أين تبدأ الخطوط الحمراء وأين تنتهي؟
واسيني الأعرج
المعاناة الفلسطينية تتسع كل يوم أكثر ومعها يرتفع عدد الضحايا، وترتبك كل الحقائق التي كانت تبدو ثابتة. «لم تتخط إسرائيل الخطوط الحمراء»، هذا ما قاله الرئيس الأمريكي. الخطوط التي تنزاح عن حدودها الأولى، كلما اتسعت جرائم إسرائيل. كيف يتم تحديد الخط الأحمر؟ ومن يحدده؟ الخط الأحمر بالنسبة لأمريكا في قضية غزة مرتبط بعاملين: الأول، أمن إسرائيل والانتخابات الرئاسية الأمريكية وعدم إغضاب «الآيباك» اللوبي الصهيوني في أمريكا. والعامل الثاني، قضية الرهائن الذين أصبحوا كل شيء، وكل الحرب تقاس من خلالهم. نتحدث عنهم وكأنهم الوحيدون الذين يجب إنقاذهم: فكرة «الرجل الأبيض».
الخط الأحمر يبدأ من إسرائيل وينتهي عند حياة الرهائن. فقط وفقط. ما عداهما حالة عمى كلي… غير موجودين. قناعة الرجل الأبيض الدائمة [ليست باللون ولكن بمنطق الحق الاستعماري] والشعب الفلسطيني [لأن الجرائم امتدت حتى الضفة الغربية… تقتيل صامت في ظل صمت سلطة فلسطينية عاجزة ورأي عام دولي متواطئ] والغزاوي تحديداً الذي يقتل بمعدل يومي يتجاوز المائة شهيد. وكأنها أرواح ليست لبشر يقتلون يومياً في عملية إبادة جماعية لم تعد في حاجة إلى إثبات؛ فهي تعرّف نفسها بنفسها.
أي خط أحمر إذن؟ أين يبدأ وأين ينتهي؟ الأربعون ألف شهيد نصفهم من النساء والأطفال، والباقي مدنيون سرقت منهم سبل الحياة فاضطروا إلى التهجير والتشرد داخل غزة. حالة تيه غير مسبوقة. يصاحب ذلك تيار عنصري كان مبطناً، يرى أن الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت. يجب أن يقتل لأنه مجرم بالطبيعة وغير متحضر. طبعاً فكرة الاحتلال لم تعد موضوع نقاش حتى لدى بعض النخب المشبعة بيقينيات الاستعمار والعنصرية. وظهرت أسئلة أخرى: ما معنى أن تكون اليوم إسرائيلياً؟ في مجتمع الإبادات الجماعية، والديمقراطية الكاذبة التي لا تقبل حتى من الإسرائيلي أن يكون له رأي خارج المؤسسة العسكرية. طبعاً، الفلسطيني غير محسوب في كل المعادلات إلا بوصفه إرهابياً. لم تبدع إسرائيل شيئاً جديداً؛ فهي جزء من المنظومة العالمية الرأسمالية التي تعودت العيش بخير الغير، باحتلال أرضه مباشرة كما في القرن التاسع عشر والعشرين، أو باستغلاله عن بعد، ما خلق جيشاً من النخب المحلية المشبعة بثقافة الرجل الأبيض دون أن تكونه على مستوى المزايا أو الاعتراف بها كلياً. فهي في وعي وفي لاوعي «الرجل الأبيض» تظل من الأهالي، ونلحظ ذلك في كل القطاعات الثقافية والقنوات الإعلامية. العربي، أو المسلم عموماً، لا يُستضاف إلا لتأكيد الأطروحات المهمة. وعليه أن ينضوي لقاعدة الرجل الأبيض أو يكون ناعماً وبدون نتوءات. عقلية الأهالي.
هذا هو المتحضر المرغوب. لنا في أحداث غزة أسوة؛ والكثير من العلامات الثقافية سارت في نفس المسلك بحجة أن الحرب ليست ضد الفلسطيني، ولكن ضد إرهاب حماس؟ مع أن الخطابات الإسرائيلية «العفوية» تبين حقداً دفيناً يتساوى فيه الجميع، حماس والمقاومة والأطفال والنساء. ثلثا الضحايا من النساء والأطفال.
الآلة الإجرامية تشتغل بشكل واسع. وإذن، أين هي الخطوط الحمراء التي لم تتجاوزها إسرائيل بعد؟ عندما تبيد الفلسطينيين نهائياً؟ مقاطعة من مليوني ساكن دمرت كلياً. هل حدث هذا في مكان ما منذ الحرب العالمية الثانية؟ لأول مرة يشاهد الناس «مسلسل» غزة وانهيار الأبراج على رؤوس ذويها وكأننا في لعبة «غيم بوي». التعود على المشاهد الأكثر عنفاً يحول الحرب إلى لعبة، مجرد لعبة، نتركها عندما نمل منها وننسى أن من وراء ذلك بشراً يموتون، أطفالاً يحصدون في عز العمر، عبثية الروح البشرية، بل العدمية التي كثيراً ما يصف بها أساطين الصهيونية، من أمثال غلوكسمان وبرنار هنري ليفي وفلكنكراوت، الإسلامويين و»القاعدة» و»داعش» وبن لادن والبغدادي، وغلوكسمان وقنوات بولوري «سي نيوز». عدمية في الإبادة الإسرائيلية لم تعرف البشرية مثيلاً لها قط -إبادة على مرأى الجميع- لولا قناة الجزيرة التي منعها الإسرائيليون لأنهم لا يريدون للحقيقة أن تُعرف إلا من خلال نظرتهم. الجزيرة خلقت توازناً حقيقياً في المجال الإعلامي، لم نعرف قدرات المقاومة إلا من خلالها.
خلاصة القول: لا نعرف ما هي الخطوط الحمراء التي على إسرائيل تجاوزها حتى تتحرك أمريكا؟ ربما في اللاوعي الصهيوني أن الخط الأحمر متحرك باستمرار، وقد يصل حتى إبادة الشعب الفلسطيني كلياً. لم تكتشف إسرائيل البارود ولكنها تنفذ سياسة غرسها الاستعمار هناك، ولا شيء غير ذلك. الباقي ثرثرة لغوية لا قيمة لها. والمهم في الفعل الإبادي الإسرائيلي أنه أزاح النقاب عن «أيديولوجية» معاداة السامية، حق أريد به باطل، التي ظلت الصهيونية تلوح بها ضد كل من ينتقد إسرائيل. فقد تحولت معاداة الماكينة الإجرامية الإسرائيلية ونقدها إلى معاداة للسامية، مع أن المسألة سياسية ولا علاقة لها باليهودية، وإلا، وفق هذا المنطق، سيصبح المحتجون الإسرائيليون في تل أبيب نفسها معادين للسامية، بينما الكثير منهم هم أحفاد لضحايا الهولوكوست، دون الحديث عن الكثير من يهود العالم الذين وقفوا بجانب الفلسطينيين، بل وتضامنوا مع ضحايا غزة. نتنياهو وحلقاته العسكرية وأتباعه في أمريكا وفي غيرها، يستثمرون كل شيء لصالحهم في حرب لا أحد يتوقع تبعاتها على الأمد المتوسط والطويل.
فقد فتحت الصهيونية أبواب جهنم عن آخرها، ليس من السهل غلقها. القوة وحدها لا تصنع التاريخ، وإلا لظلت النازية متسيدة على العالم بمنطقها العنصري والإجـــــرامي.