دراساتمقالات

الاستعمار / الديمقراطية، الامبريالية / العولمة -الجزء الاول -بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

بقلم الدكتور ضرغام الدباغ

الاستعمار / الديمقراطية، الامبريالية / العولمة-الجزء الاول –
بقلم الدكتور ضرغام الدباغ
هل الغرب الرأسمالي ديمقراطي حقاً … ؟ ألم يحدث في التاريخ كثيراً ولا يزال، أن يهرج أحدهم ويبالغ بالتهريج ليغطي على حقيقة صارخة كامنة فيه …؟
* هل الديمقراطية هي مجرد تبادل سلمي للسلطة فقط، كما يبدو ذلك في الظاهر، وهكذا يفهمها جمهور كبير في بلداننا، أم هي نظام اقتصادي قبل ذلك ؟
* هل الأنظمة السياسية في أوربا (العالم الرأسمالي) انبثقت من رحم تطور الأنظمة السياسية الأوربية في تعايش بين ثلاث قوى سياسية / اقتصادية / ثقافية : الكنيسة، الملوك والقياصرة، وأمراء ونبلاء الإقطاع. , وهيمنة البورجوازية، وانحسار دور القوى الأخرى لم يأت إلا بعد السيطرة الاقتصادية التامة للرأسمالية التي فرضت هيمنتها بصفة حاسمة.
كان عصر النهضة في تطوراته اللاحقة، بحكم الاستكشافات الجغرافية، والذي قاد إلى عصر ازدهار التجارة عبر البحار (الميركانتيلية ـ Mercantilism)، ثم إلى الثورة الصناعية، وهنا بدأت سطوة الكنيسة والكهنوت بالتلاشي والاضمحلال ولكن ليس بصفة حاسمة، بل في تراجع مكانتها التراتبي في التحالف الثلاثي الذي يقود الدولة والمجتمع والاقتصاد المؤسسة الدينية، الملوك والقياصرة، ونبلاء وأمراء الإقطاع، وسيتواصل التراجع دون توقف حتى الإنهاء الكامل لنفوذ القوى الأخرى.
وأمام غياب نصوص مسيحية مقدسة من الإنجيل أو أقوال المسيح عامة عن وجود حدود واضحة بين سلطة الله والدين التي تمثلها الكنيسة ورجال الدين، وسلطة البشر الدنيوية التي يمثلها الملك، والنبلاء وأمراء الأرض، وحيث لا ينبغي الجمع بين السلطتين، فتلكم كانت المشكلة التي تثار. فكل من السلطتين تطمحان للمزيد من الصلاحيات وقد أشير بالرموز إلى السلطتين بنظرية السيفين، غلاسنوس ) Glasnia ( سيف الكنيسة وسيف الدولة، ولكن التطور التاريخي كان يشير إلى تقدم سلطة الملوك وإلى تراجع سلطة الكنيسة، وعبثاً كانت تجري محاولات البابوات في استعادة هيمنتهم ونفوذهم الآخذ بالانحسار، فقد اندثرت نهائياً فكرة السلطة الكلية للبابوات التي أطلق عليها أولترامونتيه (Ultramontis) (التأييد لسلطة البابا المطلقة) وكانت تسعى إلى إخضاع الكنائس الكاثوليكية حيثما كانت لسلطة البابا في روما، ودافعوا عن حقه في التدخل في الشؤون الدنيوية للدولة.
وكانت نظرية السيفين(غلاسنوس) تنطوي على غموض في توزيع السلطات والاختصاصات، وعلى عدم الاستقرار نتيجة للتنافس بين السلطتين على النفوذ والهيمنة. وكان هناك بالطبع من يروج لفكرة أن يجتمع السيفان في يد واحدة، الملك أو الكنيسة. ولكن من الواضح أن الحركة كانت تدور لصالح الملوك، لذلك كانت الكنيسة وفلاسفتها يرفضون فكرة اجتماع السيفين في يد واحدة، لأنها ستعني سلطة الملك المطلقة وتضاؤل دور الكنيسة قائلين: ” من المستحيل على السيفين أن يجتمعا بيد واحدة، فما منحه الله ليس لأحد سواه أن يأخذه “.
وقد مثل عصر النهضة بأحداثه المفصلية الهامة (القرن 16 – 15) الذي منح الجرأة للعلماء والمفكرين والفنانين على التصريح بآرائهم وأفكارهم، وتعميق لفكرة إبعاد السلطة الدينية ومؤشر واضح أن ليس سوى الفكر الحر من يقود إلى تحولات تاريخية كبيرة، وكانت أبرز المفاصل في هذه المسيرة :
• الحركة اللوثرية 1517 : التي قادت ثورة داخل الكنيسة الكاثوليكية، ثم قادت إلى حركة ليبرالية عامة في الفكر والمجتمع الأوربي، ثم إلى إصلاح الكنيسة الكاثوليكية نفسها.
• الثورة الفرنسية 1789 : التي أطلقت العنان للفرد وحرياته وللفكر. ووضعت أسساً جديدة لنظام الدولة والمجتمع وحددت بوضوح كاف صلاحيات السلطات.
• الثورة الصناعية 1820 : التي قادت إلى تغيرات اجتماعية عميقة داخل مجتمعات البلدان التي شهدت هذه الثورة، تبلورات طبقية اجتماعية جديدة استلمت فيها البورجوازية القيادة بشكل حاسم من أيدي أمراء الإقطاع والنبلاء ورجال الدين ثم ابتدأت حقبة جديدة من العلاقات الدولية من عصر الاستعمار ونهب ثروات الشعوب.
• تطور الفكر الاقتصادي الليبرالي، وصار كتاب (ثروة الأمم) كتعاليم مقدسة للأنظمة البورجوازية، الذي وضعه المفكر الإنكليزي، آدم سمث (1723 ــ 1790) الذي وضع شفرة الأنظمة الديمقراطية بقاعدته الشهيرة ” دعه يعمل دعه يمر ” وهذه قاعدة اقتصادية لا علاقة لها بنظم تبادل السلطة. (سنة 1776) حين أصدر كتابه (بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم)، حيث ضمنه مبدأ أنصار “المذهب الحر/الطبيعي” الأساسي: دعه يعمل دعه يمر، الحرية التامة لاقتصاد السوق وابتعاد الدولة عن التدخل. والمفكر الآخر هو دافيد ريكاردو ريكاردو(1772ـ 1823).
وهذه الفقرات الأربعة الهامة، دارت تفاعلاتها ببطء نسبي على مستوى القارة الأوربية، فبدأت في بعض الدول الأوربية بشكل مبكر كهولندة أولاً ثم بريطانيا ثانياً، كنتائج للحملات الاستعمارية، وقادت مجموع هذه التطورات إلى تعزيز متواصل لمكانة البورجوازية الصناعية التي برزت كقوة اقتصادية قاهرة، وبدأ تشيد نظامها السياسي، ثم بدأت الفئات الاجتماعية كافة ترضخ لها دون مواربة، تعززت العملية من خلال تبلور الفكر السياسي الليبرالي، ثم نضوج الفكر الاقتصادي السياسي الليبرالي فاكتملت مستحقات النظام الليبرالي (الديمقراطي).
تبلور الفكر الليبرالي
كانت أوربا متعبة من الحروب الدينية / الطائفية، والبورجوازية الصاعدة تعد المجتمعات بالكثير من المنجزات والتقدم، ولكن هذا الأمر كان يتطلب دولاً قوية واستبعادا للعناصر التي تمثل العوائق أمام التقدم، ولم تكن تلك العناصر سوى الكنيسة والإقطاع الذي كان بدوره يترنح تحت وطأة التحولات الجديدة، حيث هجر أعداد غفيرة من الفلاحين الريف متجهين صوب المدن للعمل في الورش والمانفكتورات (Manufactour) التي بدأت أعدادها تتزايد ويتحول البعض منها إلى معامل يدوية كبيرة يعمل فيها أعداد غفيرة من العمال، والذين سيصبحون في المراحل المقبلة الرقم الصعب في المعادلة الاجتماعية وشأناً سياسياً مهماً.
وكانت الليبرالية Liberation (قوة التحرر) الكلمة السحرية التي شاعـت في الأعـمال والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية على حد السواء، حتى غدا مفهوماً عاماً. ” فالليبرالية بهذا المعنى هي أن يمتلك الإنسان ذاته، وبنفس الوقت القواعد المتعلقة بازدهاره وهيمنة سلطته على العالم بإخضاع الطبيعة والسيطرة عليها “. وعبر آدم سمث (أحد أهم مفكري تلك المرحلة)، أن المصالح الخاصة للأفراد تتناسق فيما بينها، والمصلحة الشخصية هي المحرك لمسيرة الإنسان وبالتالي لمسيرة العالم، وإن كل إنسان طالما كان لا يخرق قواعد العدالة، سوف يترك حراً بشكل مطلق في أتباعه لمصلحته الخاصة كما يروق له. وقد جسدت هذه النظرية قاعدة ” دعه يعمل دعه يمر “. (1)
انطلقت الليبرالية، كتيار، كمارد أنطلق من قمقمه، فلم يحده إطار وصار التحرر شعاراً وحركة وسوف تلد الثورات والانتفاضات، والتحولات الخطيرة على كافة الأصعدة، بل سوف تتغلغل إلى الكنيسة ذاتها وستخلق فيها التيارات، فقد كانت الليبرالية تياراً ثقافياً، أندفع فيه بحماسة أدباء وفنانون في تمجيد الإنسان وقدراته والإبداع الفني، أكدت فيه، أنه لا يمكن للإنسان أن يعمل إذا كان مقيد اليدين، كما لا يمكنه أن يبدع وأن ينجز طالما كان مقيداً بقيود الفكر والإرادة والحركة.
وقد سعى الليبراليون إلى تحطيم فكرة الحق الإلهي للملوك، وسوف لن تقبل سلطة مطلقة للملك، إلا أن تكون مقيدة بالدساتير، فهذه مسيرة قد انطلقت ولا سبيل لإيقافها، وليست المسألة سوي وقت فحسب. وستكون تلك من مهام المرحلة المقبلة، وكذلك تحرير الإنسان وإنهاء الهيمنة الدينية وتسلطها على الدولة والمجتمع والأفكار. كما كانت لهم أهدافهم السياسية التي تمثلت بالمساواة، حق الملكية الخاصة واحترامها، حرية الرأي والمعتقد والتفكير، حرية النشر، إبعاد الكنيسة عن التدخل بشؤون الدولة، احترام حقوق الإنسان، والإعلان بأن حقوق الإنسان والتحرر هي من الحقوق الطبيعية، طلب العلم والمعرفة، هي من حقوق المواطن الأساسية، حرية التجارة وعدم تدخل الدولة في الفعاليات الاقتصادية(وفي ذلك مذاهب اقتصادية شتى)، حرية الملاحة في البحار، المطالبة بنظام عالمي للقوانين وصولاً إلى القانون الدولي.(2)
في القرن السابع عشر والثامن عشر، كانت الليبرالية تعني قبل كل شيء التحرر من سلطة الكنيسة، ورجال الكهنوت وتسلط اللاهوت على الفكر والنشاطات الثقافية بصورة عامة، وضلالها القاتمة على الاقتصاد، لذلك فإن مفكراً إنسانياً مثل برتراند رسل يدلي برأيه في هذه المفردات بقوله ” الليبرالية هي رد فعل على الحروب الدينية والتحرر من الخضوع لسلطة الكنيسة المادية والمعنوية” (3) وباعتبار أن اللاهوت يقف موقفاً معادياً من الفكر والفلسفة “، إلا تلك التي يتم تطويعها وتحريفها بحيث تتلائم مع طروحات اللاهوت والخرافات وإلا فإنها من أعمال الشر والشيطان. لذلك كانت الرغبة عارمة في التحرر من هذا القيد الذي يرهق الفكر السياسي بالدرجة الأولى.
وثمة حقيقة لا بد من ذكرها، هي أن الليبرالية كمصطلح سياسي / اقتصادي / ثقافي، قد أرتبط بشكل وثيق باتجاهين:
الأول / ظهور البورجوازية الرأسمالية انتقلا من مرحلة البورجوازية التجارية وظهور أولى أجنة الرأسمالية في أحشاء الاقتصاد الإقطاعي. ومن أجل أن ينمو ويترعرع هذا الوليد الجديد، كان لابد من إزاحة العراقيل أمامه والمتمثلة بالإقطاع واللاهوت المتشدد.
الثاني / حركة الإصلاح الديني واللوثرية بصفة خاصة، ومنجزات عصر النهضة الفكرية والعلمية والأدبية، مثلت في محصلتها تياراً تحررياً أطلق سراح تفاعلات كانت حبيسة، قادت في النهاية ذيوع التيارات الليبرالية وبدورها قادت إلى مراحل أكثر تقدماً في استبعاد الأفكار الرجعية وهيمنة الكنيسة السياسية والفكرية.
فالرأسمالية التجارية الميركانتيلية (Mercantilism) قادت إلى الرأسمـالية الصناعية، حيـث بدأت أولى براعمها تزدهر في المدن الكبيرة (لا سيما في غرب أوربا) لم تولد من لا شيء، بل هناك أساساً ” عوامل تاريخية ساعدت على قيام الصناعة كأتساع السوق وتراكم رؤوس الأموال والتغيرات التي طرأت على الوضع الاجتماعي للطبقات، ووجود عدد كبير من الأشخاص الذين فقدوا مورد رزقهم وحدوث تغيرات في الأوضاع الاجتماعية والسكانية إذ هجر الناس الأرياف إلى المدينة وتطور الورش إلى مصانع”.(4)
وتدريجياً بدأ حلول البورجوازية كبراعم الرأسمالية الصناعية تأخذ أبعادها في المجتمع، حيث أن آليات عمل هذا النمط من العمل الاقتصادي يستلزم أطلاق قوى رأس المال لتعمل بأقصى طاقاتها. الم يقل مارتن لوثر المرن وكالفن المتطرف(دينياً) على حد السواء، بضرورة أن يعمل الإنسان على زيادة ربحه بكافة الوسائل والأساليب..! فإن أحد مزايا العمل الاقتصادي في ظل الاقتصاد البورجوازي، تمثلت بإزالة كافة العوائق أمام الرأسمال المندفع لتحقيق الأرباح والتراكم ثم الانتشار والتوسع، بما في ذلك تقليص سلطة الدولة أو تقيدها إذا ما وقفت أمامه عائقاً، بل وحتى انسحابها إذا كانت المرحلة تستدعي ذلك ” فقانون العرض والطلب وقانون المنافسة الحرة يشكلان القانونين الأساسيين من قوانين الرأسمالية” ويمثلان أدوات التوازن الاقتصادي بما ينفي أو يقلص مبرر تدخل الدولة. وعلى الصعيد الاجتماعي، فإن هذه القوانين قد دفعت بنفوذ النبلاء ورجال الدين إلى الخلف ولكن مع استمرار بقائهم عوائق بارزة في المجتمع، وإن كان ذلك مترافقاً مع الانسحاب التدريجي لتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، مقابل ظهور الاقتصاد الليبرالي، حيث استطاعت البورجوازية أن تعزز مكانتها على الصعيد الاقتصادي والسياسي في تحرك وتداخل مستمر للقوى الاجتماعية. (5)
نلاحظ إذن مسألة مهمة، أن تعديلاً مهماً قد طرأ على التحالف القيادي للدولة والمجتمع إذ غاب أو بهت فيه دور الكنيسة، وتلاشى أو كاد دور الإقطاع. أما الحاكم (الملك) فقد كان مضطراً لأن يأخذ بنظر الاعتبار دور البورجوازية المتنامي وقوتها الظاهرة، المالية في المقام الأول، وبذلك أضحى ترتيب الموقف القيادي: الدولة (الملك)، ثم البورجوازية (متمثلاً بأصحاب رؤوس الأموال / المصارف، أصحاب المصانع والورش الكبيرة وممثليهم)، وأخيراً دور هامشي غير فعال لبقايا الإقطاع، ونفوذ الكنيسة المعنوي. ولكن منذ عصر الليبرالية سيطغي دور البورجوازية على الدولة، إذ ستنسحب الدولة من مجال تأثيرها الاقتصادي مقابل تصاعد هيمنة البورجوازية على الحياة الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية والثقافية ويتغلغل نفوذها تدريجياً ويتصاعد دورها في القرار السياسي وقيادة الدولة، بل وهناك في رحم الزمان مرحلة مقبلة غير بعيدة ستصبح فيه الدولة مجرد أداة بيد البورجوازية التي سيفشي نفوذها كافة مرافق المجتمع وتغدو هيمنتها مطلقة، وسيصبح الملوك والرؤساء مجرد موظفين لدى أصحاب رؤوس الأموال والمصارف والاحتكارات العملاقة، وهو بالضبط ما أصبحت عليه ملكيات عريقة في أوربا، فأصبحت كيانات رمزية شكلية ليس إلا..
وكانت البورجوازية (التجارية والصناعية) قد بزغ فجرها في الحياة الاقتصادية لا تتقبل فكرة سلطة الملك المطلقة، فذلك ينطوي على أضرار محتملة بأنشطتها وشراهة فعالياتها. لذلك كانت تدعو إلى “إنكار الحق الإلهي للملوك ” فقد بدا للناس أن هذا الحق لا معنى له، بل هو أحد عوائق التقدم (كونه يشير إلى سلطة غير محدودة للملوك) مقابل تصاعد الدعوة التي قادها مفكرون وفلاسفة، إلى احترام التعليم والدستور والقوانين. وهكذا فقد شمل مفهوم الليبرالية أصعدة السياسة والاقتصاد والتحرر الثقافي من ديكتاتورية الكنيسة الفكرية ” فقد رفضت الليبرالية أيضا السلطة التي كانت الكنيسة تدعيها للتشريع في أمور العلم والفلسفة”. (6)
أما على الصعيد الثقافي، فقد كانت الليبرالية زاهية في أبهي (قوة التحرر) صورها فقد بدا أن القطاع الثقافي قد أنتعش بحلول الليبرالية وازدهارها، كما تطور القطاع الاقتصادي، بل بدا أن كلا القطاعين مكمل أحدهما للآخر، وكان الناس يتداولون أعمال شعرية وأدبية وفنية سراً، أو كانت الكنيسة تفرض قيودها ورقابتها الصارمة على الأعمال الفكرية والثقافية سواء كانت أعمال علمية صرفة أو فلسفة وأدب وشعر وفنون، وأن رفع هذا القيد القاسي أو تخفيفه أدى إلى ازدهار الحركة الثقافية والعلمية، وكانت تلك المرحلة وما تلاها، عصر الاختراعات والاكتشافات المفيدة للصناعة والعلوم بصفة عامة، وللثقافة أيضا، حيث شيدت دور الأوبرا الفاخرة والمسارح والمتاحف لأول مرة، وازدهرت الموسيقى الكلاسيكية وتنامي اهتمام الناس بالفنون والآداب، وبد وكأن عصراً من الظلام الدامس قد أنزاح عن كاهل الشعوب، وبدأت تدريجياً تدب فيها الحياة ثم تضج بالحركة.
دور ومكانة الفكر الاقتصادي الليبرالي الذي قاد للنظام الديمقراطي :
آدم سمث 1723 ـ 1790 المفكر الإنكليزي الذي كان له دوره الهام في تكامل الفكر الليبرالي، من خلال مؤلفاته وأهمها: كتابان هامان في (نظرية العواطف الأخلاقية) والثاني وهو الأهم بتقديرنا ( بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها) صدر عام 1776 ويعد تأسيساً لعلم الاقتصاد السياسي الرأسمالي. وإذا ضربنا صفحاً عن أراء آدم سمث الأخلاقية اللاهوتية، فهي تبدو قليلة الأهمية حيال آراؤه الاقتصادية / السياسية التي أرست قواعد هذا العلم الذي سيلعب الدور الخطير في مستقبل الاقتصاد وسيكون رديفاً ضرورياً لفهم السياسة وتوجهاتها في الداخل والخارج. وأراء سمث الاقتصادية التي تنظمها كتابة ثروة الأمم، مثلت الدليل الآيديولوجي العلمي الأول لنشاط البورجوازية والوصفة التي كانت هي الدواء الشافي والمحرك الدافع للاقتصاد الرأسمالي.
يقول آدم سمث ” أنه يريد أن يكفي الناس شر تدخل الحكومة (في الفعاليات الاقتصادية) وتعسفها” حيث تترك الصناعة حرة من كل قيود. وأن قانون المنفعة كفيل بتنظيم الشؤون الاجتماعية، بحيث إذا كفت الحكومة عن التدخل وتركت قانون تقسيم العمل (وهي أطروحة كان سمث قد تقدم بها ) بحسب الكفايات وقانون العرض والطلب يفعلان فعلهما، رأينا مصلحة المنتج ومصلحة المستهلك تتطابقان، فيضع سمث هذه القاعدة: كل أنسأن هو حر طالما لم يخالف قانون العدالة، وهو حر في أتباع الطريق الذي تدل عليه مصلحته، وهو يقبل بالمنافسة التجارية بكافة وسائلها، ولا يقر للعامل بحد أدنى من الأجر، بل يدعه تحت رحمة صاحب العمل.(7)
ولم تكن البورجوازية وأصحاب رؤوس الأموال والاستثمارات يريدون أكثر من هذا التنظير لأهدافهم، فليس هناك يرى المال والأرباح في القاموس الاقتصادي السياسي للرأسمالية، ولكن الأهداف الإنسانية والمعاني الاجتماعية، فهي قضايا لا قيمة لها البتة. وكان سمث قد توصل من قبل إلى نظرية تقسيم العمل (كما نوهنا قبل قليل) فأهتم بزيادة أنتاج السلع الصناعية. وإذا ما تم تجزأة العمل إلى عدة مراحل يقوم على كل مرحلة عامل متخصص، وكانت النتائج التي توصل إليها مبنية بلا شك على معطيات الإنتاج (😎 أي على استبيانات ووقائع علمية.
ولا يريد آدم سمث أن يكون للدولة أي دور حتى في القضايا الاجتماعية التي لها جانب أخلاقي أو عاطفي. وبرأيه فإن ذلك ينطوي على أضرار لحرية العمل والإنتاج، ولا يريد أن تتدخل الدولة(الحكومة) لحماية الضعفاء أو لصيانة الأخلاق العامة، بل أنه يقصر وظيفتها على منع العنف وإقرار الأمن. وقد ظن أنه لا يوجد وسط ما يخافه من استبداد الحكومة، وبين ما يراه من إطلاق للحرية وهو تدخل الحكومة في حدود معقولة. والواقع أن آدم سمث طالب الدولة بالتدخل، ولكن فقط عندما يتطلب الأمر حماية النشاط الاقتصادي الرأسمالي، وهذه المطالبة ستغدو ملحة في المرحلة المقبلة عندما تصبح البورجوازية وقواها الصناعية هي القوة الوحيدة في الساحة، أما الدولة فيتعين عليها في المستقبل أن تجد فرص العمل والاستثمار في الداخل والخارج وأسواق لمنتجاتها.
وكان ذلك ما تنبأ به سمث، أو أنه أدرك أن الحاجة البسيطة اليوم سوف تتضاعف في المستقبل، لذلك أكد في كتابه “ثروة الأمم” أن موقع بلاده كجزيرة هدفها هو التوسع البحري والهيمنة على خطوط التجارة التي ستعتمد عليها الصناعة سواء في استيراد المواد الخام أو في تصدير الإنتاج، وفي ذلك تلبية لمصالح إنكلترا (الرأسمالية الإنكليزية بوجه أدق) وقد طالب بحرية التجارة والبحار ولكن بهدف حماية مصالح بريطانيا الاستعمارية في القارة الجديدة (أميركا) وساند قوانين الملاحة التي فرضتها بريطانيا على مستعمراتها الأميركية التي كانت تهدف على احتكار تجارة المستعمرات. (9)
وبهذه الأفكار يعد آدم سمث (Adam Smith) بحق واضع الدليل النظري الأول للفكر الرأسمالي في مجال الاقتصاد السياسي، وما تزال أفكاره حتى عصرنا هذا حية في الفكر الاقتصادي البورجوازي، وإن برزت هناك مدارس أخرى وفلاسفة وعلماء اقتصاد (في الفكر الاقتصادي الرأسمالي) أمثال: دافيد ريكاردو(David Ricardo)، اللورد جون كينز (1883 ــ 1946) (John Maynard Keynes)، وهما بريطانيان أيضاً، وكذلك ميلتون فريدمان(1912 ــ 2006) (Milton Friedman) المعاصر (وهو أمريكي)، وجميع هذه الأفكار تهتم بصورة رئيسية حول دور الدولة في الاقتصاد الرأسمالي وتدخلها عندما يكون ذلك ضرورياً ويستلزم إصدار تشريعات، لإنقاذها من الأزمات الدورية الخانقة: التضخم ـ الكساد ـ الانكماش ـ حالات الهبوط المفاجئ في أسعار العملات الرئيسية، أو في تدخل المصرف المركزي (التابع للدولة) لتعويم شركات عملاقة ـ التدخل بقوة الدولة في أرجاء العالم لحماية مصالح الاحتكارات، وسوف يكتسب هذا المفهوم تدريجياً وبمرور الوقت إلى حقيقة مؤكدة: الدولة هي أداة الطبقة البورجوازية في فرض الهيمنة في الداخل والخارج. وأن فكرة تدخل الدولة لتصحيح بعض مسارات الحياة الاقتصادية (الكنزية) ليست مستحبة (رغم ضرورتها) في الاقتصاديات الليبرالية (الديمقراطية).
ولكن الأمر لم يبق كذلك بشكل خالص، فنشبت الخلافات على كافة الصعد وفي المقدمة التنافس الاستعماري، ثم التنافس على الثروة والنفوذ والمستعمرات التي مثلت أهدافاً اقتصادية كمناجم المواد الخام، ، وسوق لتصريف السلع الجاهزة، ومثلت استراتيجياً القواعد العسكرية والسياسية والاقتصادية في أرجاء العالم، وساقت أبناء المستعمرات إلى حروب الضم والإلحاق الاستعمارية، كما شكلت من جهة أخرى مراكزاً للتوسع الرأسمالي / التجاري، والأمر في نهاية المطاف خرج وأبتعد عن إطار التنافس الحر الخال من الأطماع. فتولت دول تصفية ممتلكات دول أخرى، وتحاربت غير مرة، وهكذا أصبحت دول استعمارية كانت في المقدمة، تراجعت مكانتها الاقتصادية والسياسية بسبب معطيات طبيعية / موضوعية (المساحة والسكان، كهولندة و بلجيكا)، أو عجزت عن تطوير كياناتها السياسية أسباب ذاتية / موضوعية كأسبانيا والبرتغال. أو دول استعمارية فقدت مستعمراتها نتيجة الحروب كألمانيا وإيطاليا.
هكذا تأسس النظام الرأسمالي على بقايا عصور الملوك (تمكنت بعض الملكيات من مسايرة هيمنة البورجوازية الصناعية: بريطانيا (كندا، استراليا، نيوزيلندة)، هولندة، بلجيكا، الدنمرك، السويد، النرويج، وأخيراً أسبانيا)، وبإزاحة شبه شاملة لسيطرة ونفوذ الكنيسة، ثم بتقليص كبير لنبلاء الإقطاع، ومنهم من تحول إلى الصناعة، والمضاربات العقارية، ولكنهم فقدوا نفوذهم السياسي بالكامل.
النظام البورجوازي لم يكن ليقبل وجود شركاء ولا حتى بنسب بسيطة، الكل أو لا شيئ، وعلى هذا الأساس لم تقبل بالنظم الأخرى، كالنظم الاشتراكية ولا بمبدأ (Peaceful coexistence) التعايش السلمي مع أنظمة رغم خلافها الآيديولوجي / الاجتماعي معها، وحتى الأفكار الاجتماعية النبيلة، التي تدعوا للعطف بالفقراء، حتى فيما بعد بدأ النظام الاشتراكي (الأنظمة الشيوعية، قبلت بتعديلات على نظامها منها إلغائها شعار ” ديكتاتورية البروليتاريا” وحتى تصفية ملامح أساسية في نظامها الاجتماعي كدولة روسيا الاتحادية.
ولكن الأنظمة الرأسمالية العالمية كانت في غضون ذلك قد استكملت بناء نظام المتروبولات، والمراكز والنظم المحيطة، واستكملت بناء كياناتها السياسية بما يهدف إلى شيئ رئيسي وسواه تفاصيل تحتمل المناقشة، هو أن يكون النظام رأسمالياً وفق قواعد وقوانين النظام الرأسمالي وهذا هو النظام الديمقراطي وليس شيئ سواه.
من ذلك مثلاً أنها لم تكن لتقبل اعتبار النظام الألماني (العهد النازي) رأسمالياً بصفة تامة، وكذلك النظام الإيطالي الفاشستي (عهد موسوليني)، أما عندما أبدى هذا النظامان الرغبة والإرادة في دخول ميدان القوى العظمى، وتعديل خارطة توزيع القوى، قادت هذه إلى تحالفات سياسية لإنقاذ خارطة المصالح، فكانت بريطانيا وفرنسا ضامنتان لسيادة بولونيا، وفي الواقع، فإن التحالف البريطاني الفرنسي كان له هدف رئيسي هو منع توسع ألماني جديد في أوربا. واستعادة ميزان القوى في أوربا وفي العالم، فاندلعت الحرب العالمية الثانية مع القوى الفاشية والنازية، رغم أن النظامان كانا رأسماليان بالملامح العامة والتفصيلية.
وإذا كان الهيمنة الاقتصادية، قد حقق للرأسمالية الهيمنة والنفوذ السياسي في الداخل، فإن التفوق العسكري، ضمن لها التوسع في الخارج، فإن هذا لم يحدث إلا بعد أن تحولت البلدان الرئيسية (المراكز ــ المتروبولات) إلى قلاع للاستبداد السياسي والاقتصادي، باستخدام مكثف للقوة المسلحة، كالولايات المتحدة التي فقدت روحها التحررية مع بداية الاستقلال عن بريطانيا، وتنكرت للروح الثورية التي ألهبت مشاعر الفقراء والكادحين والعبيد، الذين جلبوا من قارات أخرى ليعملوا كقوى عمل مجانية في استصلاح الحقول وتنكرت لشعوب وأمم ومثقفين وقفوا إلى جانبها في سبيل نيل استقلالها وحريتها. بل وقمعت بقسوة دموية الحركات الاجتماعية والمطلبية في بواكير عهد الصناعة، وتحولت بسرعة إلى قوة بأيدي البورجوازية الصناعية الناشئة، وأصحاب الأملاك والأثرياء والمرابين وقوى رأس المال، ووضعت أسس الدولة الرأسمالية الاحتكارية، فأسست الأجهزة القمعية التي مارست ديكتاتورية الرأسمالية، والدليل هو أن حزبان فقط (الجمهوري والديمقراطي) يتناوبان على حكم البلاد من أكثر من 300 عام. ومثل الولايات المتحدة ينطبق القول على بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا إلى حد ما.
والدول الرأسمالية تمارس القمع داخل مجتمعاتها، ولكن بنعومة، وبدون مبالغة في القمع كما يحدث في البلدان النامية. ولكنها حيال خطر ملموس على أمنها، فإن تصرفها يكون سريع وحاسم ولا يخلو من القسوة. أطلعنا مرة على قوائم الممنوعين من دخول الولايات المتحدة .. الأرقام مذهلة، ومن مختلف الدول حتى الصديقة. ومن بين الممنوعين أدباء وكتاب وفنانين مرموقين. أما المكارثية (نسبة إلى ماك أرثر وزير الداخلية الأمريكي) فهذه لم تحدث قبل مئة عام، بل في نهاية الأربعينات والخمسينات، وهي حركة أمنية جرى خلالها توجيه الاتهامات الخطيرة (سجن نحو 200 شخص) وطرد من الوظيفة ولوحق نحو (10,000) شخص دون إثبات، فجرى خلالها اجتثاث واعتقال أعداد غفيرة من المواطنين الأمريكان، بل وأسقطت الجنسية عن بعضهم كالفنان تشارلي شابلن والعازف لويس آرمسترونغ، والممثل سترلينغ هايدن، والسياسي مارتن لوثر كينغ، والعالم البرت انشتاين والكاتب ارثر ميللر وفنانين وكتاب آخرين، وحدثت أعمال مماثلة في دول رأسمالية أخرى ولكن بضجة أقل.
وفي المرحلة الراهنة التي لم تتخذ بعد شكلها النهائي، الرأسمالية عبرت مرحلة الإمبريالية إلى مرحلة العولمة (Globalisation) : السيطرة الكلية على العالم، ولكن نشوء متروبولات رأسمالية متعددة، سيعقد الأمر بهذه الدرجة أو تلك (بما في ذلك الاتحاد الأوربي، اليابان وكتلة نمور آسيا). سيزيد احتدام الموقف، أو في قيام أنظمة رأسمالية إمبريالية تطورت عن النظم الشيوعية وهي تتغول يوماً بعد يوم، وتستفيد من التناقضات التي تعم العالم الرأسمالي، وتطرح نفسها كنماذج رأسمالية جديدة، تبدو مقنعة في كثير من الأحيان(كالصين وروسيا). يحدث هذا وسط نمو اتجاهات عديدة ضمن الرأسمالية، ولكنها تنحو مناحي انعزالية، وتطرح بعضها مواقف وطنية / قومية في أوربا وحتى في الولايات المتحدة.، ودول لها اقتصاديات واعدة(كالهند والبرازيل)
اليوم وبعد أن ترسخ النظام الرأسمالي بدرجة موثوقة، في الديمقراطية الحالية لمرحلة الرأسمالية العالمية، للمواطن الحقوق التي يمنحها له القانون، وإذا أراد الاحتجاج فله ذلك ولكن بطريقة تحددها الدولة (تحدد الزمان والمكان وحتى شعارات التظاهر أو الاحتجاج)، وخارج ذلك بمليمتر واحد سيواجه بحزم. ومن غير المقبول بأي صورة الحديث عن مجتمع يخالف في النتيجة النهائية النظام الرأسمالي وقيمه وأصوله. فالمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد وضعت أسسها بحيث يرفض أي تعديل أو تغير وبأي وسيلة كانت.
البلدان (الديمقراطية) في المرحلة الراهنة تصدر نماذجها بالقوة المسلحة تريد فرض النتائج التاريخية المتفاوتة في التدرج وفي النتائج أيضاً، تصدرها معلبة تحت عبارة ” الديمقراطية ” مستغلة ضعف التشكيلات السياسية والاجتماعية والثقافية للبلدان النامية تفرضها بوسائل الضغط والإكراه وصولاً إلى درجة الغزو المسلح، متجاهلة مستوى التطور التاريخي والاقتصادي والاجتماعي، وتجربتها التاريخية. ومتجاهلة حقيقة أن النظم الرأسمالية اليوم نفسها متفاوتة حتى في المعطيات الأساسية. فبالإضافة إلى الخلاف بين الأقطاب الرأسمالية على مفردات عديدة، فهناك خلاف في عناوين رئيسية بين الأقطاب الرأسمالية والصين مثلاً، ثم مع روسيا، وهذان القطبان الرأسماليان يطرحان تصوراً مختلفاً لصورة المجتمع وعلاماته، ناهيك عن تصاعد الخط الشعبوي اليميني المتطرف في بلدان رأسمالية كالولايات المتحدة، ومؤشرات أخرى مهمة في بلدان أوربية، الأمر الذي يطرح تساؤلاً مهماً ما هي ملامح الديمقراطية وما هي أصولها الفكرية والتاريخية التي يراد تطبيقها في البلدان الواعدة، لأن تكون مقبولة ضمن المناخ الدولي العام، ولا تستهدف كياناتها السياسية، لا بالعقوبات، ولا بالمقاطعة أو الحصار أو إجراءات أخرى وصولاً ربما إلى أعمال تدخل عسكرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب