مقالات
عالم متعدد الأقطاب والقوى يفتقر إلى استراحية واضحة تحكمه بقلم د. رياض العيسمي
بقلم د. رياض العيسمي

عالم متعدد الأقطاب والقوى يفتقر إلى استراحية واضحة تحكمه
بقلم د. رياض العيسمي
لم يعد عالم اليوم هو نفسه عالم الأمس. ما يقارب الثمانية عقود مضت على انتهاء الحرب العالمية الثانية وأكثر من ثلاثة عقود على انتهاء الحرب الباردة. العالم برمته يتغير والسياسة الأمريكية التي اتبعتها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية مازالت كما هي لم تتغير.
لقد استخدمت بريطانيا وعد بلفور ابان الحرب العالمية الأولى لإيجاد إسرائيل لدعم مشروعها الاستعماري في المنطقة. بينما فرضت الولايات المتحدة قيام دولة إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية لإنهاء المشروع البريطاني الاستعماري وفرض مشروعها الاستثماري الذي كانت ركيزته السيطرة على نفط المنطقة والتحكم بأسعار الطاقة، عصب الصناعة وشريان الاقتصاد العالمي. معتمدة بذلك على وجود إسرائيل ودعم قيام أنظمة عسكرية أمنية في المنطقة موالية لها بشكل أو بآخر .
في أواخر عقد الثمانينات انهار جدار برلين وتوحدت أوروبا. وسقط الاتحاد السوفييتي لاحقا على قاعدة الاقتصاد. وذلك بعد استنزافه في سباق حرب النجوم وتوريطه في حرب افغانستان. وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بدأت الصين تنهض على نفس القاعدة التي سقط عليها الاتحاد السوفييتي، الاقتصاد. هذا في نفس الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة قد بدأت تتربع على عرش العالم من جديد عبر مشروع العولمة الاقتصادية. وحاولت اعادة فرض الهيمنة العسكرية على العالم عن طريق الحرب على الإرهاب الذي كان قد فرض نفسه بعد أحداث ١١ أيلول عام، ٢٠٠١، وتبناه الرئيس بوش الابن وطاقم المحافظين الجدد في إدارته. وكان الرئيس أوباما قد حاول بعد انتخابه عام ٢٠٠٨، والذي كان مختلفا عن سلفه بكل المقاييس بما في ذلك نبذ الحروب الاستباقية، ان يقود مشروع التغيير في العالم ويفرض قواعد جديدة سلمية لما بعد الحرب الباردة. وبدأ من الشرق الأوسط. لكنه اخفق بشكل أساسي بسبب عدم قدرته على مجابهة سطوة الدولة العميقة ونفوذ المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة القائمة منذ الحرب العالمية الثانية، والتي كانت قد وصلت إلى ذروتها في عهد سلفه الرئيس بوش الابن. والتي لم تكن تعتقد بان المنهجية الأمريكية المتبعة منذ الحرب العالمية الثانية يجب ان تتغير بالرغم من تغير الظروف بعد انتهاء الحرب الباردة. ولكن هذا الوضع قد تغير بعد أن طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة الحزام والطريق عام ٢٠١٣. والتي فرضت الصين كمنافس جدي ولأول مرة للولايات المتحدة. وأظهرت إمكانية اسقاطها عن عرش العالم أو مشاركتها به. وهذا أيضا ما حفز الرئيس الروسي بوتين لتقمص دور القطب القوي الذي اضطلع به الاتحاد السوفييتي الذي بناه ستالين وفككه غورباتشوف. فدخل بقواته إلى سورية عام ٢٠١٥. وذلك بعد أن احتل شبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤. وهو اليوم في عامه الثالث من الحرب على أوكرانيا. وذلك لتثبيت دور روسيا كلاعب ند في المعادلة الدولية المتشكلة.
في كتابي الأول بعنوان أوباما يرتحل والشرق الأوسط يشتعل، الذي صدر في نهاية عام ٢٠١٦، كتبت بانه هناك ثلاثة مناطق خلافية ملتهبة في العالم، سورية، أوكرانيا وتايوان، إذا لم تحل قضاياها بالتفاوض بين الأطراف المعنية، فالحرب العالمية الثالثة لا مفر منها. وهكذا تطورت الاحداث إلى ما وصل إليه العالم ومنطقة الشرق الأوسط، وخاصة بعد الحرب على غزة والحرب المرتقبة على لبنان وإمكانية توسعها في المنطقة.
لقد أصبح العالم يقف اليوم على مفترق طرق. وهو لم يعد لديه رادع يحميه او قانون يحكمه. فمجلس الأمن الذي فرضته الحرب العالمية الثانية معطل وانتهى مفعوله. والكوريتين على شفا حرب طاحنة. وكذلك هو بحر الصين الجنوبي على موعد مع بدء عملية لتوحيد الصين مع تايوان. وإسرائيل، التي فرضتها الولايات المتحدة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وهي لا تملك مقومات الدولة، أصبحت دولة مارقة ومنبوذة في معظم الأواسط العالمية. وهي تحمل بذور فنائها بداخلها. وأصبحت لا تتجاوب مع منطق العصر.
الصراع العالمي لم يعد يقتصر على الأقطاب العالمية الكبرى فقط، بل اصبحت دول مثل اليابان وألمانيا، اللتان خسرتا الحرب العالمية الثانية، تشكل قوى اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية متقدمة. وهناك قوى إقليمية صاعدة في عدة أقاليم في العالم كإيران وتركيا والهند في آسيا وجنوب أفريقيا في أفريقيا والبرازيل في أمريكا الجنوبية تبحث عن بناء مشاريعها وتضع الخطط المناسبة والاستراتيجيات المطلوبة لتحقيقها. وبات من المصلحة الاستراتيجية للقوى الاقليمية في منطقة الشرق الأوسط بما فيها إيران وتركيا ان تصطف، ولو ضمنا، مع الصين وروسيا ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. وذلك لأن مشروع امريكا وإسرائيل هو بالنتيجة يأتي على حساب المشروعين الإيراني والتركي بالرغم من العلاقات المتناغمة بينهم، والتي تخدم أغراضا مؤقته. فلكل من إيران وتركيا مشروع إمبراطوري توسعي في المنطقة. وتستخدم كل منهما الدين والقوى الموالية لها بشكل سياسي تكتيكي لتوسيع مشروعها ووقودا لحروب الوكالة القائمة اليوم. وعلى المقلب الآخر العلاقة مع الصين وروسيا هي علاقة ذات بعد استراتيجي. وذلك لأنه لا يوجد تعارض معهما على المدى البعيد كما هو الحال مع الولايات المتحدة وإسرائيل. فمشروع إيران وتركيا في المنطقة هو مشروع حضور، بينما مشروعي الصين وروسيا هما مشروعان يقتصران على العبور من خلال المنطقة إلى البحر الأبيض المتوسط. ومع الأسف حتى اللحظة لم يتبلور بالمقابل أي مشروع عربي جامع في المنطقة يمكن ان يجد له قدما وسط هذا الزحام من صراع الأقطاب وتنافس القوى الاقليمية في المنطقة. وذلك بالرغم من المحاولات التي تقوم بها السعودية. فكل الدول العربية مشتتة وليس لديها استراتيجية واضحة. ومازالت تمارس السياسات الانفعالية التي لا يرتبط معظمها بالواقع.
ومن ضمن ما حاولت تسليط الضوء عليه في كتابي الجديد باللغة الإنكليزية الذي صدر في مطلع هذا العام بعنوان، أما وأن بدأ الرمل بالتسرب، لا بد للولايات المتحدة أن تعيد تقييم استراتيجيتها في الشرق الأوسط، التفريق بين السياسة والاستراتيجية. فالسياسة هي علم توصيف الواقع، بينما الاستراتيجية هي علم خلق الواقع عبر فهم الحاضر واستشراف المستقبل ووضع الخطط المدروسة للتصدي للمشاكل والأزمات التي يمكن أن تحول دون تحقيق الاهداف المرجوة من أي مشروع، ومنع وقوعها.