مقالات

جمهورية الثقافة الديمقراطية الشعبية في حداد!

جمهورية الثقافة الديمقراطية الشعبية في حداد!

مالك التريكي

قبل سنوات غرّد أشهر مقدمي البرامج الثقافية التلفزية في العالم برنار بيفو على تويتر: «لقد صارت استضافتي كلما توفي أحد الكتّاب عادة راسخة لدى الإذاعات إلى حد أنها سوف تتصل بي يوم إعلان خبر وفاتي». تغريدة طريفة مرحة، ولكنها قوية الدلالة شهادةَ ونبوءة. الشهادة: بيفو هو أول اسم يخطر بالبال في حالات التعريف بالكتّاب واستذكارهم، فهو عُمدة قرية الكتّاب والأدباء، ومؤسس جمهورية المواطنين القراء منذ أطلق مجلة «لير» (أن نقرأ) التي لا تزال في نجاح مستمر منذ 1975. أما النبوءة فقد تحققت، أو كادت: أولا، لأن المقتطفات المثيرة للحنين من برنامجيْ بيفو الشهيرين، «أبوستروف» و«حساء ثقافي» قد كانت طاغية الحضور في جميع الحصص الإذاعية التي خصصت لذكراه بعدما أتى نعيه يوم 6 مايو. وثانيا، لأن جميعها حرصت على أن تشمل قائمة الضيوف كلا من فرانسوا بونيل وأوغسطين ترابنار لأن هذين الإعلاميين هما وريثا بيفو الشرعيان السائران على نهجه في تقديم البرامج المتخصصة في التعريف بالكتب والكتّاب والترويج لأحدث الإصدارات، أي البرامج الملتزمة بنشر المعرفة والثقافة على أساس الإغراء بـ«لذة النص» وبهجة القراءة.
والواقع أن «المكتبة الكبرى» الذي أصبح يقدمه ترابنار، مستلما المشعل من بونيل الذي انفتحت له آفاق الإنتاج السينمائي الطموح، هو برنامج أكثر تفنّنا من «أبوستروف» و«حساء ثقافي» من حيث قيم الإنتاج التلفزي التي تشمل تطوير القوالب البصرية وتنويع العناصر المشهدية واستثمار التقارير الميدانية. وتفسير ذلك أن الصناعة التلفزيونية تقدمت كثيرا خلال العقود الخمسة الماضية، كما أن الوريثين واعيان بوجوب أن يجمع برنامجهما ليس بين نخبوية المضمون وديمقراطية الطرح فحسب، بل وكذلك بين الإمداد الفكري والإمتاع البصري، أي أن يكون شعبيا وفي المتناول مثلما كانت برامج بيفو في عهدها وربما أكثر. إذ ينسى الكثيرون، ممن يقولون جازمين بأن التلفزيون كائن ترفيهي ضعيف لا طاقة له بتعقيدات الثقافة والفكر والآداب، أن «أبوستروف» كان يبث في التاسعة والنصف من ليلة السبت (الجمعة ليلا) أي في ساعة الذروة من أهم ليلة، وأنه بقي برنامجا جماهيريا يتجمع الملايين من أجله في بيوتهم في فرنسا وسائر البلاد الفرنكوفونية.

لم يحدث أن خلا التاريخ التلفزي الفرنسي مرة من موعد أو مشهد ثقافي معروف، بل ظل يزدان طيلة الأعوام الستين الماضية ببرنامج ثقافي أو أكثر، فإن الإعلام الثقافي التلفزي قد تحول إلى شبه اختصاص أو امتياز فرنسي

ولهذا كتبت عنه النيويورك تايمز عام 1985 أنه أشهر برنامج كُتُب في العالم وأنه يجذب 5 ملايين مشاهد في ساعة الذروة!
ولأنه لم يحدث أن خلا التاريخ التلفزي الفرنسي مرة من موعد أو مشهد ثقافي معروف، بل ظل يزدان طيلة الأعوام الستين الماضية ببرنامج ثقافي أو أكثر، فإن الإعلام الثقافي التلفزي قد تحول إلى شبه اختصاص أو امتياز فرنسي. أما بريطانيا، مثلا، فليس عندها ولو برنامج ثقافي تلفزي واحد، باستثناء ذلك الذي كان يبث على بي بي سي 2 في الثمانينيات والتسعينيات قبل منتصف ليلة السبت بنصف ساعة، بعنوان «البرنامج المتأخر» كما لو أنه يستهدف شريحة المصابين بالسهاد! ومع ذلك لم يصمد إلا بضع سنين.
ولكن رغم الامتياز الفرنسي في مجال الإعلام الثقافي التلفزي، فإن تجربة البث في ساعة الذروة لم تتكرر بعد توقف أبوستروف. إذ إن حساء ثقافي كان يبث في العاشرة وأربعين دقيقة ليلا. وكانت الإدارة الجديدة تريد أن تقذفه أبعد في جوف الليل. ولهذا نشر بيفو في تلك الفترة كتابا طريفا (ولكنه ليس مشهورا شهرة كتابيْه «مفردات حياتي» و«مهنة القراءة») بعنوان «ملامة إلى ربة بيت دون الخمسين من العمر». وربة البيت المقصودة تركيب إيديولوجي تواطأ على تكريسه المسوّقون والمعلنون. إنها المشاهِدة النموذجية التي يقال إنها تمثل أغلبية الجمهور الغالبة. بل هي الإلهة المقدسة في ديانة الإعلان والتسويق لأنها ناظِرُ الميزانية العائلية وصاحب القرار في الإنفاق والاستهلاك، فلا ينبغي للقنوات أن تبث إلا ما يغريها من مواد التسلية.
كان بيفو منقطعا للقراءة في البيت، ولا يعرض على الشاشة إلا ما قد قرأ فعلا فاستوعب وأحب. وكانت برامجه محصلة تفاعل وتكامل بين صناعة النشر وصناعة التلفزة، حيث كانت دور النشر تمده بعشرات الإصدارات كل أسبوع وتتنافس على الفوز بفرصة لاستضافة أحد كتّابها على الشاشة لأن ذلك ضمان ازدهار فوري للمبيعات منذ اليوم التالي!
بيفو صحافي ثقافي ذو سيرة استثنائية مطرّزة بالفتوح. لما قرر مغادرة العمل التلفزي عام 2001 كان الخبر فاجعا وألم اليُتم كاسحا إلى حد أن المؤرخ بيار نورا قد عدّه موجبا لحداد وطني!

كاتب تونسي

كاتب من تونس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب