ثقافة وفنون

جان بول سارتر وروايته الهائلة دروب الحرية بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

جان بول سارتر وروايته الهائلة دروب الحرية
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ
كنت قد بدأت مبكراً بقراءة الكتب العميقة، ومن تلك أعمال كولن ولسن، جان بول سارتر، والبير كامو، وروايات دستوفيسكي. وكنت قد أنتبهت رواية سارتر الهائلة دروب الحرية بأجزائها الثلاثة : سن الرشد، وقف التنفيذ، الحزن العميق (1470 صفحة) التي كتبها بين أعوام (1946 ـ 1949) وقد صدرت لأول مرة باللغة العربية عام 1962، في بيروت عن دار الحرية، ويعتبرها الكثيرون وأنا منهم، من أفضل الأعمال الأدبية في تاريخ الأدب العالمي.
وقد تأخرت قراءتي لهذه الراوية الرائعة، بسبب حجمها، والذي ينبغي تخصيص وقت طويل لقراءتها، وهو ما كنا نفتقر إليه نسبياً في مرحلة الشباب تلك الحافلة بأحداث ووقائع كثيرة.
وحدث عام 1966 أن تنقلت سريتنا (من الفوج الرابع لواء المشاة الثاني حدود) إلى معسكر اللواء في كركوك، وذات يوم كنت أسير مع بعض الأصدقاء الضباط في إحدى الشوارع الرئيسية في المدينة، فوجدت بسطية كتب، ومن بينها الأجزاء الثلاثة لدروب الحرية، فحرصت على أقتنائها فوراً، وفي معسكرنا هذا كانت واجبات خفارات الضباط ثقيلة، لأن المدينة حافلة بمسرات كثيرة، من نواد ودور عرض للسينما، ومقاهي جميلة، وكثرة الأصدقاء، والضباط يتمنون لو أحداً يرغب بإبدال خفارته لهذا اليوم، لموعد أو لشأن لديه، فيمضي كل منهم إلى حيث يرغب فيرتدون في الغالب ملابسهم المدنية، وهكذا فالخفارة واجب غير ممتع.
وذات يوم حلت خفارتي ولا مفر، فبدأت فور تسلمي للخفارة بقراءة الجزء الأول من دروب الحرية (سن الرشد). ولم أترك الكتاب إلا وقد انتهيت منه الساعة الثامنة صباح اليوم الثاني حيث أسلم الخفارة. لمساعد اللواء، الذي اقترحت عليه فوراً أن أستلم الخفارة التالية عوضاً عن زميلي الضابط المقرر لها الذي أبتهل لله وشكرني، وأمضيت نهاري في الاستراحة، وأستلمت الخفارة بعدها مجداً فقرأت الجزء الثاني (وقف التنفيذ)، وفعلت نفس الشيئ في اليوم الثالث وقرأت الجزء الثالث والأخير (الحزن العميق).
حدث هذا وأنا في سن الثانية والعشرين من عمري، ولا شك أنها تركت أثراٍ عميقاً في نفسي، بل أن هناك مقاطع من الرواية لا يمكن أن تنسى مهما قرأت بعدها من ألاف الكتب. هي تتوغل في الذات الإنسانية عميقاً، وتطالبك بموقف واضح وصريح. إنها من الأعمال الخالدة في تاريخ الأدب وأنا أضعها بين عشرة أهم كتب في تاريخ الأدب. وبما عرف عني من ملل سريع بكل شيئ، مهما كان، فأنا لا أطيق مثلاً شيئ أسمه فيديو لأني لا أحتمل رؤية فلم مرتين، كما لا أقرأ كتاباً (من غير العلمية) مرتين إلا نادراً عدا رواية ” الساعة الخامسة والعشرين ” لكونستانتان جورجيو، ومقاطع عديدة من هذه الرواية الرائعة، دروب الحرية.
إليكم هذا المقطع : الجزء الثالث، الحزن العميق ص 291
” كان على ماتيو (جندي أحتياط في الجيش الفرنسي بطل الرواية، مثقف فرنسي) أن يصمد في هذا الموقع خمسة عشر دقيقة … لكي يمنح الفرصة لزملاؤه (الجنود الفرنسيين)بالانسحاب، وأن يمنع الألمان من التقدم : ” فكر ماتيو .. جنون .. إني أهب كل شيئ لأقاوم خمس عشر دقيقة ..! كانت قبضة بندقيته دبقة من الدماء … ولكنها معبأة بالطلقات .. وصاح على زميله بينيت ..! لم يرد أحد … كان وحيداً ..
فدمدم بصوت مرتفع … ياللعنة .. حتى لا يقال إننا لم نقاوم خمسة عشر دقيقة .. وأقترب من الأفريز وأخذ يطلق واقفاً، وكان ذلك ثأراً هائلاً، كل طلقة تثأر له من وسواس قديم، طلقة على جانيت التي لم أجرؤ على سرقتها، وطلقة على مارسيا التي كان علي أن أهجرها، وطلقة على أوديت التي لم أرد أن أضاجعها، وهذه للكتب التي لم أجرؤ على كتابتها، وتلك للرحلات التي أمتنعت عن القيام بها، وهذه الأخرى على جميع الأشخاص، جملة الذين كنت راغباً في احتقارهم، والذين حاولت أن أفهمهم، كان يطلق، وكانت القوانين تتطاير في الهواء، ستحب قريبك كما تحب نفسك (تعاليم دينية) طق في فم هذا الثرثار، لن تقتل أبداً، طق في الطرح المزيف الساكن قبالتي، كان يطلق على الإنسان، على الفضيلة، وعلى العالم : الحرية … هي الإرهاب، كانت النار تشتعل في البلدية، تشتعل في رأسه، كان الرصاص يئز، حراً كالهواء، سينفجر العالم وأنا معه، وأطلق ثم نظر إلى ساعته … أربع عشر دقيقة وثلاثون ثانية، لم يبق ما يطلب منه إلى مهلة نصف دقيقة، ما يكفي لإطلاق النار على الضابط الجميل الفخور الذي كان يعدو نحو الكنيسة، وأطلق على الضابط الجميل، وعلى كل جمال الأرض، على الشارع، على الأزهار، على الحدائق … على الأزهار … على الحدائق … على كل ما سبق أن أحبه … وغطس الجمال، وأطلق ماتيو مرة أخرى … أطلق …. وسقط ماتيو وكان نقياً … وكان قديراً … وكان حراً …. خمس عشر دقيقة ” ؟
هذا المقطع قرأته كثيراً … لا أعرف كم مرة … وفي كل مرة أرتعد وتصيبني الرجفة … هؤلاء الكتاب العظام، يكتبون كلمة ويمضون … كلماتهم تبقى بعدهم خالدة .. الرسام والنحات الإيطالي مايكل أنجلو قال مرة : الطغاة والقتلة يذهبون ولا يذكرهم أحد، والأعمال العظيمة تبقى خالدة … سارتر له أعمال كثيرة رائعة، ولكني أعتقد أن دروب الحرية هي أعظمها على الإطلاق.
لنستمتع معاً بالأدب، ولندين الفاشيات، والتطرف الذي لا يورث إلا الموت والخراب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب