مقالات

لا شبه بين الليلة والبارحة… المقاومة طويلة الأمد تقلب موازين القوة في فلسطين

لا شبه بين الليلة والبارحة… المقاومة طويلة الأمد تقلب موازين القوة في فلسطين

في 5 حزيران/يونيو تحل الذكرى 57 لاجتياح إسرائيل حدود مصر وسوريا والأردن، واحتلال سيناء وقطاع غزة وهضبة الجولان وغور الأردن والضفة الغربية والقدس الشرقية في 6 ساعات. وفي اليوم التالي تكمل المقاومة الفلسطينية 8 أشهر في مواجهتها الحالية ضد إسرائيل، وتستعد للشهر التاسع في مواجهة طويلة الأمد من أجل إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على كل شبر من الأرض الفلسطينية، التي يقرر القانون الدولي أنها أرض محتلة، وهي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية. هذه المرة تقول المقاومة بكل قوتها: طالما استمر الاحتلال استمرت المقاومة والبادي أظلم، فلم يعد اجتياح الأرض الفلسطينية نزهة تتم في ساعات، مثلما حدث قبل 57 عاما.

لم يحدث في تاريخ إسرائيل أنها حاربت لمدة 8 أشهر متصلة. ولم يحدث في تاريخ العالم أن تعرض شعب لحصار من البر والبحر والجو، واستخدمت ضده أحدث أنواع الأسلحة، وأبشع الأساليب البربرية الوحشية، واستمر في الصمود كما هو الشعب الفلسطيني. ولم يكن في حسبان إسرائيل عندما بدأت العدوان الوحشي أن الحرب ستستمر لأشهر، لكنها الآن من المرجح أن تطول حتى ما بعد نهاية العام الحالي. في حرب غزة لا تفرق القذائف والمدافع والدبابات والطائرات الإسرائيلية بين عسكري ومدني؛ فالفلسطيني هو المستهدف في حرب الإبادة. ولا ترى إسرائيل استمرار وجودها إلا في فناء الفلسطينيين. هذه الحرب من وجهة نظر العدو المحتل ليست حرب نصر أو هزيمة، بل إنها حرب بقاء أو فناء. ولن تستطيع إسرائيل مهما اعتمدت على القوة الغاشمة الوحشية أن تنتصر على شعب زاده هو إرادة البقاء، والتصميم على الحياة حرا مستقلا في دولة ذات سيادة، على مقاس تضحياته جيلا بعد جيل. دولة ليست على مقاس حماس، ولا على مقاس فتح، ولا مقاس السلطة الفلسطينية، ولا على مقاس أي طامع في سلطة، وإنما دولة على مقاس تضحيات الشعب الفلسطيني، مع الاعتراف بأن الفضل كل الفضل إنما يعود إلى صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته، وأنه هو صاحب الإرادة الحرة في تقرير مصيره.
وإذا أردنا تقييم ما يجري، ونحن نقترب، بعد ساعات، من بداية الشهر التاسع من حرب غزة، فإننا نستطيع أن نحكم بالعين المجردة وبدون عناء بأن المقاومة الفلسطينية حققت انتصارا سياسيا عالميا لم يكن يتوقعه أحد، فنفضت عن القضية الفلسطينية الغبار الذي كاد يغطي طابعها السياسي ويحولها إلى مجرد قضية إنسانية، وأعادت الروح السياسية لها، وأنهت إلى غير رجعة محاولات بائسة على مدى العقود الأخيرة لتقديم حلول من خلال صفقات جزئية بمساعدات مالية واجتماعية شكلية بلا قيمة، يتربح منها مرتزقة، وتربح منها إسرائيل أمنا وتوسعا استيطانيا وسيطرة إقليمية. ولم يكن هذا هو النجاح الوحيد للمقاومة، بل إنها استطاعت أن تجعل مسألة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة هي المسألة رقم واحد على جدول أعمال العالم، رقم واحد على جدول الرأي العام العالمي، ورقم واحد على جدول أعمال مجلس الأمن الدولي، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعلى جدول أعمال كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.

شرعية المقاومة

حاولت إسرائيل منذ سنوات بالتواطؤ مع قوى الصهيونية العالمية وأذنابها في الولايات المتحدة أن تطابق بين «المقاومة» و«الإرهاب» في القانون الدولي. كما أنها أمعنت في استخدام قوانين مكافحة العداء للسامية ضد كفاح الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال وبناء دولتهم المستقلة، وذلك على الرغم من أن تلك القوانين تتعامل أساسا مع ظاهرة أوروبية، ليس للفلسطينيين ذنب فيها، لكنهم تحولوا إلى ضحية لها. ويعتبر إعادة الاعتبار إلى «المقاومة» وتمجيد شرعيتها والاحتفال العالمي بنشاطها واحدا من أهم المكاسب التي حققها صمود الشعب الفلسطيني على مستوى الرأي العام العالمي. ولم تكن حركة طلاب الجامعات المؤيدة للمقاومة الفلسطينية في كل أنحاء العالم، والتي ترددت أصداؤها حتى في جامعة تل أبيب إلا هذه الاستجابة العالمية الرائعة للصمود الفلسطيني. العالم يعرف الآن أنه حيثما يكون هناك احتلال تكون هناك مقاومة، وإنه لا مجال للخلط بين المقاومة والإرهاب، وأن المقاومة حق شرعي لمواجهة العدوان وتحقيق السيادة وحرية الإرادة. وقد نجحت المقاومة سياسيا، وتجلت نجاحاتها على مستوى العالم في قرارات سوف تبقى وصمة عار على وجه إسرائيل وقياداتها أبد الدهر.

معايير قياس فاعلية المقاومة

حتى تكون نظرتنا للمقاومة صحيحة مع اقتراب الشهر التاسع من صمود غزة، فإن تقييمنا يعتمد على رصد وتحليل نطاقين رئيسيين يحددان نشاط المقاومة المباشر وغير المباشر. النطاق الأول هو الخسائر التي تلحقها بالعدو الصهيوني، والنطاق الثاني هو المكاسب التي تحققها للشعب المعتدى عليه وعلى حقوقه. داخل كل من هذين النطاقين تتجلى قوة المقاومة، وتتجلى طبيعة علاقتها بقضية الشعب الفلسطيني، محليا وإقليميا ودوليا. لكننا في تقييمنا لرحلة الأشهر الثمانية الأخيرة يجب أن نحدد ما هي معايير الانتصار في المواجهة، حتى لا نخلط بين معايير القوة الغاشمة، ومعايير الحق الأخلاقي والقيم السياسية النظيفة. هنا سوف نصطدم بحقيقة مخيفة ألا وهي أن معايير القوة الغاشمة يتم قياسها بعدد من يتم قتلهم من الأبرياء، والبنايات التي يتم تدميرها من الأحياء السكنية والمدن، وكميات المرافق الأساسية التي يتم تخريبها، بما في ذلك المستشفيات والمدارس ومحطات المياه والكهرباء والاتصالات ومراكز الإنتاج، بما في ذلك إنتاج الغذاء وصناعة الخبز، والمساحات الخضراء من الحقول والغابات التي يتم حرقها. ونبادر إلى القول هنا وبلا تردد أن هدف المقاومة لا يتضمن شيئا من ذلك، وإنما تستهدف تخليص الشعب المقيد من قيوده، وإطلاق إرادته، وإقامة دولته. أما ما فعلته إسرائيل في مجال القتل والتدمير فإنه يندرج في إطار ممارسات القوة الغاشمة الوحشية البربرية التي تقيس نجاحها بعدد من تقتل وما تدمر وتخرب وتحرق. هذا ليس من الانتصار في شيء، وإنما هو أدلة على اليأس العاجز الجبان.
المقاومة استطاعت أن تعيد الحياة إلى قضية شعب في قالبها الحقيقي من دون تشويه، وأن تنجح في جعلها قضية العالم وليس قضية الفلسطينيين فقط، وأن تعيد صياغة شعارات الكفاح الفلسطيني، ليكون شعار إقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة هو رأس كل الشعارات ومحركها. هنا يتحقق النجاح السياسي للمقاومة. أما نجاحها العسكري فإنه يتمثل في صمودها من دون امدادات وتحت الحصار في مواجهة واحدة من أكثر آلات الحرب وحشية في العالم. فلا إسرائيل استطاعت الانتصار على المقاومة، ولا نجحت في استعادة المحتجزين، ولا تمكنت من تصفية نفوذ حماس في غزة، بل إنها تساعدها عمليا لتصبح قيادة المقاومة في نابلس وجنين وطولكرم وغيرها من مدن الضفة الغربية، التي يحاول الجيش الإسرائيلي انتهاك كرامتها كل يوم تقريبا. وإذا كان للمقاومة الفلسطينية هدف نهائي فإنه إنهاء الاحتلال وتمهيد الطريق لعملية سياسية مضمونة دولية وفق جدول زمني محدد لإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة قابلة للحياة والنمو.

ماذا فعلت المقاومة بالعدو؟

كسبت فلسطين اعترافا بها كدولة من عدد أكبر في دول العالم، في حين خسرت إسرائيل بوقوف دول ضدها في المحافل الدولية مثل جنوب أفريقيا، وسحب دول أخرى لسفرائها مثل البرازيل. كما قررت دول كانت تعتبر حليفة لإسرائيل فرض عقوبات عليها، منها وقف صادرات الأسلحة مثل كندا وهولندا. النطاق الثاني أو المجال الثاني لقياس مدى فاعلية المقاومة يتعلق بالخسائر التي ألحقتها بالعدو. وفي حالة المقاومة الفلسطينية أو غيرها فإن الخسائر التي تلحقها المقاومة بعدوها لا تنصب على إيقاع الضرر المطلق به، لكنها تتعلق بإلحاق الضرر به فيما يعزز انتصار هويتها وتحقيق أهدافها ومصالح الشعب الذي تعبر عنه، سواء كان ذلك في المجال الدبلوماسي أو الاقتصادي أو العسكري أو القانوني أو في المجال السياسي بشكل عام. ونستطيع القول إن الخسارة الاستراتيجية الرئيسية التي ألحقتها المقاومة الفلسطينية بدولة الاحتلال الصهيوني هي «إسقاط استراتيجية الردع» التي كانت تتيح لإسرائيل حرية الحركة المطلقة ضد الفلسطينيين وضد الشعوب الأخرى في المنطقة من دون الأخذ في الاعتبار أي حسابات غير تحقيق المصلحة الإسرائيلية كما تراها حكومتها، وكانت في المقابل تفرض قيودا ثقيلة على أي رد فعل محتمل على العدوان الإسرائيلي من جانب المعتدى عليه. سقطت استراتيجية الردع في الضربة الأولى للمقاومة. تم توالت بعد ذلك الخسائر الاستراتيجية التي ألحقتها المقاومة بدولة الاحتلال، حتى وصل الأمر لتحويلها إلى دولة منبوذة على النطاق العالمي، بعد أن كان العالم ينظر إليها على أنها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»! ومع بداية الشهر التاسع من المقاومة تبدو صورة إسرائيل في العالم على حقيقتها؛ دولة استعمارية استيطانية عنصرية، تمثل سياستها خطرا شديدا على العالم وعلى النظام الدولي، جراء ما ترتكبه من مجازر في حرب الإبادة، وما تظهره من استهتار بالقانون الدولي، ومن القدرة على الإفلات من العقاب، متمتعة بحصانة شريرة يوفرها لها الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن الدولي.
ومع أن الرأي العام الإسرائيلي يتجه في الوقت الحاضر إلى محاولة التكيف مع التغيرات الحادة في الرأي العام العالمي تجاه الحرب في غزة والسلوك السياسي للحكومة الإسرائيلية المتعارض مع القانون الدولي. فإن تزايد الضغوط من أجل استعادة الإسرائيليين المحتجزين أحياء، وتقديم أولوية تحقيق هذا الهدف على غيره من الأهداف، قد وضع الحكومة والمعارضة على السواء في اختبار للمصداقية، تواجه خلاله السياسة الإسرائيلية تحديات كبيرة، خصوصا رئيس الوزراء نتنياهو، الذي يلعب الدور الأكبر في تعطيل التوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين على الجانبين وإنهاء الحرب. افتتاحية صحيفة «جيروساليم بوست» الواسعة الانتشار بتاريخ 27 من الشهر الحالي صدرت بعنوان «حكومة إسرائيل فشلت، وعليها أن تعمل أكثر» وأوضحت أن الحكومة قد خيبت أمل المحتجزين وأحلام أسرهم، وأنها تتحمل المسؤولية عن ذلك. وأكدت أن المطالب السياسية للمجتمع بشكل عام الآن هي أن تتقدم الحكومة بشجاعة لعقد صفقة مع حماس لتبادل الأسرى والمحتجزين، وضمان عودة المحتجزين أحياء، وأن تتم الدعوة إلى انتخابات عامة عاجلة في أقرب وقت ممكن. تظاهرات السبت 25 ايار/مايو في كل أنحاء إسرائيل تقريبا تقول بوضوح أن الحكومة فشلت في أداء مهمتها تجاه المحتجزين وأسرهم، كما أن القوات الإسرائيلية فشلت هي الأخرى. وقالت الصحيفة في ختام افتتاحيتها أن ما يفعله الإسرائيليون حتى الآن هو مشاهدة تسجيلات الفيديو لعمليات الاحتجاز التي تمت حول غزة، ومشاهدة العشرات من جثث القتلى تعود إلى إسرائيل من ميادين الحرب في غزة كل يوم، ومحاولة الحكومة امتصاص غضب أهالي وأسر المحتجزين.
ولن يستقيم موقف الرأي العام الإسرائيلي إلا عندما يدرك ضرورة زوال الاحتلال، أساس الشر والبلاء لليهود والفلسطينيين على السواء، والتخلص من فلسفة الشر والعدوان الصهيوني. وتظهر موجة الاحتجاجات السياسية الأخيرة في إسرائيل رغبة قوية في التخلص من حكومة نتنياهو والتحقيق في مسؤولية الحكومة والجيش عما حدث منذ 7 أكتوبر حتى الآن. لكن يبقى عامل القصور السياسي الرئيسي حاضرا في المشهد الداخلي الإسرائيلي متمثلا في غياب واضح لإدراك أهمية ثقافة التعايش المشترك بين مكونات المجتمع في «إسرائيل» أو في «فلسطين المحتلة». وسواء تطلع البعض منا إلى حل الدولتين، أو تطلع البعض الآخر إلى حل الدولة الديمقراطية الواحدة، فإن أيا منهما يجب أن يقوم على أساس حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وحريته في اختيار طريقة التعايش في سلام وتعاون مع غيره من شعوب المنطقة، وفقا لمبادئ المساواة والاحترام المتبادل وتسوية المشاكل والخلافات بالطرق السلمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب