مقالات

زلازل سياسية وارتداداتها تضرب إسرائيل–عماد شقور

عماد شقور

زلازل سياسية وارتداداتها تضرب إسرائيل

عماد شقور

كاتب فلسطيني

لم تشهد إسرائيل منذ إعلان إقامتها (1948) أحداثاً ذات تأثيرات بالغة الأهمية، بل وحاسمة، ليس على حاضرها ومستقبل التطورات فيها فقط، وإنما على مجرد وجودها ككيان سياسي موحّد، مثل الأحداث التي تعصف بها، دون توقّف، منذ إعلان نتائج الانتخابات العامة فيها يوم الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وبشكل متواصل ومتصاعد، منذ تشكيل حكومتها الحالية، ذات الصبغة العنصرية الفاشية الفاقعة.
إسرائيل، كما نعرفها، غير إسرائيل التي تتشكّل، (والأصحّ: تتشرذم) هذه الأيام. ولن تعود إسرائيل الى ما كانت عليه قبل تفجّر المظاهرات المتواصلة على مدى الإثني عشر اسبوعاً الماضية. وما يشهده الشارع اليهودي في إسرائيل، ليس مجرّد انشطار عمودي فقط: انه انشطارات عموديّة وأُفقيّة متداخلة، في مجتمع متعدّد الأعراق والطوائف والقناعات والمرجعيّات الدّينيّة وغير الدّينيّة.
وصل التشظّي في المجتمع الإسرائيلي إلى «قدس الأقداس» إلى الجيش الإسرائيلي الذي كان يعتبره بن غوريون «مرجل الصّهر» الذي تنصهر فيه موجات المهاجرين اليهود التي تدفّقت من كافة بقاع الأرض، لتنتج مجتمعاً يهوديّاً موحَّداً ومتماسكاً، وكان الإسمنت الذي يجمع ويوحّد هذا الخليط اليهودي هو «الخطر الخارجي» على إسرائيل والإسرائيليين، الذي تشكّله الدول العربية.
هنا يأتي دور حرب 1967، حيث شكّل الانتصار الإسرائيلي المذهل فيها، سبباً مباشراً لإصابة المجتمع اليهودي في إسرائيل بحالة من النشوة، حالة تُشعر المُصاب بها بفرحة عارمة، تختلط فيها الأفكار والتخيّلات الغيبية مع الحقائق الموضوعية، ولكنها سرعان ما تصطدم بالواقع، وتعود، مرغمةً، إلى رشدها. لكن ذلك الاصطدام بالواقع تأخّر.
بعد حرب «الأيام الستّة» بستّ سنوات، جاء «اليوم السابع» في أكتوبر/تشرين الأول 1973، وكاد المجتمع الإسرائيلي أن يصحو من سَكرته. لكن إخراج الرئيس المصري الراحل، أنور السّادات، لمصر من معادلة الحرب مع إسرائيل، بفعل «اتفاقية كامب ديفيد» أعاد الشارع الإسرائيلي إلى مرحلة النشوة والسّكْر.
في ظل ذلك الجو، نمت في المجتمع الإسرائيلي تيارات تندفع بتسارع نحو التطرّف، وانتقل اليسار المعتدل الليبرالي، (بالمقاييس الإسرائيلية) إلى «الوسط» واليمين، وانتقل اليمين المعتدل إلى خانات التطرّف والعنصرية. وعندما انتفض ما تبقى من «معتدلين» وورث اسحق رابين رئاسة الحكومة من اليميني العنصري اسحق شامير، ودفع باتجاه التعقّل والاعتدال، ووقع «اتفاقية أوسلو» اتهمه اليمين الإسرائيلي بالخيانة، الأمر الذي انتهى باغتياله، وعودة اليمين إلى تشكيل الحكومات الإسرائيلية، وانزلاق ذلك اليمين العنصري إلى مواقع أكثر عنصريّة وفاشيّة.

في ظل ذلك الجو، نمت في المجتمع الإسرائيلي تيارات تندفع بتسارع نحو التطرّف، وانتقل اليسار المعتدل الليبرالي، (بالمقاييس الإسرائيلية) إلى «الوسط» واليمين

على مدى سنوات عديدة من ترؤّس بنيامين نتنياهو لحكومات إسرائيل، (والحالية هي السادسة) عمل بشكل دؤوب على توحيد أكثر الإسرائيليين ودفعهم للانضمام والتماسك تحت قيادته، بتخويفهم من «إيران النوويّة» وعلى إقناعهم أنه هو القائد الوحيد القادر على إنقاذهم من هذا الخطر الوجودي. ونجح نتنياهو في مسعاه هذا الى حدٍّ كبير. وفي ظل هذا المسعى، أبعد نتنياهو كل من كان يمكن أن يكون وريثاً له على كرسي رئاسة الحكومة، وأصبح أشبه ما يكون من عملاق تحيط به مجموعات من الأقزام.
استهان نتنياهو بوليّة نعمة إسرائيل: أمريكا. استهتر بالرئيس الأسبق، باراك أوباما، ورتّب، مع الحزب الجمهوري، من وراء ظهر الرئيس الديمقراطي، دعوة لإلقاء خطابه الشهير في الكونغرس، وأهان نائبه، جو بايدن، أثناء زيارته لإسرائيل، بإعلان قرار استفزازي لتوسيع مبالغ فيه في المستوطنات في أراضي الدولة الفلسطينية. وتدخّل بفجاجة في الانتخابات الأمريكية، وساهم في ترجيح انتخاب الرئيس الجمهوري الجاهل، دونالد ترامب، ودفعه إلى مواقف مذهلة وغير منطقية، كان رأس تلك الواقف الظاهر هو إجبار دول عربية، لم تحارب إسرائيل أصلاً، على توقيع اتفاقيات «سلام أبراهام» المُضحكة، لو لم تكن مُحزنة.
بعد سلسلة من أربع معارك انتخابات عامّة متتالية في ثلاث سنوات فقط، نجح نتنياهو بالعودة إلى كرسي رئاسة الحكومة الإسرائيلية، لكن مع تحالف مع متعصّبين دينيّاً، وأسوأ من ذلك: مع مهووسين: بتسليئيل (معنى الإسم باللغة العربية: في ظِلّ الله) سموطرتش، وإيتمار بن غفير. إنهم «دواعش» يهوديّة بالتمام والكمال.
حكومة «عِجبة». فيها السّجين داخل الزنزانة هو صاحب القرار والحاكم على الشّرطي السّجّان!. وهذا الوزير العنصري الفاشي المهووس، نجح أمس الأول في إرغام نتنياهو على توقيع قرار تشكيل ميليشيا يهودية عنصرية فاشيّة توضع تحت إمرَته. فيها بتسليئيل سموطرتش وزيراً للمالية، كان أول تصريح له في منصبه هذا: «تطبيق قوانين التّوراة هي الضّمان الأكيد لاستمرار تطوّر الاقتصاد الإسرائيلي». وزير المالية الفاشي، في حكومة نتنياهو، «غرّد» بضرورة أن تقوم «الحكومة الإسرائيلية، وليس المستوطنين بمحو قرية حُوّارة الفلسطينيّة من الخارطة»!. وكانت النتيجة أن جو بايدن، رغم أنه الرئيس الكاثوليكي الثاني، في التاريخ الأمريكي، (بعد جون كنيدي) يتفاخر بمقولته المُقزّزة: «ليس ضرورياً أن تكون يهوديّاً لكي تكون صهيونيّاً، فأنا صهيوني». (أين أنت يا بابا الفاتيكان، فرنسيس، لتذكيره بالتناقض بين مقولة أن البشر جميعاً أبناء الله، ومقولة من يحتكرون الله تحت ذريعة «شعب الله المختار»)؟.
كان مساء أمس الأول مساءً حافلاً بدلالات كثيرة:
1ـ أعلن نتنياهو، فور عودته من زيارته الفاشلة إلى بريطانيا، قرار إقالة وزير الدّفاع في حكومته، يوآف غالنت، من منصبه.
2 ـ فور ذلك، وبشكل تلقائي، انطلقت عشرات (وربما مئات) الآلاف من الإسرائيليين المناهضين لحكومة نتنياهو، إلى الشوارع في إسرائيل، مندّدين بهذا القرار، الذي كان سببه مطالبة غالنت بالتريّث في مسيرة الإندفاع لإقرار قوانين تحطيم «جهاز القضاء» في إسرائيل.
3 ـ انطلاق مجموعات، (بضع مئات فقط) من أفراد زعران عصابة «لافاميليا» المناصرة لفريق كرة القدم «بيتار يروشالايم» العنصريين، لأول مرّة منذ تفجّر الأزمة الحاليّة في إسرائيل، ومارس هؤلاء عمليات بلطجة في شوارع تل أبيب.
4 ـ اضطر نتنياهو إلى التّراجع و«تعليق» (وليس «إلغاء») مواصلة تحطيم جهاز القضاء في إسرائيل.
5 ـ (وهذا هو الأهم): أعلن جو بايدن، امتعاضه من سياسة الحكومة الإسرائيلية وتصرّفاتها، و«أنه لن يدعُ بنيامين نتنياهو قريباً الى لقاء في البيت الأبيض». وهذا ما أشعل أضواءً حمراء في كافة مواقع القرار في إسرائيل، ودقّ أجراس الإنذار في كل مواقع السّلطة والسّيطرة فيها.
في هذه الأثناء، وخلال كتابة هذه الأسطر، بدأ نتنياهو في محاولة تقليص الخسائر: أمر جميع وزراء حكومته، وجميع أعضاء الكنيست من أحزاب الإئتلاف الحكومي، بالإمتناع عن التعليق على تصريحات الرئيس الأمريكي. وسارع إلى القول إن نظام الحكم في إسرائيل ديمقراطي، وسيظلّ كذلك.
ثبت في هذه الأيام، ما قاله موشي ديان، إثر زيارته لفيتنام الشمالية، أثناء زيارته لها في أوج اشتعال حرب تحريرها من الهيمنة الأمريكية: «من يتحالف مع قوة عظمى، لا يجوز له الاعتقاد أنه حرّ في اتخاذ قرار مستقل».
على أن أهم ما يجب التوقّف عنده بإمعان، في هذه المقاربة المختصرة، حدّ الاختزال، للتّطوّرات والأحداث في إسرائيل، أن ما يقود حركة الشارع المدني والعسكري والأمني في إسرائيل، ليست الأحزاب والتّكتلات السّياسيّة التي نعرفها: من مثل حزب «هناك مستقبل» بقيادة يائير لبيد، ولا حتى ذلك التجميع الغريب تحت قيادة بيني غانتس، تحت اسم «القائمة الرسمية».
هناك، على ما يبدو، وكما تشير الدلائل، مجموعات سياسية جديدة قيد التّشكّل، رشح من بين أسماء أعضائها أُستاذ التاريخ البارز، يوفال نُوَاح هَراري، ورئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق، دان حَلوتس، وغيرهم. وهذا ما يجعل المفاوضات بين أحزاب سلطة الإئتلاف الحاكم الحالي، وقيادات ومندوبي أحزاب المعارضة، التي انطلقت مساء أمس في مقر رئيس الدولة الإسرائيلية، بوجي هيرتسوغ، لا تملك، بالكامل، أوراق لعبة ما يمكن أن تتمخّض عنه هذه المفاوضات.
ماذا، بعد ذلك كله، عن فلسطين؟
الدّرس الأهم:
1ـ التفاوض مع من له «مُعلّم» و«مرجعيّة» خطأ. التفاوض مع إسرائيل: خطأ.. يجب التركيز على التفاوض (أو المواجهة والقتال) مع أمريكا.
2ـ ذات الأمر ينطبق على الساحة الفلسطينية: التفاوض مع حركة «حماس»: خطأ.. يجب التركيز على التفاوض (أو المواجهة) مع حركة الإخوان المسلمين.

كاتب فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب