مقالات

الحرب في بر رفح

الحرب في بر رفح

عبد الحليم قنديل

 

حتى لو جرى سحب قوات الاحتلال من معبر رفح على الجهة الفلسطينية، وإجراء ترتيبات هجينة لإدارة عمل المعبر بديلا عن سلطة المعابر التابعة لحكومة حماس في غزة، فلا يعني ذلك نهاية قصة غزو رفح، وكما قلنا في مقال الأسبوع الفائت المعنون «عودة إلى دراما رفح»، الذي انتهى نصا إلى أنه سواء تم الغزو بعد أيام أو بعد أسابيع، فقد صارت رفح الصغيرة عنوانا لمعركة الفصل النهائي في الحرب كلها، وإنا معكم لمنتظرون نصر الله لعباده الصابرين المقاومين.
وقد بدأ الغزو بعد أيام فعلا من نشر المقال، وإن بدت بعض مشاهده استعراضية مشحونة بإيحاءات مقصودة، من نوع إنزال العلم الفلسطيني ورفع العلم الإسرائيلي، وتصوير الوصول الإسرائيلي لمعبر رفح على الجبهة الفلسطينية، وكأنه فتح عكا، وإكمال لاحتلال غزة، ووصل الاستفزاز الإسرائيلي للجوار المصري إلى سقوف خطرة، لن تؤدي قطعا إلى نشوب حرب مصرية إسرائيلية، ولا إلى طي صفحة ما تسمى معاهدة السلام المرفوضة، بتطبيعها المدان من الأغلبية الساحقة للشعب المصري، وهو أكثر الشعوب العربية عداء لكيان الاحتلال وكراهية للسياسة الأمريكية، لكن لا أحد عاقلا يتصور في المدى المنظور، أن يعود أي نظام عربي لسيرة الحرب مع العدو الإسرائيلي، اللهم إلا إذا جرت مفاجآت وتغيرات تعدل الموازين المقلوبة.

لا قيمة لاتفاق أو صفقة، دون أن يكون هدفها الجوهري وقف الحرب والعدوان، وهو ما لا يريد نتنياهو الإقرار به، وإلا كان معناه الإقرار بهزيمة كيان الاحتلال، ، ونهاية سيرة نتنياهو السياسية

وفي التفاصيل المسكونة بالشياطين، قد تفلت رصاصة طائشة عابرة للحدود، أو تلجأ إسرائيل لإجبار مئات آلاف الفلسطينيين على العبور إلى سيناء المصرية، وهو ما لن يكون بوسع السياسة المصرية الرسمية تحمله، وموقفها المعلن يرفض تهجير الفلسطينيين خارج أراضيهم، قسريا أو طوعيا، وهو ما تعمل السياسة الأمريكية الراعية لما تسمى معاهدة السلام على تجنبه، وتسعى مع المصريين المعنيين على الدفع قدما بما يعرف إعلاميا بصفة المقترح المصري، الذي أعلنت حركة حماس وأخواتها موافقتها عليه، بما وضع حكومة الاحتلال في مأزق، لم تجد مخرجا منه، سوى الشروع في تنفيذ خطة غزو رفح، وبدعوى تشديد الضغط العسكري على حماس وأخواتها، مع زعم ضرورة القضاء على ما تسميه الأربع كتائب المتبقية لحركة حماس في رفح، والتمهيد لما يسميه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو باستكمال النصر المطلق، وهو وهم لن يتحقق أبدا، لا على موائد التفاوض في القاهرة وغيرها، ولا في ميادين القتال وجها لوجه مع قوات المقاومة الفلسطينية، التي تخوض وحدها حربا فريدة مع قوات الغزو الإسرائيلي، التي فشلت في تحقيق أهدافها الأصلية المعلنة من حرب الإبادة الجماعية، وقد دخلت من أيام إلى شهرها الثامن، واستأسدت فيها قوات الاحتلال بأسلحتها وقنابلها الأمريكية على المدنيين الفلسطينيين العزل، ورغم تدفق شلالات الدماء وزلازل الدمار المرعب، وتجاوز حصيلة الضحايا لرقم المئة والثلاثين ألفا إلى اليوم، مع الإفناء شبه الكلي للمباني والمستشفيات والمدارس والمخابز والمساجد والكنائس، ودفع الفلسطينيين إلى الموت الجماعي بالتجويع والتعطيش والأوبئة، وبعد القصف بالقنابل الأمريكية زنة الألفي رطل، ورغم كل هذه المعاناة المفزعة التي لا يحتملها بشر، فقد صمد الشعب الفلسطيني بغالبيته إلى اليوم، وكان صموده الأسطوري سندا هائلا لقوات المقاومة فوق الأرض، وبين أنقاض المباني المهدمة، وتحت الأرض في شبكة أنفاق رهيبة لم تفك أسرارها وألغازها إلى اليوم، وتمكنت قوات المقاومة من خوض أطول حرب مع كيان الاحتلال في تاريخه، وطورت فنونا في عبقرية القتال الاستشهادي وجها لوجه، وخاضت حربا غير متناظرة، بتسليح متواضع مصنوع ومطور ذاتيا، وأعجزت العدو عن تحقيق أي تقدم فعلي وناجز، وحرمته من استقرار السيطرة في أي منطقة دخلتها قواته، ودفعته إلى جنون المطاردة لسراب خادع، تغوص معه أقدامه في رمال غزة، فهو ـ أي العدو ـ لا ينتهي أبدا من معركة، حتى يتقدم إلى غيرها، وفي حين يزعم العدو أنه دمر قوات وكتائب المقاومة في كل مكان، وأنه لم تتبق سوى معركة أخيرة في رفح مع أربع كتائب أخيرة، يعود جيش الاحتلال دائما ليكذب نفسه بنفسه، فالمعارك تتجدد في أقصى شمال قطاع غزة من جباليا إلى بيت لاهيا وبيت حانون وحي الزيتون وحي الشجاعية، وإلى مخيم النصيرات في الوسط وشرق خان يونس جنوبا، بما دفع جنرالات حاليين وسابقين في جيش العدو إلى تكذيب البيانات الرسمية، وتوقع وجود نحو ست كتائب من حماس لا تزال تعمل في شمال غزة، أي أن عدد المقاتلين المقاومين في الشمال يفوق عددهم مرة ونصف المرة ما يقال إنه تبقى في الجنوب وفي رفح، حسب التقارير الإسرائيلية، وهو ما يعني ببساطة، أن جنرالات العدو ضائعون في المتاهة، لا يعرفون بالضبط أين يوجد أسراهم، ولا أين توجد قيادة حماس العسكرية؟ وحتى لو وجدوهم وقتلوهم افتراضا، فلا أحد يضمن للعدو نهاية لسيرة المقاومة، بل إنها تزيد اشتعالا مع استشهاد القادة، كما دلت سوابق تفوق الحصر.
وفوق الأداء القتالي المذهل، فقد طورت المقاومة بذكاء عبقري تكتيكاتها الإعلامية والسياسية، وصارت فيديوهات القسام سلاحا مرعبا على جبهة الحرب النفسية، فهي مصنوعة بإتقان وبصور وبلغة مدروسة بعناية، تخاطب وعي ووجدان المجتمع الإسرائيلي، وتخترق الحصار المضروب على عقل الداخل الإسرائيلي، وتلعب بمهارة فائقة على أعصاب الإسرائيليين، وإلى حد صار معه الإسرائيليون، يترقبون شرائط أبو عبيدة الناطق باسم كتائب القسام، ويصدقونها فيما يكذبون فيديوهات نتنياهو المذعور، وينصبون شاشات ضخمة في قلب تل أبيب لإذاعة ومشاهدة فيديوهات القسام المحظورة رسميا، ومع الامتياز والتكوين المدهش لرسائل المقاومة الإعلامية، وتصويرها البديع الحي لكمائن المقاومة البارعة المركبة، ولنداءات الأسرى الإسرائيليين والأمريكيين في غزة، التي تضاعف حدة الخناق على قادة العدو من وراء خطوطه، ومثلت ـ على نحو مباشر وغير مباشر ـ إلهاما لانتفاضات وغضب الناس على جبهة العدو الأمريكي الإسرائيلي، ثم إن رسائل المقاومة السياسية، بدت على درجة من الذكاء والنضج الموازي لرسائلها الإعلامية الباهرة، وظهر ذلك بوضوح في المفاوضات غير المباشرة المتصلة والمتقطعة على مدى الشهور الثلاثة الأخيرة، وإلى درجة دفعت الوسطاء إلى تسليم أكبر بمطالب المقاومة الأساسية، سواء في الوصول إلى انسحاب كامل لقوات العدوان من غزة كلها، أو في إعادة النازحين إلى جهاتهم الأصلية من الجنوب إلى الشمال بغير قيد ولا شرط، أو في فك الحصار وإعادة الإعمار بعد وقف الحرب، وفي مقاومة ضغوط داهسة مورست على مفاوضي المقاومة لتقديم تنازلات، لكن النتائج جاءت في الاتجاه المعاكس، وجرت تعديلات جوهرية طورت المقترح المصري بمراحله الثلاث المرتبطة، وكانت يقظة مفاوضي المقاومة ظاهرة حتى في وضع الألف واللام على تعبير الهدوء المستدام، وإلى أن تمكنت حماس وأخواتها من توجيه ضربتها السياسية، وفاجأت الأطراف جميعها بإعلان الموافقة رسميا على الخطة الثلاثية، ونسفت الادعاء الأمريكي الإسرائيلي، بأن حماس هي التي تعرقل الوصول إلى صفقة، وبما حشر نتنياهو في الزاوية الحرجة، ودفعه إلى الخروج الفج على قواعد لعبة التفاوض، وإعلان البدء بغزو رفح، وعلى ظن بائس، أن المقاومة سوف ترتعب من الغزو، وأن الوسطاء ـ المصريون بالذات ـ سوف يعدلون الشروط كي تلائم مزاج ومصالح كيان الاحتلال، وهو ما لا يبدو متاحا، فلا قيمة لاتفاق أو صفقة، دون أن يكون هدفها الجوهري وقف الحرب والعدوان، وهو ما لا يريد نتنياهو الإقرار به، وإلا كان معناه الإقرار بهزيمة كيان الاحتلال، ودفن حكومة العدوان الهمجي، ونهاية سيرة نتنياهو السياسية قطعا، إما بالعودة إلى البيت أو الذهاب إلى السجن، ومن دون أن تنفعه تهديدات التوسع في غزو رفح، ونصب مجازر مضافة لأهلها، فما لم يدركه العدو في معارك ومجازر سبقت، لن يفلح بكسبه في معركة رفح، وقد استعدت لها قوات المقاومة طوال شهور التهديد بالغزو، الذي تتفق عليه واشنطن مع تل أبيب، وهما طرفان في حالة اندماج استراتيجي، وإن كانت خلافات التكتيك والطريق واردة بين الطرفين، فواشنطن تدرك أن لعبة الحرب انتهت، وتريد حماية كيان الاحتلال بالانتقال إلى تلاعب بأوراق أخرى، من عينة التلاعب بورقة المساعدات الإنسانية، وورقة إدارة معبر رفح على الجانب الفلسطيني بشركات ظاهرها تجاري وباطنها مخابراتي، وتغليب ورقة التطبيع السعودي الإسرائيلي، والبحث عن سبل أخرى لتطويق حماس، وإشراك أطراف مريبة في خطة الميناء والرصيف البحري، فوق أن الرئيس الأمريكي بايدن يريد هدوءا لشهور تسهل إعادة انتخابه في نوفمبر المقبل.
كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب