ثقافة وفنون

«إيميليا بيريز» للفرنسي جاك أوديار: امرأة شجاعة تواجه الماضي

«إيميليا بيريز» للفرنسي جاك أوديار: امرأة شجاعة تواجه الماضي

نسرين سيد أحمد

كان ـ  يحمل فيلم جاك أوديار الجديد، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي (من 14 إلى 25 مايو/ أيار) اسم شخصيته المحورية إيميليا بيريز، وهي امرأة خاضت حربها الخاصة، مجازيا وحقيقيا، وهي امرأة لديها من القوة والشجاعة ما مكناها من ترك ماضيها الصعب والبدء من جديد.
اختار أوديار الحائز السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2015 عن فيلمه «ديبان» أن يكون «إيميليا بيريز» فيلما غنائيا موسيقيا، رغم موضوعه الصعب الشائك المتشعب، الذي يصعب أن يكون غنائيا أو استعراضيا، لكن مقامرة أوديار تنجح وبنتائج مبهرة، حيث تصبح الأغنية هي سبيلنا لمعرفة ما يعتمل داخل الشخصيات، وتعبيرهم عن ذواتهم ومكنوناتهم. لا يقتصر إبداع أوديار في الفيلم على اختيار القالب الغنائي فقط، لكنه يجمع ذلك مع الجريمة، والإثارة، والتشويق، مع بعض عناصر أفلام بيدرو ألمودوفار، التي تحمل فهما عميقا للمرأة ومشاعرها. واختار أوديار أن يكون مسرح أحداث فيلمه المكسيك، وعالم عصابات الإجرام وتهريب المخدرات، بتاريخه الدامي الموغل في العنف، كما يحمل الفيلم بعض ملامح المسلسلات التلفزيونية المكسيكية. ويمكننا القول إن القالب الموسيقي الغنائي للفيلم هو القالب الوحيد الذي في إمكانه الجمع بين كل هذه العناصر. لكن محور الفيلم وجوهره هو تقرير الإنسان لمصيره، والبحث عن هويته الجنسية والجندرية، والخروج من مستنقع حياته السابقة، والبدء من جديد، كل هذا نابع من الرغبة الحقيقية للتحول الجنسي. وما كان للفيلم أن يكون بهذا التأثير البالغ، لولا الأداء المرهف المؤثر من كارلا صوفيا غاسكون، الممثلة الإسبانية المتحولة جنسيا، في دور إيميليا بيريز.
تشارك زوي سالدانيا في بطولة الفيلم، حيث تؤدي بإتقان كبير دور ريتا، وهي محامية شابة تعمل لصالح مكتب محاماة كبير في المكسيك، ومهمتها، التي لا تحمل تقديرا كبيرا لموهبتها في الترافع، ولا تمنحها أجرا كبيرا، هي كتابة المرافعات للمحامين الرئيسيين في المكتب، التي تهدف لتبرئة بعض كبار رجال العصابات في المكسيك من الاتهامات الموجهة إليهم. تبرع ريتا في كتابة المرافعات، بينما يحصل المحامي الرئيسي على المال والشهرة. أما المعضلة الحقيقية لريتا، فهي مشاعرها إزاء أنها تكتب مرافعات تبرئ ساحة مذنبين ومجرمين حقا، وما يمكننا من معرفة مشاعر ريتا الدفينة هو الأغنية التي تؤديها والموظفة بذكاء في الفيلم.

لكن هناك من يتابع ريتا في الخفاء ويدرك موهبتها. وذات يوم تتلقى اتصالا هاتفيا غامضا يعدها بالثراء الكبير إذا تمكنت بنجاح من تلبية طلب موكل جديد، لم يفصح عن هويته. ويبلغها المتصل الغامض أنه لا تراجع في الأمر، فإذا قبلت مقابلته، هذا يعني قبولها للمهمة المكلفة بها وإتمامها على أكمل وجه.
بعد تردد توافق ريتا على قبول المهمة، التي لا تعلمها، ومقابلة المتصل الغامض. يتم إثر ذلك اقتلاعها من وسط الطريق اقتلاعا، ويوضع غطاء أسود على رأسها. لا ينزع الغطاء الأسود عن رأسها إلا وهي أمام مانيتاس دل مونتي (غاسكون أيضا) زعيم العصابة الإجرامية وعصابة تهريب المخدرات الشهير.
يخبرها مانيتاس، صاحب الصوت الأجش والوجه المكسو بالوشم والبنية الذكورية القوية، إنه يتناول هرمونات الأنوثة منذ عامين، ويود التحول لأنثى. يقول لها إنه لا يسعى لذلك هربا من السلطات أو رغبة في الفرار، لكن لتحقيق رغبته الدفينة وميله الحبيس منذ أن كان طفلا. يخبرها أنه ولد في بيئة صعبة قاسية، في وسط يحفل بالجريمة، ولكي ينجو وسط هذا العالم كان يتعين عليه أن يكون أكثر قسوة من الآخرين، لكنه رغم هذه القسوة الخارجية كان دوما يصبو أن يكون امرأة. أما مهمة ريتا فهي العثور على الطبيب المناسب لإجراء الجراحة، وتبرير اختفائه بعد عملية التحول، ونقل أصوله المالية، وبدء حياة جديدة لزوجته (سيلينا غوميز) وطفليه خارج المكسيك. وفور إتمام تلك المهام تحصل ريتا على مبلغ ضخم يجعلها ثرية، ويمكنها من مواصلة عملها ودراستها العليا في الخارج.
ثمة رهافة كبيرة في تعامل الفيلم مع تحول إيميليا. نراها تتأوه من شدة الألم، وتكسو وجهها وجسدها الضمادات، ونراها تتماثل للشفاء رويدا رويدا. ثم نراها وهي تحاول أن تعتاد على اسمها الجديد، مرددة في سعادة «أنا إيميليا بيريز». قبل إجراء العملية ينبه الطبيب الجراح ريتا ومانيتاس إلى أن عملية تحويل الجنس لا تحول جوهر الإنسان وروحه، ويؤكد مانيتاس أن داخله يختلف تماما عن واقعه كرجل عصابات كبير.
بعد مرور أعوام واستقرار أبناء ريتا وزوجته في سويسرا، وسفر ريتا لبريطانيا والحصول على منصب مرموق، تحضر ريتا حفلا تلتقي فيه بسيدة أنيقة تتحدث الإسبانية، لم ترها من قبل تدعى إيميليا بيريز، وتقول لها إن لقاءهما هذا لم يأت بالصدفة. وتدرك ريتا أنها مانيتاس بعد تحوله الذي لم تشهده. تكلفها إيميليا بمهمة جديدة، وهي أنها اشتاقت لطفليها اللذين تحبهما بشدة، وتود أن يعودا للمكسيك، وأن تعود هي أيضا للمكسيك، وتكلفها بأن تبلغ الابنين والزوجة أن إيميليا هي ابنة عمومة لمانيتاس، وأنه أوصى بأن يقيموا معها حتى لا يتعرضوا لخطر العصابات المنافسة. وبعد العودة إلى المكسيك، واستقرار الابنين في بيت العمة إيميليا التي أوصى والدهما بأن يبقيا في كنفها للحماية، تلتقي إيميليا في سوق من الأسواق امرأة تبكي وتوزع ملصقات تحمل صورة ابنها الشاب الذي تقول إن العصابات اختطفته أو قتلته دون ذنب. وحينها تقرر إيميليا دورها التالي، وهو التكفير عن ماضيها وإنشاء جمعية تساعد أهالي المفقودين بسبب عنف العصابات وعمليات الاختطاف في العثور على أبنائهم، سواء كانوا أحياء أم قتلى.
قصة الفيلم مليئة بالأحداث والشخصيات والتقلبات، وتحتوي على الكثير من التحولات، فيما يشبه المسلسلات المكسيكية، وقد يجد البعض هذه التحولات والتغيرات الكثيرة متكلفة أو مفتعلة، أو غير مصدقة بالقدر الكافي، لكننا ما كنا لنشهد التحول الكبير في حياة إيميليا من زعيم العصابة بالغ القسوة، لتلك المرأة التي تسعى قدر جهدها للتكفير عن أخطاء الماضي، ومساعدة أسر المفقودين والقتلى. وما كان للفيلم أن يكون بهذا التأثير الكبير دون أداء غاسكون، الذي يوضح كل التحولات النفسية والشخصية لإيميليا. كنا نود لو أن سيناريو الفيلم أكثر عمقا في تناوله لشخصية إيميليا. نحن نشاهد الأحداث التي ساعدت في اختياراتها، لكننا لا نعلم شيئا عن صراعتها الداخلية أو مكنوناتها. الفيلم، على جودته، يفتقر إلى العمق النفسي الألمودوفاري (نسبة لألمودوفار). في أفلامه مثل «تعليم سيئ» و»كل شيء عن أمي» التي تتناول ثيمات مشابهة، يمنح ألمودوفار الكثير من العمق النفسي لشخصياته، وهو ما لا يسعى أوديار كثيرا لتحقيقه.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب