
الوحدة في معرض كتاب أبوظبي

إبراهيم عبد المجيد
احتفى معرض كتاب أبوظبي هذا العام بنجيب محفوظ. صار شخصية المعرض الرئيسية التي أقيمت حولها وعنها أكثر الندوات، جاءتني دعوة مثل العشرات من الكتاب المصريين، الذين فاق عددهم هذا العام عدد كل الأعوام السابقة، حتى خيل لي أنه لم يبقَ في مصر كاتب لم تتم دعوته. صار الاحتفال بنجيب محفوظ هو احتفال بالأدب والفن المصري ومصر معا. كانت دعوتي لأربعة أيام من الاثنين التاسع والعشرين من أبريل إلى الخميس الثاني من مايو. يوم للسفر ويوم للعودة ويومان فقط للنشاط الثقافي. كان يمكن أن أطلب منهم تمديدها أكثر، وسيوافقون، لكنني لم أفعل ولا أدري لماذا. كنت سعيدا بالدعوة لأني سأرى الكتّاب الذين لم أرهم منذ فترة. كثيرون جدا منهم انقطعت بيننا الصلات إلا على فيسبوك، ما بين الإعجاب والتقدير المتبادل، وأنا على يقين من أن كل ما أراه على السوشيال ميديا وهمٌ، فالأمر كله صور عابرة في كهف هو غرفة مكتبي، الخروج منه يأتي معه بالنسيان.
اللقاء وجها لوجه هو ما تعودت عليه، وأكيد هو ما تعود عليه جيلي، لكن هذا صار قليلا، لأنه يعني الخروج من بيتي البعيد إلى منطقة وسط القاهرة، مما لم أعد أستطيعه، فصرت اكتفي بمرة كل أسبوعين أذهب فيها إلى كافتيريا جروبي في شارع عدلي، وأدعو اثنين أو ثلاثة من الأحباء ليكون اللقاء حقيقيا وليس صورا. حديث من القلب يظهر على قسمات وجوهنا فأفوز بساعات من البهجة أراها تكفي. وجدت في معرض أبو ظبي فرصة أن أرى عددا كبير جدا من الأحباء. حدث ما هو غير متوقع منذ لحظة نزولي إلى المطار، لم أجد معي على الطائرة غير أربعة هم الشاعرة والكاتبة ميسون صقر والصحافي والكاتب طارق الطاهر والمذيعة منى سلمان والشاعر مدحت العدل، الذي سأشاركه ندوة حول مسلسل «عتبات البهجة» الذي كتبه عن روايتي في رمضان الماضي، وطبعا معي زوجتي، سندي في كل خروج. أول المفاجآت كانت في من ينتظرنا في المطار رافعا لافتة عليها اسم زوجتي ومن معي ولا يوجد اسمي. كنت أعرف أن هذه أمور يمكن تعديلها في ثوانٍ. المفاجأة الثانية أني وجدت اسم زوجتي في فندق واسمي في فندق آخر. ضحكت وتم التعديل وصرنا في فندق واحد. كل ذلك ليس مهما، فالذي يقوم بالتنسيق يفكر أن كل القادمين كتّابا. العام الماضي كنت في فندق اسمه «أنداز» وكان فيه عدد كبير جدا من الكتاب العرب والمصريين، نقضي وقتا جميلا معا بعيدا عن الجو الرسمي للندوات، فنتذكر أيامنا معا ولقاءاتنا السابقة وما كتبناه من كتب. هذا العام صرت في فندق اسمه «سنترو كابيتال» ولم يكن معي غير الكاتب والصحافي سيد محمود وطارق الطاهر وخيري دومة والإعلامية منى سلمان، التي تركت الفندق إلى آخر في اليوم التالي، ولا نتقابل إلا في المطعم عند الإفطار.
قارنت بين فندقنا هذا العام الذي يخلو تقريبا من الكتّاب، وفندق العام الماضي، واندهشت كيف حقا صرت بعيدا هكذا عن الجميع، كان أكثر من في الفندق جنودا وضباطا بملابسهم الرسمية من بلاد أخرى، أراهم في المطعم كل يوم في ساعة الإفطار حولنا بكثافة، وإذا دخلته في موعد الغداء أو العشاء. عجيب أني كنت أرى الأمريكيين منهم يشبهون بعضهم، والآسيويين أيضا كأنهم نسخ متكررة من جندي واحد. سألت نفسي هل هذا الفندق قاعدة عسكرية ولا أعرف، لم أطلب تغيير الفندق وقلت سأقابل من أريد في بهو المعرض.
هكذا صار عليّ كي أحقق حلمي أن أترك الفندق صباحا بعد الإفطار ولا أعود إلا مساء. فعلت ذلك في اليوم التالي لوصولي، عدد الندوات كبير جدا أكثرها في وقت واحد على منصات مختلفة، أو في دور نشر، فليس أمامي إلا دقائق أمضيها بين الندوات استمع لما يقال. قلت، إنهم على حق، فالندوات ليست لحضور الكتاب لكن لجمهور القراء، وتركت الأمر للصدفة وأنا أنظر في أسماء المشاركين في بعض الندوات، وأشعر بشوق كبير لرؤيتهم أنا رهين البيت.
زرت بعض دور النشر التي أنشر فيها كتبي وقابلت أصحابها وتحدثنا أحاديث جميلة. كان عليّ أن أترك بهو المعرض إلى خارجه حيث تتوفر أماكن التدخين أو المقاهي لشرب القهوة. هنا قابلت عددا من الأحباء يطول ذكر أسمائهم من مصر والعالم العربي، تركت نفسي لهم سعيدا، يلتقطون الصور السيلفي معي، وأخذوا من وقتي الكثير جدا. كانت لقاءاتي بهم وحدها تكفي لعدم حضور أي لقاء. حلم قديم تحقق فقابلت الكثيرين ممن لم أقابلهم منذ سنوات مثل شيرين أبو النجا لكن في الطرقات. كنت حريصا على لقاء علي بن تميم رئيس مركز أبو ظبي للغة العربية، وساحر المعرض الذي لا يتأخر عن ندواته، ولم يتأخر عن زيارتي في بيتي أكثر من مرة، بعد أن عدت من رحلة العلاج في الخارج عبر العامين السابقين. كنت حريصا على أن أزور مكتبة بيت الحكمة التي فازت بجائزة الشيخ زايد كأفضل دار نشر عربية هذا العام، وكان سبب حرصي ليس أن أهنئهم فقط، لكن أحضر المعرض الفني الصغير المشترك لرسوم الروائي وليد علاء الدين ومعه ميرة القاسم وحسن زكي. لقد أقام وليد علاء الدين من قبل معرضا لرسومه في القاهرة، وكان سؤالي الذي لم أوجهه لأحد وأوجهه الآن، هل يوجد من النقاد من يقوم بدراسة رواياته الجميلة وعلاقة بنائها الفني بلوحاته.
لن أتحدث عن الندوة التي شاركت بها مع الشاعر والكاتب مدحت العدل عن روايتي والمسلسل، والتي شهدت حضورا رائعا وأدارتها باقتدار منى سلمان. رأيت أمامي وجوها طال غيابها عني، مثل هالة سرحان، ولا أعرف بعد الندوة ماذا حدث لأرى نفسي وحدي وقد تفرق الجميع. هي الصور التي يطلب كثير من الشباب التقاطها معي ولا أتأخر، جعلت الجميع ينصرفون بعد الندوة. الصور التي تكررت بشكل فاق الخيال، حتى صرت أنظر إلى نفسي متوقعا أن ينقص من جسمي شيء من كثرة التصوير. كانت الندوة التالية في اليوم التالي في مقر مؤسسة بحر الثقافة التي تديرها الشيخة رضوى بنت آل نهيان وأخواتها، وكانت حافلة بالنساء، وبينهن عدد من الأحباء من بينهم الموسيقار هاني شنودة الذي طال غيابي وغيابه عني. كان الندوة الثانية عن الرواية والسينما أيضا تحدثت فيها عن ذلك عبر التاريخ، ومن خلال أعمال عالمية وعربية وأدارتها شابة جزائرية بارعة اسمها مليكة أحمد. رغم أنهما يومان فقط لي من النشاط، لكنني اشتقت كما لم يحدث من قبل إلى العودة.
يبلغ اشتياقي ذروته في ذهابي مع أحد أصدقاء العمر وهو المحامي ممدوح فرج الذي يقيم منذ سنوات طويلة في أبوظبي وزوجته، إلى مطعم «جاد» لنأكل الفول والفلافل الإسكندراني في كل مرة أزور فيها الإمارات وفي ليلة الوداع. عادت العاصفة في وسط ليلة السفر، وانهار المطر والبرق والرعد وخشيت تأجيل رحلة الطائرة، طالت الليلة جدا، لكن مع الصباح أشرقت الشمس واتجهنا للمطار. قابلت ياسر عبد العزيز الخبير الإعلامي الذي اشتقت من زمان للجلوس معه، لكن فرقت بيننا مقاعد الطائرة وانتظرنا الوصول. قلت هي الوحدة في الذهاب والإياب فجلست على مقعدي في الطائرة كأني فزت بكل ما أحلم وهو العودة إلى البيت، رغم غيابي ليومين فقط. هكذا رغم آلاف الصور والحفاوة بمن أعرف، أو لا أعرف شعرت بالوحدة، رغم أن كل اللقاءات بعيدا عن الندوتين كانت رائعة ويطول الحديث عن أسماء أصحابها من مصر أو خارجها. هل ذلك لأني لم أحضر ندوات لكتاب يستحقون كل احتفاء؟ ربما. لكن يظل الاحتفاء بنجيب محفوظ والأدب المصري أمرا يستحق الكتابة عنه، وعلى رأسه سؤال متى نحتفي بنجيب محفوظ في مصر.
روائي مصري