرار ويصفون التشابه في وحشية الأساليب وقسوتها بين الجيش الإسرائيلي والشرطة الأمريكيّة.
لم يسلط الإعلام الأمريكي السائد ما يكفي من الضوء على الفعل الاحتجاجي الشجاع لهذه المرأة المجهولة الهويّة إلى الآن. وشهدت واشنطن الأسبوع الماضي فعلاً احتجاجياً ثانياً من هذا النوع، قام به رجل هذه المرّة اسمه آرون بوشنيل.. شاب أمريكي في الخامسة والعشرين من عمره، ينتسب إلى سلاح الجو الأمريكي ومتخصّص بالأمن السيبراني، ذهب بوشنيل إلى السفارة الإسرائيلية في عاصمة الولايات المتحدة، الإمبراطورية التي تمدّ إسرائيل بالأسلحة وتحميها بالفيتو. وصوّر نفسه في بث مباشر على منصة Twitch وهو يقول: «أنا عضو في سلاح الجو الأمريكي. لن أتواطأ مع الإبادة بعد الآن. إنني على وشك القيام بفعل احتجاجيّ متطرّف، لكنه ليس متطرّفاً البتّة مقارنة بما يتعرض له الفلسطينيون على أيدي الذين يستعمرونهم. وهو ما قررت الطبقة الحاكمة في بلادنا أنه أمر عادي». ثم وقف أمام بوابة السفارة الخارجيّة ووضع قبعته على رأسه وأضرم النار في جسده. وكانت آخر جملة ردّدها عدة مرّات وهو يحترق: «فلسطين حرّة». ومات بعدها بساعات في المستشفى. اللافت أن أحد رجال الأمن، الذين اقتربوا من بوشنيل وهو يحترق، أمره أكثر من مرّة بأن يركع! وظل مصوّباً سلاحه نحو بوشنيل، وكأن جسده المحترق يشكّل تهديداً ما! بينما صرخ الشرطي الذي كان يحاول إخماد النار: «أنا بحاجة إلى طفّاية، لست بحاجة إلى مسدس!». وكما هو متوقّع، أغفلت عناوين الصحافة السائدة ووسائل الإعلام الأمريكية، ذكر دوافع هذا الشاب للقيام بهذا الفعل وهي الاحتجاج ضد إبادة الفلسطينيين، وتواطؤ الولايات المتحدة وجيشها في الحرب على غزة، حيث كان قد ذكر لأحد رفاقه بأنه اطّلع على وثائق تؤكد مشاركة عناصر من الجيش الأمريكي فعلياً في الحرب في غزة. واكتفت معظم وسائل الإعلام بعناوين تقول «رجل يحرق نفسه أمام السفارة الإسرائيلية». وفي محاولة حقيرة للتقليل من البعد السياسي والوعي الرافض الذي أفصح عنه بوشنيل، لمّحت بعض التقارير إلى أن ما دفعه لفعله الاحتجاجي هي مشاكل نفسيّة واكتئاب، لكن وقع وأثر فعله بين صفوف المتظاهرين المناصرين لفلسطين كان مختلفاً بالطبع، فقد تجمع عدد منهم أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن وأوقدوا الشموع في وقفة تأبين. ورفعت لافتات تحمل اسمه وصورته وكلماته الأخيرة وتحيي تضحيته في العديد من المدن الأمريكية، واعتبرته حركة شباب فلسطين شهيداً. كما امتدح الأكاديمي الأسود المعروف، والمرشح الرئاسي المستقل، كورنيل ويست، شجاعة بوشنيل الاستثنائية والتزامه.

رفض بوشنيل أن يكون جزءاً من مؤسسة تشترك في حرب إبادة، ضحّى بحياته وجسده ليكون موته صرخة مدويّة ورسالة واضحة. والجود بالنفس أقصى غاية الجود

لم يكن بوشنيل عربياً أو مسلماً، بل كان رجلاً أبيض، وهذا بالذات هو ما يجعل ما قام به تحدياً وتهديداً لمسلمات الخطاب السائد رسمياً، وللصور النمطية المترسخة في المخيال العام، التي تربط العنف الانتحاري بالإرهاب، وبما يسمّى «عقيدة الموت» التي تُنسب وتُعزى إلى ثقافات أخرى فحسب، حتى إن السيناتور الجمهوري اليميني من ولاية آركنسا توم كوتون، طالب البنتاغون بإجابات توضح كيف يمكن لبوشنيل «ذي الآراء المتطرفة والأفكار المعادية لأمريكا» أن يخدم في الجيش. أما غريمي وود أحد كتّاب أعمدة مجلة «ذا آتلانتك»، فقد كتب مقالة يطالب فيها بعدم تعظيم حرق النفس، وادّعى أن الاحتفاء بأفعال كهذه وتشجيعها، أو حتى التأثر بها هو مرض. واتّهم بوشنيل بأنه كان عديم الإحساس إزاء الضحايا الإسرائيليين!
هناك تاريخ طويل لإحراق النفس كفعل احتجاج سياسي، واحد من الأمثلة الشهيرة التي تُذكر دائماً هو ذج كوانغ يوك الراهب البوذي الفيتنامي، الذي أحرق نفسه في تقاطع مزدحم في مدينة سايغون عام 1963 احتجاجاً على سياسة التفرقة التي كانت حكومة فيتنام الجنوبية تنتهجها ضد البوذيين. وكانت الولايات المتحدة تدعم تلك الحكومة في حربها ضد فيتنام الشمالية الشيوعيّة. وألهم انتحار يوك ناشطاً أمريكياً هو نورمان موريسون الذي أضرم النار في جسده في 1965 تحت مكتب وزير الدفاع الأمريكي ماكنمارا، احتجاجاً على الحرب في فيتنام. وكلنا نعرف البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده احتجاجاً ضد الظلم في تونس وكان ما كان. وهناك مئات الأمثلة في بلدان أخرى.
ولد بوشنيل في ولاية ماساشوستس لعائلة مسيحيّة محافظة جداً، لكن آراءه وميوله تغيّرت في ما بعد. فتحوّل من اليمين المحافظ إلى اليسار المعادي للإمبريالية والرأسمالية وأصبح آناركياً في السنتين الأخيرتين من حياته. يقول الذين عرفوه في مدينة سان أنتونيو في ولاية تكساس، أنه نشط مع حزب الاشتراكية والتحرير، وكان مهتماً بالعدالة الاجتماعية ومعاناة المشرّدين، ويقول أحد رفاقه في الجيش أنه كان يتحدث كثيراً عن معارضته لحروب أمريكا السابقة في العراق وأفغانستان. كان قد كتب لرفاقه قبل أيام من الحدث ليعلمهم أنه على وشك القيام بفعل احتجاجي متطرّف.
حين تفشل كل الوسائل والسبل السلمية المتاحة في إيصال صوت الرفض إلى مسامع الطبقة السياسية، وبإقناعها بالاستجابة للمطالب وتغيير سياساتها، يبقى الجسد سلاحاً وحيزاً لإعلان الرفض المطلق. رفض بوشنيل أن يكون جزءاً من مؤسسة تشترك في حرب إبادة، ضحّى بحياته وجسده ليكون موته صرخة مدويّة ورسالة واضحة. والجود بالنفس أقصى غاية الجود. يلتحق بوشنيل بالناشطة الأمريكية راشيل كوري (1979 – 2003) عضو حركة التضامن مع فلسطين، التي قتلتها جرّافة إسرائيلية دهساً في رفح، حيث كانت قد تطوّعت لتحمي البيوت الفلسطينيّة من التجريف أثناء الانتفاضة الثانية.

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب