آمال جنبلاط والإقامة في العتمة
إبراهيم مشارة
قليل جدا من يسمع باسم الشاعرة اللبنانية الفرانكفونية آمال جنبلاط (1949/1982) وأقل منهم من يذكرها مع أنها سليلة عائلة درزية بورجوازية ومثقفة، ذات جذور عريقة في الغنى والرفاه والثقافة، وهي ابنة عم الزعيم السياسي الراحل كمال جنبلاط، وزوجة الشاعر المتمرد والإشكالي سعيد عقل لخمسين يوما فقط. نشرت آمال ديوانين شعريين بالفرنسية «الغياب – الشعر المضاد» و«أغنية ليلية» الذي أشاد بشاعريته ولغته الخاصة الحزينة أنسي الحاج، على الرغم من المسحة الكابية والنبرة التشاؤمية المقيمة في هذا الديوان، فهو متخم بألفاظ الحزن والشكوى على شاكلة: موت، فقد، رحيل، وحشة، كآبة، عتمة، ظلال العدم، الهاوية، الضياع…
أفقك يلبس الحداد
منذ زمن طويل
وظلك على العتبة
لم يعد ينتظر وقع الأقدام
ما همك إذا اضطررت وحدك
أن تسمع النعي الحزين؟
وحيدا عش، وحيدا ستموت
ولن يحضر احتضارك أحد
أحبت آمال وطنها الصغير جغرافيا، الكبير تاريخيا، لبنان الذي أهدى العالم الأبجدية وأعطى لأوروبا اسمها، وحملت علل لبنان فأورثتها الوحدة والإقامة في العتمة دون أن تكف عن الحلم، إنها تحلم بلبنان المتعافي من طائفيته، غير أن حلمها تحطم على صخرة الواقع، كما كتب مايكوفسكي في رسالة انتحاره الشهيرة، المسحة الرومنطيقية بتأثر من الشاعر نوفاليس والرمزية البودليرية تعاضدا كاللحمة والسدى على تشكيل المعجم الشعري لها، دون أن تنساق مع تيار الحداثة الشعرية، إلى تبني كل رؤاهم وطروحاتهم، ديوان شعري يبشر بشاعرة مقتدرة كما توسّم أنسي الحاج في مقالة خاصة بمناسبة صدوره .
وكأن قدر هذه الشاعرة أن تبقى في العتمة طيلة حياتها القصيرة وبعد رحيلها الفاجع، ففي حياتها عاشت وقد غطت شهرة سعيد عقل سمعتها الأدبية وصوتها الإبداعي الأنثوي الخاص فقد تزوجته في 2 أبريل/نيسان 1982 وهي بالكاد في الثلاثين بينما كان هو يدلف نحو السبعين، زواج الحب والوحدة الوطنية، كما كتبت الصحف يومها فهو المسيحي وهي الدرزية، وكان سعيد عقل قد فسخ خطوبته الأولى على سعاد أبي صالح عام 1952 وعاش بعدها أعزب، لكنه ملء السمع والبصر، وقد بدأ قوميا عروبيا قريبا من الشيوعيين ومن الحزب السوري الاجتماعي القومي، لينقلب على عقبيه ويخاصم العروبة والإسلام، ويدعو إلى فك الرابطة مع العروبة بمعية الكاتبة والأكاديمية مي المر، فلبنان ينتمي إلى الحضارة الفينيقية، ودعا إلى استبدال اللغة الفصيحة باللهجة المحكية اللبنانية ووضع لها أبجدية مستغنيا عن الحرف العربي معتمدا على الأبجدية اللاتينية، وبهذه اللهجة والحروف اللاتينية أصدر ديوانه الشعري «يارا» ولم يكتف بهذا التطرف والصخب، بل كان المنظّر لحزب «حراس الأرز» المتعاون مع إسرائيل، وأيد صراحة غزو إسرائيل لجنوب لبنان وحصار بيروت من أجل طرد المقاومة الفلسطينية المسلحة، غير مبال بمشاعر الفلسطينيين ولا عروبة لبنان وانصهاره مع القضايا العربية والهم القومي .
سعيد عقل الذي حلم برئاسة لبنان وغنت من قبل فيروز من قصائده وصاحب أعمال مثل «قدموس» «لبنان إن حكى» «بنت يفتاح» رأى ربما في الزواج من آمال جنبلاط فرصة لتدعيم شعبيته وكسب الدروز في سباقه نحو رئاسة لبنان، لكنه خاب وانتهى زواجه من آمال بانتحارها يوم 23 أيار /مايو 1982 بطلقات نارية من مسدسها فقد كان زواجها، كما قال الشاعر شوقي بزيغ (مركبا زوجيا أغرقته حمولته الزائدة).
فشل زواج آمال من سعيد عقل ليستدعي مقاربات نفسية لعلها تفضي إلى استكناه سر سعيد عقل، فقد كان مبجلا للأنوثة، مقدسا للمرأة كما تمثلها في خاطره، وفي وجه أمه وفي مريم العذراء، فهما المرأتان اللتان أعلن حبه الكبير لهما، دون مواربة، فصورة المرأة عنده هي صورة أثيرية طيفية نورانية تشع بهاء وقداسة وسماوية، إنها الملهمة تلهم عن بعد وتوحي من وراء ستار التعالي والشموخ والطهرانية، ليس لها وجود على سرير الزوجية بالجسد، إنما الحضور في الغياب والتلاحم عن بعد، هي روح بلا جسد وصورة أثيرية بلا فضاء، ومعنى بلا لفظ، لعل ما يطابقها صورة المرأة في خيال المبدع في أسطورة بجماليون الشهيرة، ولعل هذا ما جعله يفسخ خطوبته الأولى عام 1952، ويعزي البعض هذا الموقف لدواع فسيولوجية ..
في السبعين أراد سعيد عقل أن يثبت للمتشككين والشانئين أو الحيارى من موقفه من المرأة ومن سر عزوبيته، فأعلن زواجه من آمال جنبلاط وراهنت هي على حل مشكلة لبنان بالتعالي على الطائفية، مثلما رددت «خذ درزية وأنا آخذ مارونيا» كحل لطائفية لبنان وصهره في بوتقة الوطنية المتعددة الأطياف في إطار الوحدة الوطنية مع تساوي الجميع أمام القانون دون أن تتميز طائفة عن طائفة أخرى، بالسلطة أو المال أو النفوذ والزعامات. لبنان كما تصوره جبران خليل جبران في مهجره البعيد، وكما حلمت به مي زيادة في إقامتها في مصر، حتى إن انتهت نهاية مأساوية بظلم أقاربها لها، الذين أودعوها مستشفى المجاذيب للاستيلاء على ثروتها.
ظلم الزواج آمال كثيرا فعاشت في العتمة ويروي الشاعر عبده وازن، الذي استمع إلى شريط مسجل عن إحدى المكالمات الهاتفية بين الزوج سعيد والزوجة آمال، حيث كانت منفعلة وتصرخ وتحتج على محافظة سعيد وانغلاقه، إلى الحد الذي لا يسمح لها بتدخين سيجارة أو تناول كأس من النبيذ، وليس هذا من قبيل إفشاء أسرار زوجية، بل محاولة لفهم مأساة الشاعرة ومزاج سعيد عقل المتقلب، وانعكاس ذلك على تجربتهما الشعرية، هذه النهاية الفاجعة لاقتها كذلك الروائية منى جبور (1942/1964) صاحبة رواية «فتاة تافهة». ومن الرجال المبدعين خليل حاوي (1919/1982) أنطون مشحور (1936/1975) ورالف رزق الله (1950/1995) الذي تقصى أسباب رحيله الفاجع كذلك ربيع جابر في روايته الشهيرة «رالف رزق الله في المرآة» وإن كان رجلا إلا أنه لا يختلف في كنه المأساة عن آمال بالاهتزاز النفسي والاغتراب، ووضع البلد وانسداد الآفاق والخلود إلى الظلال والوحدة والكآبة، مع أنه كان متزوجا وأبا لطفلين، لكنه فضل أن يلقي بنفسه على صخور بيروت متهشما مضمخا بدمائه جاعلا من انتحاره رسالة بعمق المأساة وانعدام المعنى ولا جدوى البقاء.
لم ترد آمال دور التابع أو الحجر النيزكي، الذي يدور في فلك كوكب آخر، حتى لو كان شاعرا بحجم سعيد عقل وهي تمتلك الخصوصيات الشعرية كرهافة الحس واللغة الشاعرية والبحث عن المعنى والجوهري، تجنب الأضواء والطابع الاحتفالي الكرنفالي والمنبري، وجدير بالذكر أن سعيد عقل عاش معها في قصر تمتلكه هي، وعرف معها الرفاه والأرستقراطية، ولا شك أنها عرفت سعيد كما لم يعرفه الناس، وتاخمت جزيرته النفسية بقارب المعاشرة والخلطة، وفيها يتبدى ما يتبدى، ناهيك عن مشاكل لبنان التي استعصت على الحل فقد دخل في حرب أهلية منذ عام 1975 لولا تدخل وليد جنبلاط في اتصال مع الكتائب المسيطرة على المكان، ليمكن نقلها إلى مسقط رأسها لمواراتها الثرى.
نفس مرهفة وخيال جامح وميل إلى الانطواء والتأمل واتكاء على عقيدة الوطنية الجامعة في نبذها للتعصب والكراهية والطائفية وحلمها بالسلام والوطن الذي يسع الجميع، والزوج الذي يبادلها الندية، وتتناغم ذكورته مع أنوثتها وليس الزوج الذي يسعى إلى الاستتباع والإلحاق، وفي رسالة من مي زيادة إلى ملك حفني ناصف تلح على هذه المركزية في تفكير الرجل الشرقي، حتى إن كان مثقفا. وحتى في موتها الفاجع طغت شهرة سعيد عقل على اسمها، فلم تذكر إلا لماما أيام الحادثة ثم غيبها النسيان أو التناسي المتعمد، وحتى الشاعرة اللبنانية جمانة حداد في أنطولوجيا الشعراء المنتحرين في القرن العشرين أحصت مئة وخمسين شاعرا من دول العالم ومن العالم العربي، دون أن تتطرق إلى بنت وطنها، فهل هو الإهمال المقصود؟ ولا يمكن تبرير ذلك بعدم معرفة مسبقة بالشاعرة، فليس من المعقول أن يعرف سعيد عقل وتتناسى آمال جنبلاط ، ظلم آخر ينضاف إلى المظالم الكثيرة التي تعرضت لها الشاعرة صاحبة العيش في الظلال وفي العتمات.
في ديوانيها الشعريين يعرض الموت كثيمة رئيسية وهاجس وفكرة مركزية ويوشح الديوانين بوشاح السواد والكآبة عبر لغة شعرية تستمد ألفاظها من حقل الموت الدلالي، كما أن التصالح مع الواقع في هشاشته وضحالته وزيفه من غير المجدي مع شاعرة باحثة عن الجوهري ملحّة على نبش بطون اللفظ واكتناه المعنى والجوهري ومن قديم قال المتنبي:
ذل من يغبط الذليـــل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
أطلقت رصاصة على قلبها تحديدا محملة إياه مسؤوليته عن هزيمتها فهو الذي هزمها على الشاطئ، قبل أن يبحر مركب الحب والحياة إلى المدى غير المنظور، وطالما تحاشى سعيد عقل الحديث عنها مفضلا الحديث عن لبنان وهو ظلم آخر من لدنه فقد قتلها قبل أن يغتالها الرصاص:
ماذا أقول عندما
ضباب عيني
سيحجب النور؟
ماذا أقول عندما الموت
يثقل خطاي؟
ماذا أقول عندنا يهبط المساء؟
لقد غنيت الحقول والجداول
وها أخرج من الحياة لا ذليلة ولا فخورة
لكن فقط أخفض رأسي
وأرجع من حيث أتيت
بعد انتحارها عام 1982 وبعد أيام قليلة في حزيران /يونيو احتلت إسرائيل جنوب لبنان وحاصرت بيروت، حيث كان شاعر آخر يستعد للعبور إلى الضفة الأخرى مغتالا نفسه بطلقة من بندقيته ليتخبط في دمائه، ذاك هو خليل حاوي رافضا تعهّر اللغة كما قال، وأن يشهد نهاية الأحلام والأمجاد القومية. وفي عام 1995 هوى أكاديمي وفنان آخر هو رالف رزق الله شادخا رأسه وحلمه وهواجسه على صخور شاطئ بيروت، لينضاف إلى قائمة الشعراء والكتاب من لبنان الذين روعهم الواقع فرفضوا أن يتصالحوا معه وخانهم الحب فلم يحمل أوجاعهم، ولم يبدلها أفراحا، ولم يمسح على قلوبهم بل زاد الطين بلة والقلب حملا، واقع لبنان من واقع المجتمعات العربية، التي كثيرا ما تأذت منه قلوب الشعراء وعقول المفكرين وأرواح الفنانين، فلم يتصالحوا مع هذا الواقع الرازح تحت ضغط التاريخ، وآصار السياسة والقيود المجتمعية والآصار الوجودية وأغلال العرف والتقاليد،
وكان الشاعر شوقي بزيغ في رثائه للأكاديمي رالف رزق الله كأنه قد رثى جميع شعراء وفناني لبنان وكتابه المنتحرين خليل حاوي، أنطون مشحور، منى جبور، رالف رزق الله، آمال جنبلاط:
آن لي أن أعد لهذا الهباء ضياعي
آن لي أن أحالف مجرى الرياح
المقيمة في ثقب رأسي
وأرهقها باتساعي
آن لي،
بعد هذي السنين التي انصرفت
أن أزين صدري بأحلك ما في دمي من سواد
آن لي أن أنظف عيني من شهوة الانتصار
وأن أشتهي سقطة يتباهى بها ظلامي
وأشيد من حجر الخوف أبهى قلاعي
كاتب جزائري