ثقافة وفنون

السمفونية التاسعة… آلام وآمال بتهوفن

السمفونية التاسعة… آلام وآمال بتهوفن

زيد خلدون جميل

عزفت في مساء يوم السابع من أيار/مايو من عام 1824 للمرة الأولى أشهر مقطوعة موسيقية في التاريخ، ألا وهي السمفونية التاسعة للموسيقار الألماني لودفيج فان بتهوفن. وكدليل على شهرتها أنها العامل الموسيقي المشترك بين الكثير من السياسيين والأحداث المهمة والدول، فعندما احتفل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بفوزه في الانتخابات الرئاسية، لم تكن الموسيقى التي صاحبت احتفاله السلام الجمهوري الفرنسي، بل السمفونية التاسعة لبتهوفن. وكذلك فعل الرئيس الفرنسي الحالي أيمانويل ماكرون، عندما احتفل بفوزه الثاني في الانتخابات الرئاسية. ولم يكن الجانب الشيوعي من العالم مختلفا، إذ كان الزعيم السوفييتي بروس جوزيف ستالين، قد أمر بعزف السمفونية في كل قرية في الاتحاد السوفييتي السابق. أما الزعيم الصيني ماو تسي تونغ فقد أمر بعزفها عام 1949 في ذكرى انتصاره، على الرغم من أن النظام الصيني كان يحارب جميع الرموز الثقافية للغرب، ولكن هذه السمفونية كانت استثناء مثيرا للدهشة.
عُزِفَت هذه السمفونية في أولمبياد برلين عام 1936 وكذلك في احتفالات سقوط جدار برلين عام 1989. وأصبحت موسيقى السلام للاتحاد الأوروبي عام 1972، حيث اعتمد الاتحاد عرضا موسيقيا لها بقيادة أشهر قائد للفرق الموسيقية آنذاك، هو هربرت فون كارايان. ولم يكن ذلك استثناء، إذ قامت روديسيا باعتمادها كسلام جمهوري أيضا. وتُعزَف هذه السمفونية في جميع احتفالات السنة الجديدة من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى اليابان، وكذلك في جميع الاحتفالات المهمة في العالم المتقدم. ويدل هذا على أن هذه السمفونية بالذات المقطوعة الموسيقية الأكثر سماعا من قبل المواطن في جميع أنحاء العالم، دون أن يشعر بذلك. وفي الوقت نفسه، فإن الاختلاف الكبير بين كل الزعماء والمناسبات المهمة الذين استعانوا بهذه السمفونية، يدل على أن شعبيتها استعملت لجذب الجمهور إلى الأهداف التي كان هؤلاء السياسيون أو منظمو هذه المناسبات يسعون إليها.

التحضير للسمفونية

بدأت حكاية السمفونية التاسعة، عندما كلفت إحدى الجمعيات الموسيقية البريطانية الموسيقار الألماني لودفيغ فان بتهوفن عام 1817 بتأليف السمفونية التاسعة. وكان الموسيقار الألماني يعمل على تأليف موسيقى جديدة، فكانت تلك فرصة لتطوير ما قد حققه، ولكن تلك المرحلة كانت في الوقت نفسه حرجة لبتهوفن، فالذوق العام في العاصمة النمساوية في بداية القرن التاسع عشر كان قد أخذ يتأثر بالموسيقيين الإيطاليين، لاسيما روسيني، ولذلك قرر أن يكون العرض الأول للسمفونية في برلين، إذ كان يرفض تبني الأسلوب الإيطالي في الموسيقى الكلاسيكية، ويصر على استعمال الأسلوب والنصوص الألمانية. ولم يكن البادئ في هذا، فقد كان الموسيقار النمساوي موزارت، أول من قاوم التأثير الإيطالي. ولكن مجموعة من الشخصيات النمساوية اعترضت بشدة على هذا القرار ما جعل بتهوفن يغير رأيه، لاسيما أن شقيق الامبراطور النمساوي كان من يدعم بتهوفن. وقد يكون سبب الاعتراض أكثر من مجرد معارضة ضد حرمان الجمهور النمساوي من ذلك العرض الأول لسمفونية أشهر موسيقار ألماني، فبرلين عاصمة بروسيا، التي تعد المنافس الرئيسي للنمسا في وسط أوروبا.
وقرر بتهوفن إدخال تقنية جديدة إلى عالم الموسيقى، ألا وهي وجود الكورس، حيث غنت قصيدة للشاعر الألماني فريدريش شيلر. ويعني هذا أنه كان على ثقة بقابلياته الفنية، الى درجة تقديمه شيئا جديدا تماما لجمهور العرض الأول الذي تكون من حوالي ألف وثمانمئة شخص، وضم أشهر شخصيات العاصمة النمساوية في تلك الفترة، ومنهم رئيس الوزراء كليمنس فون مترنيخ.
كانت الفرقة الموسيقية تعاني من نقص واضح في التدريب، حيث لم تتدرب سوى مرتين أو ثلاث مرات. وقام بتهوفن بنفسه باختيار مغنيتي الأوبرا الشابتين، وشارك في قيادة الفرقة السمفونية إلى جانب صديقه والقائد الرئيسي ميخائيل أوملاوف، الذي أمر أعضاء الفرقة بتجاهل تعليمات بتهوفن، خلال العرض. ولذلك، فإن التوجيهات المنفعلة بأفراط لبتهوفن كانت عديمة الفائدة دون أن يعرف. ومن الجدير بالذكر أن ذلك العرض كان الأول لبتهوفن، خلال اثني عشر عاما. ولكن العرض لم يكن على ما يرام فقط، بل أفضل من ذلك بكثير نظرا لصيحات الإعجاب من قبل الحضور. وما أن انتهى العرض الذي دام حوالي سبعين دقيقة، حتى أخذ بتهوفن يتنهد بعد الجهد الجبار الذي قام به وغير مصدق أنه أنهى تلك السمفونية المرهقة. ولكن مغنية الأوبرا الشابة كارولينا أونغر أمسكت يده برقة، فاستسلم لها الموسيقار الكبير واستدار إلى الخلف استجابة لها، فإذا به يواجه جمهورا متفجرا من فرط الإعجاب بأعظم عمل موسيقي في التاريخ العالمي ليصبح بتهوفن، أعظم موسيقار في تاريخ البشرية.
لماذا طلب قائد الفرقة السمفونية تجاهل تعليمات بتهوفن أثناء العرض؟ كان السبب عدم قابلية بتهوفن على سماع عزف الفرقة، لأنه كان أصم. وكان هذا الجانب المأساوي كذلك سبب قيام مغنية الأوبرا بلمس يد الموسيقار الكبير، فهو لم يسمع الهتاف الجنوني للجمهور. وتذكر بعض المصادر أن الجمهور انفعل وصاح إعجابا عندما دقت طبول الفرقة، ما أدى إلى اضطراب العازفين دون أن يدرك ذلك، فأشار إليه أحد العازفين بمشاهدة ما يدور حوله.

بتهوفن والصمم

كان بتهوفن غارقا في عالم صامت أثناء العرض. ولم تبدأ مشاكله في السمع مؤخرا، بل منذ عام 1798، أي عندما كان في الثامنة والعشرين من عمره. وكان تطور المشكلة تدريجيا، وراجع مختلف الأطباء في تلك الفترة دون جدوى. واستمر الأمر في التدهور، فبدأ عام 1812 باستعمال أبواق السمع حتى عام 1816 حيث أصبح الأمر من السوء إلى درجة أنه بدأ باستعمال كتب المحادثة، وهي كتب من الصفحات البيضاء يستعملها المصابون بالصمم، فيكتب المتحدث إليهم فيها ما يريدون إخبار مالك الكتاب به، ويقوم هو بالرد كتابة أو شفهيا. ولهذه الكتب أهمية بالغة بالنسبة للمؤرخين، لأنها تبين التفاصيل اليومية لمالكها. وللأسف أن جواب بتهوفن على أسئلة وملاحظات الآخرين كان شفهيا، ما حرم المؤرخين من معرفة الكثير عنه. ومع ذلك كان الموسيقار الألماني يدون أحيانا ملاحظاته وتفاصيل حياته.

كتب المحادثة

ما حدث لهذه الكتب بعد ذلك حكاية مثيرة، فقد أعدها المؤرخون نافذة للولوج داخل حياة بتهوفن الشخصية وعقليته الغريبة، ولذلك تحولت إلى وثائق في غاية الأهمية ووصل عدد ما تبقى منها حتى الآن مئة وتسعة وثلاثين كتابا، إذ ضاع بعضا منها أثناء انتقال بتهوفن من مسكن لآخر وفقدت أخرى بعد وفاته. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية، وقُسّمَت ألمانيا انتهى المطاف بهذه الكتب النفيسة في أحد متاحف الجزء الشرقي من برلين، الذي كان عاصمة جمهورية ألمانيا الديمقراطية، المعروفة بـ»ألمانيا الشرقية». وفي عام 1951 قام رئيس قسم الموسيقى في ذلك المتحف بأخذ هذه الكتب والهروب إلى ألمانيا الغربية. ولكن ألمانيا الشرقية اكتشفت الأمر، كما اكتشفت أن الكتب موجودة في متحف بتهوفن في مدينة بون، التي كانت عاصمة ألمانيا الغربية آنذاك، فأعيدت إلى مكانها الأصلي. وفي الوقت الحاضر توجد مئة وسبعة وثلاثون منها في مكتبة برلين العامة بينما يوجد كتابان في متحف بتهوفن.

حياة بتهوفن الشخصية

اكتشف المؤرخون أنه على الرغم من شخصية بتهوفن الفظة نوعا ما وحالته النفسية المنهارة، فإنه كان يقضي فترة مع أصدقاء بشكل شبه يومي، وأنه لم يكن ذلك الشخص المنعزل. وكانت هوايته التجول في الغابات المحيطة بمدينة فيينا، حاملا أوراقا وقلما، كي يدون أي فكرة تخطر له. ومن المعروف أن التجول في الغابات يقلل من التوتر، بالإضافة إلى كونه نوعا من الرياضة. وكانت تلك إحدى وسائله المفضلة في التأليف الموسيقي، حيث إن الابتكار عملية تأخذ وقتا وليس إلهاما يأتي في لحظة، كما يظهر في الأفلام السينمائية. واكتشف المؤرخون عن طريق كتب المحادثة وما كتب عنه المقربون منه أنه كان من هواة الأكل وشرب النبيذ، حيث كان يستهلك قارورة كاملة منه في اليوم الواحد أحيانا. وكان من الواضح أنه بالغ الاهتمام بالجنس اللطيف دون أي نجاح في ذلك المجال، ولكن فشله الدائم في الحصول على إعجاب امرأة سحق مشاعره.

الصمم

تساءل العلماء والمؤرخون عن سبب صمم بتهوفن ومعاناته من علل صحية كثيرة أخرى صاحبته طوال حياته مثل آلام في البطن وتشنجات عضلية ومشاكل في الجهاز البولي. وكانت جثته قد شُرِّحَت بعد وفاته، ولاحظ الطبيب أن كبده في حالة سيئة. انكشف الكثير من الغموض مؤخرا عندما قام العلماء بفحص خصلات من شعر بتهوفن، إذ كان من المعتاد في النمسا في القرن التاسع عشر أن يقوم المعجبون بشخص شهير، باقتحام منزله عند سماعهم بخبر وفاته، وأخذ خصلة من شعره والاحتفاظ بها. ومن المعروف أيضا أن المعجبون بالموسيقار الألماني أخذوا أغلب شعره بعيد وفاته. وبعد فحص ما بقي من خصلات الشعر حتى الآن، اكتشف العلماء أن الموسيقار الكبير كان يعاني من التسمم بالرصاص الذي كان ربما سبب صمه، نظرا للأضرار التي يسببها للأعصاب. ويظن العلماء أن مصدر الرصاص الطعام والشراب الذي كان متوفرا في تلك الفترة، أو طريقة صناعة النبيذ الذي كان يشربه بكثرة وحتى بعض الأدوية التي كان يصفها له الأطباء في تلك الفترة. لم يكن هذا التسمم كبيرا إلى درجة التسبب في وفاته، ولكنه يفسر مشاكله الصحية الأخرى لاسيما الصمم وآلام بطنه والتشنجات العضلية، بالإضافة إلى ذلك اكتشف العلماء مستويات خطيرة من الزرنيخ والزئبق في نماذج الشعر واحتمال أصابته بالتهاب الكبد وعطل في عمل الكلية. كل هذا يجعل المرء يتساءل كيف استطاع بتهوفن الأستمرار في العمل أصلا. ويشرح بتهوفن في رسالة له، أن انغماسه في العمل كان سبب عدم إقدامه على الانتحار، فقد أثر صممه وحالته الصحية السيئة على حالته النفسية بشكل كارثي. ومما زاد من سوء حالته فشله في الحصول على تجاوب من أي فتاة، ما جعله يكره العالم وحوله إلى شخص يسيء الظن في الآخرين، فعلى سبيل المثال اجتمع مع ثلاثة من أصدقائه الذين ساعدوه على تنظيم العرض الأول للسمفونية التاسعة في جلسة عشاء كان من المفروض أن تكون احتفالا بالنجاح الهائل، إلا ان الجلسة انتهت بصراخه متهما أصدقاءه بالسرقة منه.
هنالك الكثير من القصص حول إعجابه بنفسه وإظهار احتقاره للطبقة الأرستقراطية، رغم أنه كان يعتمد على أفرادها في تمويل عمله. ولكنه كان معجبا بنفسه ومتأكدا من كونه الأفضل في مجاله. وكان يعد تفوقه في مجال الموسيقى الطريقة الوحيدة لديه لجعل المجتمع يعترف به.

السمفونية التاسعة ومشاعر بتهوفن

يعبر كل عمل فني عما يفكر به الفنان مهما كان المجال الفني. وإذا تعمقنا في دراسة هذه السمفونية، سنجدها مؤشرا إلى أفكار بتهوفن، حيث إنها موسيقى بائسة ومضطربة، حتى إنها تخترق عقل المستمع وتجعله يشعر بعذاب المؤلف وكأنه عذابه هو، حتى إنها تقوده لمرحلة الاستمتاع بذلك. ويستمر ذلك حتى الجزء الأخير، عندما ينشد الكورس قصيدة الشاعر شيلر، حيث يبدأ الأمل في الموسيقى ويسيطر هذا المقطع على مشاعر المستمعين بشكل هستيري. ويكشف هذا آلامه الدفينة وانتظاره للأمل المتمثل في فتاة تحبه ومجتمع يعترف به، والشفاء من مشاكله الصحية. ويوجد جانب آخر للسمفونية، وهو القصيدة، إذ يظن المؤرخون أن ما أثار أعجاب بتهوفن فيها كان دعوتها إلى التآخي بين الناس. وكان بتهوفن يعاني من شعوره باضطهاد المجتمع له، ولكن هذا ربما كان خدعة تسويقية كذلك؟
ما بعد العرض الأول
على الرغم من النجاح الهائل للسمفونية التاسعة، فإنها وشهرة بتهوفن بقيتا في المناطق الناطقة باللغة الألمانية بشكل عام. ولكن تحول باريس إلى العاصمة الثقافية للعالم الغربي بعيد وفاة بتهوفن، بحيث أصبحت مركزا موسيقيا عالميا، أعجب مثقفوها وموسيقيوها بأعمال بتهوفن، لاسيما السمفونية التاسعة، ما حوّل هذا الموسيقار إلى أسطورة عالمية.
مما هو جدير بالذكر أن هنالك عوامل مهمة تؤثر على أداء الفرقة السمفونية لهذه السمفونية، ومنها فكرة قائد الفرقة عنها، فكبار قادة الفرق الموسيقية لا يؤدون العزف نفسه مثل مالر وفاغنر وفون كارايان، حيث قدم كل منهم نسخته منها. ومن العوامل الأخرى تغير الذوق العام بالنسبة للأداء. ولا نعلم رأي بتهوفن، ما إذا سمع أداء أشهر الفرق السمفونية لأعماله الآن.
لا يمكن التقليل من تأثر الموسيقى العالمية بالسمفونية التاسعة بشكل خاص وأعمال بتهوفن بشكل عام، فبرامز، اعترف بتأثره بها، ويتفق الخبراء بتأثر بروكنر كذلك وهما من أبرز موسيقيي القرن التاسع عشر. وما نزال نشعر بتأثير بتهوفن في الموسيقى الحديثة مثل أعمال الأمريكي جون وليامز. ولكن لم يصل أي منهم إلى مستوى الموسيقار الكبير، حتى إذا وصف البعض موسيقاه بنوع من الاضطراب النفسي.
نجح بتهوفن في رفع مستوى الموسيقيين الكبار إلى مستوى كبار الأدباء بالنسبة للحكومات والجمهور المثقف، بعد أن كانوا أدنى من ذلك. وتم تأسيس متحف له في مسقط رأسه بون في ألمانيا، وتنظيم مهرجان سنوي له هناك. وخصص له مركز للأبحاث لدراسة كل ما يتعلق به في الولايات المتحدة الأمريكية. وله تمثال في بون عرض عام 1845 ويعد التمثال الأول لموسيقار في ألمانيا، بالإضافة إلى تمثال آخر في فيينا نحت عام 1880. وأنتج حتى الآن ثلاثة عشر فيلما سينمائيا عنه، وأشهر من مثل شخصيته الممثل البريطاني غاري أولدمان والممثل الأمريكي أد هاريس، وبالإضافة إلى ذلك العدد الكبير من الكتب عنه في مختلف لغات العالم. وأما في الأدب العربي، فكان بطل قصة قصيرة خيالية. وسميت منطقة على سطح كوكب المريخ باسمه، وكذلك الجين المسبب لمرض الصمم الوراثي.
ما يزال بتهوفن يثير الدهشة لدى الأجيال الجديدة ويستمر نجمه في الصعود. وقد يتساءل المرء، ما إذا كانت التعاسة البالغة لبتهوفن، قد ساهمت في إنتاج هذا النمط من الموسيقى الرائعة، فهل كان بتهوفن، سيفضل البقاء في تعاسته لو أتيح له الخيار؟ على الأغلب لا.

باحث ومؤرخ من العراق

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب