«ملامح من مشوار» التشكيلي سيد سعد الدين: تجليات صوفية عن الجنوب وناسه

«ملامح من مشوار» التشكيلي سيد سعد الدين: تجليات صوفية عن الجنوب وناسه
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ «ملامح من المشوار» عنوان المعرض المقام حالياً في غاليري (ضي) في القاهرة، ويضم محطات عدة في رحلة الفنان سيد سعد الدين ـ مواليد قنا 1944 ـ ومن خلاله يمكن اكتشاف لمحات من حياة الجنوب وناسه، رغم معرفة بعض من تفاصيله من خلال وسائط أخرى أهمها، السينما ثم المسرح، الذي تناول هذه البيئة، فعبر التشكيل في اللقطات والمشاهد نتلمّس هذه البيئة وطقوسها، لكن اللوحة تعد لحظة تعبيرية مكثفة، وللمتلقي أن يكتشف حكايتها، أو بمعنى أدق ما تثيره اللوحة وتجعله يختلق حكاية جديرة بها، سواء عن المكان أو الناس.
من ناحية أخرى نجد لوحات تعبّر عن عوالم وبيئات مختلفة عن صعيد مصر، مثل مجموعة لوحات (الفتاة والسمك) التي تقترب كثيراً من أعمال الطبيعة الحيّة، رغم وجود الشخصية الإنسانية، وفكرة التناغم بين الشخصية والطبيعة هي السمة الغالبة على الأعمال كافة، إضافة إلى لوحات تجمع عدة عوالم لتتجاوز التعبيرية إلى سريالية مُعقلنة، دون شطط أو تقليد معهود.
طقوس فقط
يصيغ الفنان عالم لوحاته من خلال فكرة الطقوس، فحياة الجنوبي عبارة عن طقوس متوالية ومتداخلة، لا يعيش إلا من خلالها، موروثات قديمة، بداية من الأفعال الحياتية البسيطة، وصولاً إلى مشاهدات لطبيعة ضاربة في القِدم لم تتغير كثيراً، وكذا منحوتات تحمل دليلاً يسبق وجوده ويؤكده في الوقت نفسه. فألعاب مثل (التحطيب) و(الحَجْلة) و(الأرجوحة) إضافة إلى أفعال البيع والشراء، كما يتجلى في (أسواق الدواب) أو مهنة كـ(الراعي) وصولاً إلى الأماكن.. (القرنة) (وادي الأربعين) و(النيل) كل هذا يتم التعبير عنه من خلال طقس شخصي أو جماعي، في فعل يحرّض على التوحد مع البيئة، يتضح ذلك في ألوان الملابس على سبيل المثال، كالأصفر والبني، كما في ألوان الجبال، والبرتقالي والأزرق كأحوال الشمس والسماء، إضافة إلى أن بعض الأجساد تحمل اللون نفسه للصخور وجدران البيوت بين الجبال. بالطبع يضفي الفنان روحاً رومانسية على شخوصه وأماكنهم، وبدورنا نرى الأمر من هذه الزاوية، خلال هذه اللوحة أو تلك، حالة الهدوء والتآخي والتناغم هذه توحي بدورها بحسٍ صوفي يُصر الفنان على تأكيده.
حالة صوفية
حِس الصوفية الذي يستشعره الفنان هنا، ويُعبّر من خلاله لا ينتمي إلى صوفية المدن الكبيرة، أو حتى مدن الريف في شمال مصر، حيث الدراويش المعهودين، وبعض من وضعيات ورقصات تم استهلاكها، حتى أصبحت تثير الضجر ومؤخراً الضحك ـ تجد على سبيل المثال فنانا شابا ربما لم يتعد العشرين، يرسم الدراويش الأتراك ـ بل يجعل سعد الدين البيئة هي التي تصوغ هذا الشعور، وتسيطر على الناس هناك.. الشمس، الجبال الشاهقة، النيل، صعوبة الحياة واستمرارها، بل والتمسك بها وكأنها اختبار إلهي، كل هذه الأجواء ترهف الروح بشكل أو بآخر، وتجعل المخلوقات تعيش مقتنعة تماماً بأنها جزء مما يحيطها، دون تسرّب حالة من غرور السيطرة والتحكم في كل شيء. لنا أن نستنتج التقلبات الجوية المفاجئة على سبيل المثال، فلا توجد للإنسان سيطرة مطلقة في مثل هذه الأماكن.
التكوين والحركة
يعتمد الفنان في أغلب لوحاته على تكوين كلاسيكي، حتى لو ضمت اللوحة عناصر فوق واقعية، أولاً لتدريب عينه طويلاً على مشاهدات بيئة الجنوب، من تماثيل ومعابد فرعونية، إضافة إلى تشكيلات البيئة من الجبال، فجاءت التكوينات غاية في الرسوخ والقوة، سواء ضمت اللوحة عدة شخصيات، أو حتى شخصا واحدا، إضافة إلى الشخصيات ومفردات الطبيعة وأدواتهم .. الجلباب والعمامة وعصا التحطيب، عدة شماسي تحجب الشمس الحارقة عن رؤوس الرجال. ثم وضعية الشخصيات نفسها، التي تنتمي لتراث جداريات المعابد. لكن.. رغم كلاسيكية التكوين هذه، تبدو الحركة في اكتمالها، سوء من خلال توزيع العناصر، أو موضوع اللوحة، كاللعب مثلاً، أو من خلال تكرار عنصر أو أكثر، مما يوحي بالحركة واستمرارها، وحتى في لوحات تحمل معنى السكون، كما في لوحتي (وداع) و(رحيل) تبدو المفارقة في الحركة الظاهرة من تكرار عنصر أو أكثر، حتى لو كانت هذه اللوحات تتحدث عن الموت، وكأنها صورة أخرى ـ يقينية ـ من الحياة.
«القدس العربي»