
صندوق الأفندي: أوراق الإمام محمد عبده المجهولة

محمد تركي الربيعو
عرفت الساحة الثقافية المصرية في السنوات الأخيرة عددا من الكتب، التي تمكنت من الكشف عن أوراق جديدة وأرشيف جديد حول سيرة بعض الشخصيات الثقافية والفكرية المصرية. ولعل هذا ما وجدناه مثلا مع نشر أوراق جديدة لسيرة مصطفى النحاس (تحقيق عماد أبو غازي) أو مذكرات الطفولة الخاصة بنجيب محفوظ (محمد شعير) وأوراق ويوميات جديد لهدى شعراوي (إعداد حفيدتها سنية شعراوي) أو إبراهيم ناجي (إعداد حفيدته سامية محرز). والطريف في الأوراق المحققة الجديدة، أنها استطاعت أن ترسم لنا صورا أخرى جديدة وصادمة أحيانا عن حيوات هذه الشخصيات. وفي سياق هذا الاهتمام البحثي، صدر حديثا كتاب بعنوان «من أوراق الإمام محمد عبده المجهولة» إعداد المؤرخين، عماد أبو غازي ووليد غالي، دار الشروق. وفي هذا الكتاب نتعرف على قصة اكتشاف أوراق جديدة لمحمد عبده في عام 2007، وقيام مكتبة جامعة أغا خان في بريطانيا بشراء هذه الأوراق. وتعود ملكية الأوراق إلى محمد علي أفندي السعودي، وهو شخصية مصرية عرف بهوايته بتصوير الأراضي المقدسة في الحجاز بدايات القرن العشرين، وكانت دار كلمة للترجمة قد أصدرت يومياته، التي كتبها بإلحاح من الإمام محمد عبده، ما وفر لنا التعرف على أحد أوائل المصورين الفوتوغرافيين في المنطقة. كان أفندي السعودي مولعا بجمع الأوراق والمخطوطات، لدرجة أنه اقتنى مخطوطة مكتوبة بخط اليد لكتاب بوركهاردت «رحلات في شبه الجزيرة العربية». ويبدو أنه لازم الإمام عبده لفترة من الزمن، ما مكنه من اقتناء بعض النسخ الخاصة به، والاحتفاظ بها. وتشمل الأوراق التي حازتها جامعة أغا خان، مجموعة خطية عبارة عن بعض الأوراق المفردة وكراستين، الأوراق المفردة مدون فيها جدول بأهم الأحداث التاريخية في فلسطين من عام 4000 قبل الميلاد حتى 400 بعد الميلاد، أما الكراستان فأولاهما مخطوطة معنونة بـ»تنوير العقول بتفسير أشياء عقلية» وتتضمن موضوعات اجتماعية متفرقة حول الأسرة والمجتمع والعمل والأجناس البشرية، وقد اتضح للمؤرخين أن هذه الكراسة هي مسودة لترجمة كتاب تشارلز ديلون «مدخل مبسط للإعداد لدراسة التاريخ» المنشور في مدرسة السوربون عام 1876، ويبدو أن الإمام عبده قد ترجمها في سياق تعلمه للغة الفرنسية. أما الكراسة الثانية ففيها ترجمة لثلاثة فصول من كتاب «الجمهورية» لأفلاطون، وقد تكون أيضا من ترجمته.
الإمام وثورة عرابي
مع نهاية السبعينيات من القرن التاسع عشر، شهدت القاهرة نقاشات واسعة من أجل الحصول على الدستور، وقد قاد هذا الطرح عددا من النواب وأعيان الريف ورجال الفكر وضباط في الجيش، خاصة من ذوي الأصول المصرية. حاول البريطانيون والفرنسيون إحباط هذه الدعاوى، من خلال تغيير الخديوي إسماعيل، وتعيين ابنه توفيق بدلا عنه، الذي أبدى عداء للنظام الدستوري، وقام بملاحقة المعارضين ونفى بعضهم، مثلما جرى مع جمال الدين الأفغاني في العام نفسه، بعد إلقاء الأخير لخطبة في جامع السلطان حسن، دعا فيها إلى الجهاد ضد الأجانب والثورة من أجل الاستقلال.
وهكذا بدت الأحداث تتجه نحو ما عرف بالثورة العرابية التي تفجرت بمظاهرة عابدين يوم 9 سبتمبر/أيلول 1881، وكان في مقدمة مطالبها إقرار نظام دستوري للبلاد، وإعادة مجلس النواب. إلا أن هذه الثورة دفعت البريطانيين لاحتلال البلاد، وإعادة تثبيت الخديوي توفيق على كرسي الحكم بعد هروبه، وقاموا بمحاكمة قادة الحركة الوطنية ومناصريهم، وصدرت الأحكام بالنفي على عرابي. كان لا بد أن تؤثر هذه الاحداث في حياة ورؤية محمد عبده وطريقة تفكيره، إذ اعتقد أن الأمور يمكن أن تحل بالسياسة لا بالعنف، وانطلاقا من خوفه من احتلال الأجانب لمصر، وجد عبده أن على فريق عرابي أخذ الأمور بالتدريج لا بالطفرة. مع ذلك وبعد دخول البريطانيين للبلاد حوكم عبده بالنفي ثلاث سنوات خارج مصر.
النفي والسياسة
وهنا يبدو أن بعض الباحثين وجدوا في فشل الثورة العرابية نقطة للقول، إن الإمام عبده بعدها ضاق ذرعا بالسياسة بعد أن تم نفيه خارج مصر، إلا إن إحدى الوثائق التي عثر عليها المؤرخان، تظهر خلاف ذلك، إذ تظهر هذه الورقة المنشورة في عام 1883، أن الإمام لم يعتزل العمل السياسي، بل استمر لبضع سنوات يلعب دورا سياسيا مباشرا، إذ أدرك عبده أن التعلم من الأخطاء وإمعان التفكير في ما يدور حوله واجبان دينيان بالإجماع، لذلك أخذ يسعى للبحث عن حلول لخروج مصر من الاحتلال.
ما الذي ترويه الوثيقة
تشغل الوثيقة أربع صفحات، وقد دونها عبده بين صفحات ترجمة كتاب أفلاطون، وبحبر مغاير، لتهريبها إلى داخل مصر، والتمويه على سلطات الاحتلال البريطاني والسلطات المصرية. وتتضمن مشروعا للائحة أساسية لإعادة حكومة أهلية إلى البلاد. نعثر في سطورها الأولى على عبارة تقول «كتبها بعض رجال الإنكليز، وبعث بها إلى بعض المصريين ليوقع عليها ويحمل إخوانه على التوقيع كذلك». ويحسب للمؤرخين هنا حرفيتهم واجتهادهم في قراءة هذه الوثيقة والكشف عن ما كان يدور خلفها من نقاشات سياسية ودينية. إذ يريان مثلا أن العبارة السابقة تشير إلى فكرة كانت تتردد في الأوساط السياسية في بريطانيا في ذلك الوقت (1883) وتحبذ الانسحاب السريع في مصر في حال تنظيم أوضاعها الداخلية، مع ذلك لا يمكن الجزم أن من كتبها رجال إنكليز بالضرورة، إذ ربما حاول عبده من خلال هذه العبارة التمويه في حال سقوط الكراسة في يد السلطات، أو لعلها صادقة وجاءت نتيجة نقاش بين عبده وبعض السياسيين الإنكليز، وهو ما يدعم فكرة أنه لم ينقطع عن العمل السياسي كما قيل بعد فشل عرابي.
من النقاط الأخرى في الوثيقة، ما يتعلق بطريقة كتابة خاتمتها، التي جاءت كالتالي «حرره سابين في البحر في آخر شهر سبتمبر/أيلول سنة 1883 في المركب الفرنساوي المسمى ياني هو بين اسكندرية وبور سعيد» ويبدو أن عبده فضل هنا أيضا عدم كتابة اسمه خوفا من وقوع الوثيقة في يد البريطانيين، فكتب اسما وهميا يبدو فرنسيا، أو ربما كان هذا اسما حركيا متقفا عليه. مع ذلك يؤكد المؤرخان أنه من الصعب معرفة إن كانت هذه الوثيقة قد وصلت فعلا لبعض السياسيين المصريين، أم احتفظ بها محمد علي أفندي السعودي؟
كاتب سوري