
عيد أمّ افتراضيّ
شهلا العجيلي
يعدّ عيد الأمّ من الأيّام المشهودة في يوميّات الناس، لاسيّما في الحياة المدنيّة، لارتباطه باستقلال الدول وتنظيم قوانينها ومناسباتها الوطنيّة. وكان سائداً أن يعدّ الأبناء لهذا اليوم قبل أشهر من حلوله، فيجمع الأطفال نقودهم من خرجيّاتهم البسيطة، ليتشاركوا في هدية جماعيّة لأمّهم، وربّما لجدّتهم، أوعمّتهم، أو لمن شاركت في تربيتهم من نساء العائلة. كانت رياض الأطفال، لاسيّما تلك الخاصّة، التي كانت قليلة العدد، هي التي تحتفل بعيد الأم بشكل رسميّ وعلنيّ، إذ تقيم الإدارة حفلة سنويّة يشارك فيها الأطفال الذين سيتأثّرون ويخجلون أمام أحدهم، ذلك الذي فقد أمّه، فجاءت عمّته أو خالته، أو أنّه اعتذر عن عدم المشاركة. ترتدي الأمّهات ما يليق بالمناسبة، ويتزينّ ويحاولن تجاوز تعبهنّ أو أحزانهنّ في ذلك اليوم، أو خلافاتهنّ الزوجيّة، ليحتفلن بفكرة الأمومة ويشاهدن أطفالهنّ على المسرح وهم يغنون لهنّ الأغاني، ويقدّمون التهاني في فقرات جماعيّة وفرديّة. أحدهم قد يرتج عليه، فتشجعه أمه من القاعة، والآخر يبكي يريد أن ينزل إليها، وثالث يلوّح لها من فوق الدكّة، ودموع الأمهات تسيل تترى على خدودهنّ المحمرّة، أو تتساقط خجلى، أوفرحة، أو فخورة. لم يكن البعض يفضل هذه الاحتفالات، فهذا من وجهة نظر أخرى، يوم صعب على من فقدوا أمهاتهم، وعلى الناس أن يفكّروا في شعور الآخرين، إذ لا يعرف قسوته إلا من ذاق مرارة فقد الأمّ، وهو يرى الناس يحتفلون بأمهاتهم في حين فارقته أمّه إلى قبرها، فضلاً عن الأمهات المريضات اللواتي يفكرن بأنّ أبناءهن قد يكونون بلا أمّ في العيد القادم، وكذلك الأبناء الذين يرون المرض يأكل من أعمار أمهاتهم التي لم يبق منها الكثير.
ينفرد الأبناء اليوم بأجهزتهم الذكيّة، يتصفّحون المواقع الإلكترونيّة ومواقع التواصل الاجتماعيّ، يمرّون على الفيديوهات القادمة من غزّة، فيرون الدمار حول مستشفى الشفاء أو في خان يونس، وينتقلون إلى الفيديوهات المرفقة بنصوص مكتوبة، التي تختصّ بالأمهات الثكالى، والمصابات، والشهيدات، وعلى الأمّهات اللواتي يطبخن الخبيزة، وعلى الأطفال الذين ينتحبون على تراب قبور أمّهاتهم، فيشعرون بالحسرة، ويملأهم الذنب باحتمال التفكير بالاحتفال بأمّهاتهم، وبذنبهم بوجود أمهاتهم من حولهم، وبذنب شعورهم بالأمان. يمرّرون أصابعهم على الشاشة، تظهر صور لقوالب الجاتوه، ولموائد الحلوى، وباقات الأزهار، والهدايا المتواضع منها والفاخر: مستحضرات التجميل، وفناجين القهوة، ومعدات المطبخ، والملابس أو المجوهرات، أو الدعوات إلى الطعام في مطاعم فاخرة. تظهر بعدها صورة دوقة ويلز كيت مدلتون وأبنائها الثلاثة، مع خبر قصير حول فبركة الصورة، فيهرب المتصفّحون إلى أخبار الأميرة كما يهرب البائسون إلى حكايات المساء عن عوالم القصور، إلّا أنّهم يشعرون بالإشفاق على أطفال مثلهم أو أصغر منهم، يتكهن الإعلام برحيل والدتهم، ويزعج صفاءهم بتأجيج الخوف من التوغّل بالمؤامرة ضدّها. تعود ثانية صور غزّة وأخبارها، هذه المرّة تكون صور أنيميشن، برموز، وشعارات، وأعلام مرفوعة، وإشارات صمود تنقضها صور الضحايا، وبكاء الأطفال، وتوثيق المأساة. يرفع الأبناء الصور على خاصيّة الـ (ستوري) تأييداً لغزّة وأمّهاتها، وقد يرفعون صور أمهاتهم، وصور الجدّات الراحلات، ويتصفحّون صور أمهات الآخرين، ومقتبساتهم النصيّة عن المناسبة. يمضي اليوم، يوم عيد الأم، ويتيه المتصفّحون في العلم الافتراضيّ، حيث لم يعد للزمن ضغط وثقل. يحلّ المساء، وتتوالى الصور، ويغرق المتصفّحون في الصفحات. الحالة البيولوجيّة ستنبّه الأبناء، سيقرصهم الجوع، وسيتنبّه الصائمون منهم إلى وقت الإفطار. يرفع أذان المغرب، سيغلقون الصفحات ليتجمّعوا حول مائدة الإفطار، حيث الأمّ الحقيقيّة تتحرّك بأقصى سرعتها ليكون كلّ شيء جاهزاً قبل أن يقول: الله أكبر. تكون قد ملأت أكواب الماء، وضعت التمر في صحن صغير، صبّت الشوربة لتبرد قليلاً كي لا تحرق الألسنة، الأمّ ذاتها التي كانت منذ الصباح تجلس في الغرفة المجاورة، تتصفّح على شاشتها صوراً لباقات الورد، مع أغاني خاصّة بالمناسبة، وعلب الحلوى، والهدايا المغلّفة، وتنتظر أن يدخل عليها أبناؤها، فتأخذهم في حضنها، وتسمع منهم عبارة التهنئة التقليديّة، لكنّ الزمن اختلط عليهم، والتهمتهم صفحات عالمهم الافتراضيّ، ونسوا أنّهم لم يقولوا لها: كلّ عام وأنت بخير.