ثقافة وفنون

«الصحراء وبذرتها» للأرجنتيني بارون بيزا: أن تتوزّع بطولة الرواية على ثلاثة منتحرين

«الصحراء وبذرتها» للأرجنتيني بارون بيزا: أن تتوزّع بطولة الرواية على ثلاثة منتحرين

حسن داوود

تبدأ «الصحراء وبذرتها» كرواية بوليسية، داخل السيارة المسرعة، امرأة احترقت بإلقاء الأسيد عليها. لا تطلق صيحات الألم، على الرغم من الحروق الفظيعة في وجهها وجسمها، وفي ثيابها أيضا، المشبعة بالمادة الحارقة. كانت تتأوه كلما مدّ مرافقها في السيارة، وهو ماريو، ابنها الأكبر، يده إلى الثوب ليرفعه عنها. هي بداية بوليسية أو رواية جريمة، يؤكّد ذلك أن من أحرقها هو زوجها الذي، بعد إلقائه المحلول الناري عليها، أطلق على نفسه رصاصات أودت بحياته على الفور.
في تفاصيل الرواية نبدأ التعرّف على العائلة، الزوج والزوجة منذ عشرين سنة. هو رجل ثري وسياسي معروف وكاتب سيّئ السمعة في بلده الأرجنتين، وهي مثقفة ومعارضة سياسية وقائدة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة. كل ذلك نعرفه في سياق يتذكره الراوي وهو قابع إلى جانب إيليخيا في مستشفى في ميلانو، التي نقلت إليها لترميم وجهها وجسمها، أو لإعادة تسويته جسما بشريا. الوجه على الأخصّ، ذاك الذي جعلنا الراوي نتابع العمليات الكثيرة والمتتالية التي كانت تُجرى له على مدار أشهر كثيرة، ودائما بالتفصيل الجراحي الدقيق الذي يجعل قراءة الرواية عملية مُجهِدة.
المرأة والرجل غير حاضرين في الرواية، إلا في ما يستعيده الراوي، الذي قلما يشير إلى علاقته الأسريّة بهما. لا يتدخّلان في ما يُسرد، ذاك لأنهما واحد مقتول وواحدة لا تتكلّم. إنه هو إذن، الابن من ينقل لنا ما كان عليه الاثنان في حياتيهما، وبلا عاطفة زائدة تجاه أي منهما. من ميلانو المدينة الإيطالية، يحكي ماريو الرواية كلها، ملتصقا بغرفة المستشفى تلك، ثم متسلّلا إلى خارجها للسهر في حانة رخيصة، حيث يتعرف إلى دينا، فتاة الليل التي تنتظر زبائنها واقفة لهم على قارعة الطريق. مع دينا يتعرف الشاب على أنماط من زبائن الليل غريبة علاقتهم بها، الجنسية والشخصية. كما يتعرف على فتاة في المستشفى هي واحدة من أولئك الكثيرات اللواتي جئن لإجراء عمليات تجميل أنوفهنّ. عالم غريب ذاك الذي يتعرّفه الشاب في ميلانو وينخرط فيه، لكن دون أن يصير واحدا من بشره.
هما، المرأة والرجل، ماضي الرواية وهو، ابنهما ماريو، حاضرها. هما بالتذكر وهو بعيش التذكر مع جرعات من الحياة، التي لن تلبث أن تصير ماضيه هو أيضا، طالما أن الرواية لن تُختتم بشفاء أمّه وعودتها إلى أدوار حياتها السابقة. فها هي، فيما الراوي ما زال مستمرا في سرده، ترمي بنفسها من النافذة، بفعل جرى وصفه بتلقائية عادية لم تسبقها مقدّمات تمهّد لانتحار أكثر أبطال الرواية حضورا في اهتمام القارئ.
قلما تحكي الرواية عن الأرجنتين، المكان الذي عاش فيه الزوجان وجرت فيه واقعتها. الوصف التفصيلي للأمكنة تعلّق كله بالمحيط الجغرافي الضيق، الذي راح يتجوّل فيه الابن، مسريا عن نفسه بعد قضاء الساعات الطوال إلى جانب سرير أمه إليخيا. هي ميلانو التي لا يحب أهلها أن ينتقلوا إلى روما العاصمة. إذ لا تريد ميلانو أن تكون روما «لسنا بحاجة إلى موجات السياح في الصيف» الذين يأتون للتفرّج على مجد روما التاريخي القديم.
الرواية، إذ تبدأ بداية بوليسية، أو رواية جريمة سريعا ما تتخلّص من وجهتها تلك، لتصير رواية وجودية، أبطالها حاملو قضايا إنسانية معقّدة وكدمّرة. ونحن سنعرف، بعد أن نصل إلى خاتمتها، أنها رواية واقعية، أو بالأحرى سيرة عائلية جارية على لسان الشاب، الذي احترقت امرأته وقتل زوجها نفسه. ذاك الشاب الذي أعطى لنفسه إسم ماريو في الرواية، إنما هو كاتب الرواية نفسه: خورخي بارون بيزا. ربما كان القارئ قد توصّل بنفسه إلى الظنّ أن ما يقرأه سيرة حياتية لعائلة. لكن الظن ذاك سيتأكد في النص الذي أطلق عليه عنوان «كلمة أخيرة» وهي عشر صفحات كتبتها ناقدة علّقت على الرواية بادئة بالقول الصريح، إن ما كتبه الروائي هو قصة حياة والديه وموتهما، كما حياته هو، الإبن الأكبر الذي عايش فظاعة ما حدث لهما. الرواية إذن تبدأ من ذروتها، من صفحات توترها القصوى، مع الوجه المحترق الذي أجريت له كل تلك العمليات الجراحية، لكن لا تستطيع هذه الفظاعة أن تستمرّ حتى نهاية الصفحات. لذلك كان على الكاتب أن يُدخل حوادث أخرى وشخصيات أخرى، وكذلك شذرات من أفكار وتأملات وانتقالات بين الأماكن مبيّنا الاختلافات بينها عمرانيا وتاريخيا، وكذلك اجتماع أهلها وتنازعهم.
في صفحات الناقدة نورا أفارو العشر، تلك المذكور عنها أعلاه، تستكمل الرواية – السيرة بذكر أن انتحارا ثالثا أعقب ما قرأناه، وهو قتل الراوي – الابن لنفسه بعد سنتين من إنهائه كتابه.

»الصحراء وبذرتها» رواية خورخي بارون بيزا صدرت بترجمة خالد الجبيلي عن منشورات الجمل في 240 صفحة سنة 2022.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب