فلسطينثقافة وفنون

يوميات الخيمة بقلم الدكتور تيسير عبداللة -غزة

بقلم الدكتور عبدالله تيسير -غزة

يوميات الخيمة
بقلم الدكتور   تيسير  عبداللة -غزة
يوميات الخيمة (1)
الذين يسكنون الخيام. أصبحوا يشعرون بآلام غريبة تتسرب إليهم. بعضها نفسي. والآخر جسدي. أو هما معا.
من هذه الشكاوى غير الوحيدة. آلام متناوبة تصيبهم في الكلى. الشكوى التي تكاد أن تكون مشتركة بينهم جميعا. بعضهم فسرها بأنها بسبب المياه الملوثة التي يشربونها يوميا. ويحصلون عليها بالكاد وبالطوابير وبشق الأنفس. أحيانا تأتي بطعم السولار أو الزيت. ولو عرضتها في ضوء الشمس سترى أجساما بيضاء أو سوداء تسبح فيها. أو لونها يميل إلى الصفرة. لكن لا يوجد غيرها. والجميع مضطر لشربها. وإلا فسيموت من العطش.
عم إبراهيم الذي فقد عائلته في الشمال ونزح للمرة الخامسة إلى مواصي خان يونس. قال لي أن سبب آلام كليته البرد الذي يتعرض له في ساعات الفجر في خيمته التي لا تبعد عن شاطئ البحر سوى ثلاثين مترا. البرد يكون في الفجر شديدا. والخيمة لا تستطيع منعه. كما أنها لا تستطيع منع حر الشمس الذي يحول الخيمة إلى فرن من بعد الساعة الثامنة صباحا خاصة في ساعات الظهيرة. “أجسادنا ما عادت تقوى على تحمل كل هذه التقلبات يا بني. تقلبات الحرارة والطقس. وتقلبات السياسة والزمن. وتقلبات الحرب والجوع والعوز” قال لي.
أحمد الذي كان يتمدد على شقه الأيمن. ويتحسس كليته بيده اليسرى بجانب خيمته ولا يشارك عائلته تناول طعام الغذاء. (ثلاث علب بازيلاء من مساعدات الأونروا رديئة الطعم. تم تسخينها على الحطب. وسكبها في صحن واحد). أكد لي أن سبب آلام كليته ليس البرد. ولكنها المواد الحافظة في معلبات الفاصوليا والبازيلاء وغيرها من المعلبات السيئة. شرح لي بطريقة شبه طبية. كيف تحول المواد الحافظة بعد أكثر من سبعة أشهر من تناولها الجسد إلى وعاء حديدي قابل للصدأ والذوبان. قال لي وهو يتألم. بدأت أجسادنا تذوب وتصدأ من الداخل في هذه الحرب. المواد الحافظة لا تدمر كلانا فقط. ولكنها تدمر قلوبنا وأكبادنا وأوردتنا وجميع أجهزتنا. الكلية مجرد رأس الجليد. لكن مع مرور الوقت. وبعد انتهاء الحرب. سينهار الناس جميعا في غزة. لن تستوعبهم المستشفيات. الناس تتحامل على نفسها وتؤجل سقوطها ووجعها ومرضها. ومن لم يقتل بالقصف. سيموت ببطء بالتلوث والمواد الحافظة. والآلام النفسية. هذه الحرب قضت على جميع من يعيشون في غزة. إما بالقتل السريع. أو القتل البطيء. تركت أحمد وأنا أتخيل الناس المزدحمة من حولي وفي الخيام أوعية حديدية ينهشها من داخلها الصدأ والاهمال والانتظار والتجاهل والمواد الحافظة. تنتظر لحظة تآكلها النهائي وسقوطها التدريجي الذي لن يكون مفاجئا.
يوميات الخيمة (2).
دير البلح أصبحت تمثل عاصمة النازحين. والسيارات التي تنقل إليها من مواصي خان يونس على قلتها. هي السيارات التي استطاعت أن تصمد رغم القصف الجزئي الذي أصابها. وتحطم زجاجها. وهي التي لا تزال تستطيع أن تسير على زيت الطهي. بعد أن انعدم السولار والبنزين من السوق. ووصل إلى أسعار فلكية.
ركبت عائدا من دير البلح في شاحنة من النوع المغلق الذي كان يستخدم لنقل البضائع في صندوق حديدي كبير. له باب صغير على جانبه الأيمن. الأكثر منا يقف داخله. ومن لا تستطيع قدماه حمله جلس على الأرض مضطرا. كانت درجة الحرارة في الخارج ساعة الظهيرة. تزيد على الثلاثين. أما داخل الشاحنة فقد وصلت إلى أكثر من الأربعين. كنا نسبح في العرق في الازدحام الشديد. ورجل كبير في السن طريح الأرض. يصرخ كل وقت قصير: الهوا يا شباب. ابعدوا عن الباب. انخنقنا. الهوا. الواحد حاسس حاله يموت. هذه سيارة أم قبر؟.
حتى الهواء الذي كان يدخل السيارة من الثقوب الكبيرة في أرضيتها. كان عبارة عن دخان الزيت المحترق الحار الذي يزيد المكان سخونة. ويدفع للتقيؤ.
تذكرت رواية رجال في الشمس لكنفاني. التي قرأتها عدة مرات. لكن لأول مرة أشعر شعورا حقيقيا بمعاناة من كانوا داخل الخزان حين تصعد أرواحهم إلى حناجرهم قريب من الموت الحقيقي. الخزان لم يتغير عن جهنميته قبل 57 سنة الذي يؤدي إلى اعدام من بداخله. إن لم يصرخوا ويطلبوا النجاة والنجدة. شيء واحد تغير. أن الشاحنة تسير الآن بنا داخل الوطن. بعد أن كانت تسير خارجه باتجاه الكويت.
فجأة صرخ شاب داخل الشاحنة. والعرق يتصبب من جسده: محدش فيكم سمع أخبار اليوم. عن هدنة بايدن عن هدنة أي زفت أو ابن حرام ينقذنا. فش حل لنا. إلى متى سنبقى في هذا الموت. والله تعبنا يا الله. تعبنا يا رب ولم نعد قادرين على التحمل. خذنا عندك يا رب أرحم من هذه الحياة. بكفي. 8 شهور ونحن في النزوح والقهر. ثم أخذ يجهش في البكاء بصوت مرتفع..
كان الجميع صامت. ينظر إليه بأسى. سأله أحدنا: من وين أنت يخوي؟.
رد عليه الشاب بصوت متهدج: من الشاطئ.
– مسحوه الشاطئ. هو في مكان يمكن ترجع فيه. يمكن حالنا نحن هنا في خيام المواصي أفضل ممن في الشاطئ.
– بقولوا رجعت المجاعة هناك مرة أخرى. والناس صارت تموت من الجوع.
– بدي أرجع على دارنا. بدي أحط خيمة فوق بيتنا المدمر هناك. بكفي ذل وهوان. لو متنا في بيتنا. وقصفتنا الطائرات. ولم ننزح إلى الجنوب أول مرة. لكان أشرف لنا. كل لحظة نموت فيها هنا: ذل. هوان. مرض. جوع. فقر. إلى متى سنبقى في هذا الحال. حسبنا الله فيمن كان السبب. انقتل اخواني وأخواتي وجيراني. ودمرت بيوتنا. وتشردنا. خسرنا كل شيء.
عاد يبكي. وعاد الجميع ينظر إليه بصمت. كأنهم يحسدونه على قدرته على البكاء والبوح. بينما هم عاجزون. جفت الدموع في عيونهم وتجمدت. رغم أن آلامهم المكبوتة تتزلزل مثله في قلوبهم.
لا ندري كيف مر بنا الوقت سريعا رغم حرائقه وقسوته ودخانه الأسود الذي لا يطاق داخل الشاحنة. وإلى أي أفكار وهلاوس مجنونة. وأماكن سحبتنا إليها دموع هذا الشاب المتألم الباكي. حتى أيقظنا من ذهولنا. صوت الكمساري الصغير ذو الوجه الشاحب ينادي:
المينا. وصلنا المينا يا شباب. مين نازل على المينا.

يوميات الخيمة (3)
– أمي.. أريد أن أراكم. اشتقت إليكم. أكثر من عشرين يوما منذ نزوحنا من رفح لم آراك. كل يوم أتصل عليكم ولكن لا توجد شبكة أو يكون جوالك مغلقا. أولادي مشتاقون لكم. ويسألون كل يوم عنكم. أين مكان خيمتكم؟.
– وأنا أيضا يا بنيتي مشتاقة إليك وللأولاد. لكن والله يا بنتي لا أعرف أين نحن بالضبط. أبوك يقول أننا في مواصي خان يونس.
– ونحن أيضا في مواصي خان يونس. إذن نحن قريبون من بعضنا. أين عنوانكم بالضبط.؟.
– والله يا بنتي منذ هربنا ليلا. وجئنا إلى هنا. لا أرى إلا الخيام حولنا من كل جهة. حتى أنني لا أعرف الاتجاهات. أسمع هدير البحر. نحن قريبون منه. وأسمع أيضا أزيز الطائرات. وصوت القصف وهو أيضا قريب منا خاصة حين يشتد في الليل…..لحظة أسأل أبوك عن مكاننا…… يقول أننا بعد خيمة أبو عدنان الذي يشحن الجوالات بأربع خيام من الناحية الشمالية.
– أين خيمة أبو عدنان. أنا لا أعرفها؟.
– واضحة خيمته يا بنتي كما يقول أبوك. هي خيمة أكبر من خيمتنا. وفي وسط خيام كثيرة. عليها شادر أسود. ولوح طاقة شمسية مكسور.
– أين هذه الخيام الكثيرة. اسم الشارع؟
– في نفس شارع البحر. في المواصي. لحظة خذي أبوك يمكن يقدر يعطيك عنواننا أفضل مني.
– ……كيف حالك يا أبي؟ حمد لله على سلامتكم؟ أين عنوان خيمتكم؟.
– نحن قريبون من شاطئ البحر يا بنتي. خلف خيمة عبود للحلاقة.
– وأين خيمة عبود؟
على الأسفلت الرئيسي مباشرة. في سطر الخيام الشرقي. بجانب خيمة عبود. خيمة لبيع المعلبات والخشب. وخيمة أخرى لونها كحلي تبيع الماء عليها يافطة جلدية مكتوب عليها (بيت حانون).
وهذه في أي منطقة؟ ما دخل بيت حانون في خيمتكم؟
– لا يا بنتي. نحن كلنا في مواصي خان يونس. ولكن صاحب الخيمة حانوني. اشتاق للعودة إلى مدينته بيت حانون. فكتب اسمها على خيمته على أمل أن يعود إليها.
– كيف أركب إليكم؟ هل لو أعطيت السواق عنوان خيمة عبود أو أبو عدنان. هل يمكن أن يعرفاه؟
– لا أعلم يا بنيتي. أنت تعرفين أننا جميعا هنا نازحون جدد. بلا عناوين ولا أرقام شوارع ولا يافطات ولا أسماء لحاراتنا وبيوتنا. وغير معروفين. تركنا خلفنا هوياتنا وملامحنا المألوفة لمن يعرفنا. نحن هنا متشابهون في خيامنا وضياعنا فقط. متشابهون في احتياجاتنا وعطشنا وآلامنا وأمانينا وتيهنا.
– سأمشي غدا على أقدامي في الشارع الطويل لأبحث عن خيمتكم بنفسي. خيمة خيمة؟.
– لا يا بنيتي. هل ستبحثين عنا وسط مليون نازح متلاصقين في الخيام. أنت ستبحثين عن إبرة في كوم من القش. أنا مشتاق لأراك. لكن أشفق عليك من التعب وحر الشمس والمزيد من الضياع. لعله بعد يوم أو يومين. قد يصبح لدينا عنوان جديد لخيمتنا يمكن أن يسهل عليك الوصول إلينا. قالوا أنهم سيقيمون بجانب خيمتنا حمامات مياه من الزينكو. قد تصبح عنواننا. أو ربما نعود قريبا إلى بيوتنا وعناويننا القديمة رغم تدميرها. نحن تائهون الآن ولا نعرف ماذا سيحدث معنا ولو بعد ساعة واحدة.
انتظري..أعطيني أنت عنوانكم. وسأحاول الوصول إليكم غدا. سأخرج في الصباح. أنا أقدر على تحمل حرارة الشمس والضياع منك..
آلو..آلو. .آلووو…هل تسمعيني…… انقطع الخط.

(ملاحظة:
كنت أعتقد أن هذه المكالمة الحقيقية هامشية وثانوية في زحمة آلام الخيام ومشكلاتها التي يعاني منها النازحون. لولا أنني رأيت. في قصة أخرى. الفرحة عصر اليوم على باب خيمة قريبة منا. قالوا لي أنها فرحة عثور ابنتهم عليهم بعد يومين من البحث عن خيمتهم في غابة الخيام الممتدة على طول شريط ساحلي ضيق بمسافة 22 كيلو متر. يضم أكثر من مليون ونصف المليون نازح. فأدركت أن هذه القصص الإنسانية التي تبدو صغيرة. ولا تسجلها وسائل الإعلام. هي إحدى المآسي الجديدة في سجن الخيام الكبير: مأساة التيه والضياع وفقد العناوين. وصعوبة المواصلات والاتصالات التي تمنع مئات الآلاف من رؤية ذويهم أو زيارتهم والاطمئنان عليهم رغم قصر المسافة بينهم).

يوميات الخيمة (4)
عملية النصيرات التي أعدم فيها الاحتلال اليوم 210 بريئا. فاجأهم القصف. ولم يكن لهم ذنب إلا محاولة الاحتلال التمويه بهم. وتوفير ظروف أمنية مناسبة لاستعادة مختطفيه.سبقتها عملية رفح قبل ثلاثة أشهر تقريبا. التي استعاد الاحتلال فيها مستوطنين اثنين. في عملية مشابهة لعملية النصيرات. قتل الاحتلال فيها أكثر من 60 بريئا أيضا في عمليات القصف للتمويه.والعمليتان تؤكدان للمرة الألف. أن دماءنا هي الأرخص في كل المعادلات منذ ثمانية أشهر. وهي التي لا يتوقف نزيفها وسحقها في كل دقيقة. وهي التي لا قيمة لها في حسابات المفاوضين. منذ أن تم تسليم أكثر من مليوني غزي أعزل لآلة الاحتلال لإبادتهم وتشريدهم دون توفير أدنى حماية لهم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب