الناقد عمر عاشور عن الأدب الجزائري: المؤسّسون كانوا أكثر حداثة… والجيل الحالي يملك أدوات العالمية
الناقد عمر عاشور عن الأدب الجزائري: المؤسّسون كانوا أكثر حداثة… والجيل الحالي يملك أدوات العالمية
حاورته: فريدة حسين
اعتبر الناقد الجزائري عمر عاشور (ابن الزيـبان) أن الجيل الأدبي الحالي في الجزائر مؤهل للانطلاق نحو العالمية، لأنه متعدد الرؤى والأدوات نتيجة التنوع الثقافي واللغوي والتجارب التي صهرت الجزائري منذ الاستعمار، إذ استطاع الاشتغال على أنساق مضمرة تتعلق بالمسكوت عنه سياسيا وتاريخيا، وأكد أن مؤسسي الرواية الجزائرية الحديثة على اختلاف لغاتهم (ابن هدوقة، ديب، وطار، بوجدرة، كاتب ياسين، مولود فرعون) مارسوا نقدا بارزا في كتاباتهم مس المسؤول والمجتمع والمواطن، وراهنوا من أجل جزائر تسع الجميع، فكانوا أكثر حداثة من جيل الحداثة وأكثر تسامحا رغم ثقل ثقافة الحزب الواحد.
دافع أستاذ الأدب في جامعة الجزائر، صاحب كتاب «الاستعارات القاتلة.. محاضرات في الأدب المقارن»، عن الأدب الجزائري باختلاف اللغة المكتوب بها، مشيرا إلى أن الثقافة الفرنسية مثلا تتنكر للأدب الجزائري المكتوب بلغة موليير، واعتبر بوعلام صنصال وكمال داود، على سبيل المثال، من ضحايا السراب الفرنسي، ولن تتعدى ـ حسبه – الحظوة الفرنسية بهما الآني الزائل.
□ لا تزال قاعات المحاضرات حول قضايا الأدب في الغرب تستقطب الجماهير، بينما يضطر المشاركون في ملتقيات علمية أدبية في الجزائر لتقديم أوراقهم البحثية للأشباح. ما تعليقك على هذه المفارقة وهل هذا يدفعنا للسؤال: ما جدوى الأدب في بلادنا؟
■ الكثير من هذه الملتقيات الثقافية والأكاديمية تقام في نهاية كل سنة من أجل استهلاك ما تبقى من ميزانية المؤسسات، كمديريات الثقافة والجامعات خاصة، وكثير المشاركين فيها يبحث عن شهادات مشاركة قصد الترقيات المهنية، وبعضهم ينتج بحوثا عن أدباء لا يقرأ لهم أصلا، وهذا ما يستدعي مراجعة سياسة التعليم، وكذلك مراجعة الجدوى من هذه الملتقيات، فمن غير المعقول أن تقام نهاية كل سنة مئات الملتقيات وتختفي من الطبعة الأولى ولا تطبع حتى أشغالها.
□ هل يكتسب الأدب هويته من اللغة، الفكرة، المضمون أو الأيديولوجيا؟ وما الذي صنع أدبا جزائريا مستقلا؟
■ اللغة والمضمون والأيديولوجيا جميعها يدخل في هوية الأدب، أما الأدب الجزائري المكتوب بالفرنسية فهو جزائري، والنقاش حول هذه الجدلية صار محسوما لصالح الأدب الجزائري، والذين يتحججون أن هوية الأدب أو الفكر من لغته، ماذا يقولون في مالك بن نبي الذي يكتب بالفرنسية؟، ويكفي أن دوائر فرنسية سنة 1996 عارضت مقترحا أوليا لترشيح محمد ديب لنوبل، كما اغتالت فرنسا مولود فرعون ولم تشفع له الكتابة بلغتها. وأعتقد أن الحساسية متعلقة بفرنسا كإرث استعماري وليس كإرث لغوي أو أدبي، فاللغة الفرنسية غنيمة يجب استغلالها والاستفادة منها.
□ يتميز النص الجزائري بتعدد الأصوات وتنوع الهويات لكنه أيضا يتعرض لما يسمى بجدل المرجعيات. ما هي الأسباب التي دفعت نحو هذا الطرح؟
■ يرجع هذا التعدد والتنوع للثراء الثقافي الجزائري من حيث اللغة والعرق والتاريخ الضارب في الزمن، ذلك أن ثاني أقدم وجود بشري في العالم وعمره 2.4 مليون عام يوجد في منطقة عين الحنش في ولاية سطيف، وأول رواية في العالم «الحمار الذهبي» ظهرت في الجزائر خلال القرن الثاني ميلادي، كما أن مسرحية «نزهة المشتاق وغصة العشاق في مدينة طرياق في العراق» للجزائري إبراهيم دانينوس طبعت سنة 1847 قبل مسرحية «البخيل» لمارون النقاش بسنة كاملة، بل إن محمد ديب «الدار الكبيرة» 1952 سبق نجيب محفوظ «بين القصرين» 1956 في كتابة فن الثلاثية، لكننا لم نستطع أن نؤرخ لذلك في النقد العربي، فكل هذا التنوع وهذه العراقة تعطي الأدب الجزائري ذلك التعدد، وهو تاريخ ذهبي يجب الاحتفاء به والاعتزاز به والاستفادة منه، لكن الجزائري ما زال للأسف لا يحسن الترويج لمنتوجه الثقافي والسياحي والرياضي.
□ قال سعيد خطيبي عن آسيا جبار: «أدارت ظهرها للانقلابيين على الأدب ماتت لتبعث الروح في ورق ديناصورات الأدب أحادية الخلية»، وقال حميد عبد القادر: آسيا جبار انتصرت على دعاة الأحادية». في رأيك من يقصدان؟
■ يكفي آسيا جبار أنها نالت عضوية أكاديمية اللغة التي لم ينلها كثير من كبار أدباء فرنسا، لأن دخول هذه الأكاديمية مرتبط بتقديم إضافة في تطوير اللغة الفرنسية، فهي أيقونة بأتم معنى الكلمة، والمؤسف أن أعمالها في الجزائر ليست في متناول جميع القراء، والخسارة الكبرى أن آسيا جبار تكاد تكون مجهولة لدى القراء على مستوى الوطن العربي، وعليه فإن ما تحتاجه آسيا جبار، لعرج، بوجدرة، وطار، الزاوي، زهور ونيسي ومستغانمي وغيرهم هو تدريس وترجمة أدبهم بعيدا عن السجالات الفئوية النفعية الضيقة، وهذا رهان معقود على الجامعة الجزائرية والصحافة الوطنية أيضا.
□ هناك من يعتبر توجّه بعض الكتاب الجزائريين باللغة الفرنسية إلى الكتابة بالعربية مشروعا لحركة الحداثة الروائية في الجزائر (رشيد بوجدرة مثلا). ما قولك؟
■ اعتقد أن فرنسا لا تولي اهتماما للذين يكتبون بالفرنسية ويحلبون خارج إنائها، لذلك قال محمد ديب يوما، إنه لا يمكن الاعتراف بك ما دام اسمك «محمد»، كما أن رشيد بوجدرة تحوّل للكتابة بالعربية بعدما رأى في الثقافة الفرنسية وإعلامها نكرانا لأدبه، لذلك كتب لاحقا كتابه «زناة التاريخ» يهجو فيه ضحايا السراب الفرنسي، أما بوعلام صنصال وكمال داود فلن تتعدى الحظوة الفرنسية بهما الآني الزائل، ويتم حاليا توظيفهما لخدمة أجندات سياسية فرنسية قد تضر حتى بالمصلحة الوطنية للجزائر. أما حداثة أي أدب فيجب أن تنبع من ذاته دون الانغلاق عليها.
□ يشهد الأدب الجزائري حاليا جيلا جديدا تحرر من الثنائية العقيمة «عربوبعثية» و»فركفونية»، هل يمكن القول إن هذا الجيل تمكن من التأسيس لـ»أدب جديد»؟
■ يمكن القول إن الجيل الأدبي الحالي في الجزائر متعدد الرؤى والأدوات، لذلك نراه دوما يحصد الجوائز الكبرى في الأدب وفي النقد، والأسماء كثيرة، وهذا نتاج التعدد الثقافي واللغوي والتجارب التي صهرت الجزائري منذ الاستعمار مرورا بالعشرية السوداء، هذا الجيل الذي بإمكانه اليوم أن ينطلق من محليته نحو العالمية، بعد أن كان الاستعمار في السابق يحول بينه وبين هذه المحلية. فأدباء الجيل الجديد استطاعوا الاشتغال على أنساق مضمرة تتعلق بالمسكوت عنه سياسيا وتاريخيا، مستفيدين من التعددية التي يعيشها المجتمع الجزائري، وهو ما لا يسمح به في أنظمة سياسية واجتماعية عربية أخرى.
□ المأساة المزدوجة (الاستعمار- اللغة) حملها كتاب جزائريون في سياق تاريخي معين. في اعتقادك ما هي مأساتهم الراهنة؟
■ إن الملابسات التي فرضت على مالك حداد تلك المعاناة (الفرنسية منفاي) بتوقفه عن الكتابة كونه ليس قادرا على الإبداع خارج اللغة الفرنسية، تجاوزتها أجيال اليوم، وقد لعبت المدرسة الجزائرية دورا بارزا في ذلك، لكن للأسف هذا التجاوز الذي حققته الأجيال الجديدة يظل محدودا من حيث النوعية، لتتحول الكثرة الرديئة إلى سجن يهدد مستقبل الأدب الجزائري. والخطر الداهم الذي سيقصم ظهر الأدب الجزائري مستقبلا، هو الانتشار الطفيلي لدور نشر تنشر ما هب ودب في إطار عملية تجارية تشبه المضاربة، حيث آلاف الكتب تصدر سنويا بعيدا عن لجان القراءة، وبالمال العام، ويلاحظ القراء في كل سنة في معرض الجزائر الدولي للكتاب، مئات الأدباء الذين يظهرون هكذا فجأة بمطبوعات تنخرها الأخطاء وتقام لهم عمليات البيع بالإهداء بطريقة فيها الكثير من البهرجة القاتلة، وعليه يجب إعادة النظر في طرق عمل دور النشر، خاصة أنها تنتفع بالمال العام، فهي لو كانت تنشر على عاتقها لما نشرت كل هذه الرداءة.
□ خصص بعض الكتاب الجزائريين رواياتهم لمعالجة مشاكل مرحلة «ما بعد الاستقلال» على غرار رشيد بوجدرة الذي سلط الضوء على النهب والسلب والانتهازية، وقدم نقدا لاذعا للمسؤولين. ما هي الرسالة التي كانوا يبحثون عن إيصالها؟
■ لعب مؤسسو الرواية الجزائرية الحديثة على اختلاف لغاتهم (ابن هدوقة، ديب، وطار، بوجدرة، كاتب ياسين، مولود فرعون) دور الطبيب، الذي يجد نفسه مسؤولا عن تشخيص مريضه تشخيصا حقيقيا، لذلك كان هناك أسلوب نقدي بارز في كتاباتهم مس المسؤول والمجتمع والمواطن معها. لقد كان الرهان كبيرا من أجل جزائر تسع الجميع، بل إن هؤلاء المؤسسين كانوا أكثر حداثة من جيل الحداثة وأكثر تسامحا، رغم ثقل ثقافة الحزب الواحد التي كانت سائدة آنذاك، ففي ندوة جمعت بين ابن هدوقة (أول من كتب رواية بالعربية «ريح الجنوب» -1971) ومحمد ديب وكان الموضوع يدور حول الرواية الجزائرية الحديثة قام ديب بالاعتراف بريادة ابن هدوقة، كما قام ابن هدوقة بالاعتراف لصديقه ديب بالريادة.
□ غلب على الأدب الجزائري المكتوب خلال الثورة وما بعد الاستقلال مباشرة تيار الوعي. أي تيار يُبنى عليه حاليا؟
■ اعتقد أن الأمور تكاد تتكرر مع فروقات طفيفة، مع انفتاح الكاتب الجزائري على فلسفات وتيارات جديدة خارج التيار الاشتراكي وفلسفته الماركسية اللذين كانا يمثلان خيارا سياسيا آنذاك.
□ في الأدب الجزائري، كثيرا ما يطرح سؤال التاريخ، في رأيك، هل هذا راجع لإرهاصات تاريخية يبحث الكتاب عن علاجها؟
■ تاريخ الجزائر بعظمته لم ينل حقه من التدوين والتأريخ والتمحيص من طرق المؤرخين لأسباب سياسية معروفة، خاصة أن الجيل الذي صنع الحقبة الذهبية من هذا التاريخ لا يزال حيا، لذلك انبرى الأدباء لطرح الكثير من قضايا هذا التاريخ برؤية نقدية، فصارت الرواية الجزائرية اليوم هي التاريخ الذي أهمله المؤرخون. بل إن أهم الأسماء الجزائرية في الرواية عادت إلى التاريخ بعدما انشغلت لسنوات بالأزمة التي عاشتها الجزائر تسعينيات القرن الماضي (العشرية السوداء).
□ يعتبر الأدباء حراس الثقافة. هل لعب الكتاب الجزائريون هذا الدور؟ وهل حظي النص الجزائري بوعي النقاد؟
■ على المستوى الأكاديمي يوجد وعي بالنص الجزائري، لكن هذه الأطروحات لا تجد طريقها إلى النشر ليستفيد منها القراء، فالنشر في الجزائر عملية معقدة ذات شجون، لكن هناك مشكلة أخطر وهي، أن الأدب الجزائري قليل داخل كتب المنظومة التربوية، وأخطر من ذلك أن الذين يدرّسونه مجرد متعلمين يلقنون التلاميذ والطلاب انطلاقا من تعصبات بعيدة عن النصوص، فصار لدينا قراء متشبعون بهذه التعصبات (يمينية – يسارية) وفارغون من النصوص وجمالياتها، لذلك فإن الأدب يحتاج تدريسه إلى مثقفين ذوي ذائقة جمالية وواعين بمسؤولياتهم التاريخية والوطنية تجاه الأجيال، وهو ما عرفه تدريس الأدب الجزائري في القرن الماضي، من طرف جامعيين أدباء، أما اليوم ففي المسألة الكثير من التكلس، وفي الجامعة يشتكي الكثير من الطلبة أنه يتم تنفيرهم من الأدب الجزائري من طرف أساتذة متعصبين أيديولوجيا وفكريا، بعضهم يهاجم الأصالة باسم الحداثة، وبعضهم يهاجم الحداثة باسم الأصالة، خدمة لمصالح هي في الأساس تضر بالأدب الجزائري وترهن تطوره وانتشاره وتحدّ من عالميته أيضا.