«أخْطية» يزيد الكفارنة وأطفال قطاع غزّة…
سهيل كيوان
لكل مخلوق «أخطيّة»، والأخطيّة هي الخطيئة لكن عندما كان ينطقها أهلنا وأجدادنا يخفّفون الهمزة ويجعلونها ياءً «خطيّة» وكانوا يؤكّدون أنّ لكلّ مخلوق خْطَيّة، وهذا يعني أن إيذاءه أو قتله خطيئة كبيرة، وأنّ الله يعاقب من يرتكب مثل هذه الخطايا وإن تأخّر في هذا. وقالوا «خْطية القُط ما بِتنُط»، أيّ أن قتل قِطٍّ لن يمضي من غير عقوبة، بل وقد تكون مُعجّلة غير مؤجّلة، فما بالك بقتل إنسان، بقصد وسبق إصرار.
يحدث أن يتعرّض أحدهم إلى حادث يصابُ فيه إصابة بالغة، أو يفقد بعض ممتلكاته في حادث غير متوقّع، فيهمس أحدهم: «هذه خطيّة فلان أو فلانة»، هذا لأنّه خرّب بيت فلان، أين تهربُ من ربّ العباد، وهناك من يقول «ليس عند الله حجارة يرجمُ فيها»، أي أنّ الله يعاقب بصورٍ وأشكال شتى ليست واضحة تماماً ولا هي مباشِرة.
خطيّة الكلب والقطّ والحمار وغيرها، تعود على المعتدين بالضّرر، ولكن ليس إلى درجة الموت، فقد تنكسر ساق أو ذراع المعتدي، أو يمرض أحد أبنائه، فيضطر إلى دفع مبلغٍ من المال للطبيب، وكثيراً ما يعترف أحدهم ويقول «الحمد لله أنّها أتت بالمال وليس بالعيال، مليح اللي هيك ولا غير هيك»، وللكاتب إميل حبيبي رواية بعنوان «إخطية»، فهو يعتبر أنّ ما حدث لبلاده «أخطية»، والأخطية لا تذهب هباءً بل لها عاقبة.
أعتقد أنَّ أحداً لم يتخيّل موت الناس والأطفال جوعاً في قطاع غزة، رغم جرائم الاحتلال المعروفة التي باتت تقليدية، ولا أظنّ أن أحداً تخيّل أنّ الاحتلال مستعد لمنع الماء والطّعام والدواء عن مئات آلاف الناس حتى الموت جوعاً، فقد توهّم كثيرون ولا أستثني نفسي من هذا الوهم، أنَّ العالم الكبير لا يتيح حَرْب إبادة، أما التجويع حتى الموت فلم يخطر في بال أشدّ المتشائمين تطرّفاً.
قطاع غزّة ليس جزيرة معزولة في المحيط الهادي، بل هي جزيرة في محيط بشري من العرب والمسلمين، وتحت أعين وأسماع وأنوف الأوروبيين، وليس منطقة معزولة إعلامياً، بل هي المكان الأكثر تغطية إعلامية في العالم خلال الأشهر الأخيرة، واستشهد فيها أكبر عدد من الصحافيين خلال فترة وجيزة منذ ولدت هذه المهنة. فضائيات ومراسلون على المباشر، وأعداد كبيرة من الشبان والفتيات يحملون هواتفهم وينقلون ما يجري، ويحظون بملايين المشاهدات وخصوصاً من العرب.
العالم يتظاهر، عواصم ومدن كثيرة وأحزاب من كل جهات الأرض، وتشويشات في الملاحة المتّجهة إلى دولة الاحتلال، وقرارات جامعة دول عربية وتعاون إسلامي، وتقارير هيئات أمميّة وتحذيرات الأمين العام للأمم المتّحدة وجمعيات إنسانية، ورغم ذلك، يموت الناس في قطاع غزة جوعاً.
نعم، هناك من لهم ثأر لدى حركة حماس وضد الحركات الإسلامية، وهنالك من لهم ثأر مع كلّ من جرُؤ على مقاومة الاحتلال وقبل أن تولد حماس، وهناك ثارات تاريخية تعود إلى قرون خلَت، لكن تجويع الناس كعقاب لأنّهم رفضوا ترك بيوتهم، ولأنّهم رفضوا الهجرة من وطنهم، ومعاقبتهم بالجوع حتى الموت لأنّهم فضلوا الموت بالرصاص والقذائف وتحت ردم بيتوهم على أن يرحلوا!
الموتُ جوعاً لا يشبهه أي موت آخر، فهو ليس رصاصة تفجر الدماء والرّوح في لحظة، ولا قذيفة كومضة برق لا تكاد تدرك حدوثها وينتهي الأمر، وليس جرحاً نازفاً لساعات ثم غيبوبة لا عودة منها، القتل جوعاً يجري بالتدريج، يتآكل الجسد ويضمحلُّ حتى يغدو جلداً على عظم.
موت طفل جوعاً يعني أنّ والديه أو أولياء أمره وقفوا فوق رأسه ولم يستطيعوا إنقاذه لأنهم جياع مثله، يعني مشاهدة الموت لحظة بلحظة على مدار أيام وأسابيع، يعني موت الكلام وتبلّد الإحساس بالألم ورحيل الأمل من هذا العالم، يعني نهاية الرّجاء من البشر ومن الإنسانية.
ليزن الكفارنة، وغيره من أطفال ورجال ونساء قطاع غزة أخطية كبيرة ومضاعفة عن الموتى بالرصاص وقذائف الطائرات، أخطياتهم في أعناق من كانوا قادرين على إنقاذهم من الجوع ولكنهم اكتفوا بتصريحات سخيفة مفصّلة تفصيلاً لا يُزعج القَتلة، وآخر تقليعة لذر الرّماد في العيون هي الإنزالات الجوّية، التي لا تعادل كلها حمولة بضع شاحنات، أي أنّها استعراضية وليست هادفة بالفعل لإنقاذ الناس من الجوع.
إنّها أخطية تعود على كل من كان قادراً على أن يلجم هذا الوحش الفاشي ولم يفعل، بل تواطأ وقبض ثمن تواطئه، أخطية هؤلاء عارٌ لن تمحوه القرون، فالمجاعات التي تحصد الأرواح تبقى راسخة في التاريخ البشري أكثر من الهزائم أو الانتصارات العسكرية، وخصوصاً أنّها مجاعة مُبرمجة من خلال حصار عسكري يناقض كل قوانين الحروب حتى في الأزمنة الغابرة الأكثر وحشية، التي حرّمت قتل المدنيين وخصوصاً الأطفال، فما بالك بقتلهم جوعاً!
لا يذكر أجدادنا من العهد العثماني أكثر من أيام السّفر برلك، النّفير العام، الذي أعلنته الدولة العثمانية، المجاعة التي اجتاحت معظم أقطار الإمبراطورية العثمانية عام 1915، بعدما جُمعت المحاصيل الزراعية لصالح الجيوش، وبقي الناس بلا حبوب يتضوّرون جوعاً حتى الموت، حتى صاروا يبحثون عن حبة الشّعير في روث البهائم، ولا يجدونها.
لا ينسى الفيتناميون الاحتلال الفرنسي والياباني لبلادهم ونهب الأرز وتركهم يموتون جوعاً، حيث قُتل مليونا فيتنامي جوعاً، وهو ما يعادل 8% من السكان في حينه، وذلك في العام 1944.
لن ينسى الجزائريون ولا المغاربة وغيرهم من الأفارقة من صوماليين وسودانيين والنيجريين المجاعات التي سببها الاستعمار والحروب الأهلية التي كانت عوناً للطبيعة القاسية على الناس، بعد نهب بلادهم ومحاصيلهم.
سمّى العرب الموت بالسّيف بالموت الأحمر، والموت بالطاعون الموت الأسود، والموت جوعاً هو الموت الأبيض، لأن الجائع يفقد الرؤية فلا يرى سوى البياض أو الرّمادي.
نالت كل ألوان الموت من أهل قطاع غزّة، بينما مئات شاحنات الإغاثة محجوزة على معبر فيلادلفيا.
أقام نظام السيسي المزيد من الجدران لمنع أيّ مساعدة قد يقدّمها مصريون شرفاء إلى إخوانهم المحاصرين، ولمنع أي فلسطيني بأن يتملّص من الموت قصفاً أو جوعاً، بينما يهدّدهم شيخ من شيوخ النّظام وما يسمى «شيخ مشايخ» سيناء، بالذّبح إذا دخلوا سيناء.
يموت أطفال غزة وأكثر من نظام عربي يمارس علاقة ودّية مع نظام الإبادة العنصري في إسرائيل كأنّ شيئاً لا يحدث.
يموت أطفال قطاع غزّة جوعاً والعالم الحرُّ الذي تقوده أم الديمقراطيات يعبّر عن رغبته في عدم رؤية أطفال يموتون جوعاً، كأنّه يمنح نتنياهو رخصة للقتل ولكن بطريقة أخرى.
أمريكا ترسل معدّات الموت بعشرات آلاف الأطنان، ثم ترسل طائرة تلقي بمساعدات غذائية «على أوكرانيا»، كما ردّد الرّئيس الخَرِف مرّتين في مؤتمر صحافي».
أيتها الوحوش البشرية، ويا كلّ العالم، إنّ أخطية أطفال غزة غالية جداً، ولن تذهب هدراً، مهما يمرُّ الزّمان.