مقالات

هل «كومنولث إسلامي» قادر أن يملأ الفراغ؟

هل «كومنولث إسلامي» قادر أن يملأ الفراغ؟

د.جيرار ديب

أكّد الرئيس الأمريكي جو بايدن من على طائرته الرئاسية وهو يغادر الرياض بعد اختتام القمة الأمنية بأنه «لن يغادر المنطقة ويترك فراغًا تملأه الصين أو روسيا أو إيران».
قال بايدن ذلك عام 2022، وهو يختم قمة الرياض الأمنية بحضور رؤساء عن دول الخليج العربي بالإضافة إلى الأردن ومصر والعراق، حيث هدفت الإدارة الأمريكية من خلال القمة إلى تشكيل حلف وشراكة أمريكية عربية (كومنولث جديد) لوقف الزحف الإيراني الذي بات نفوذه يمتدّ إلى أكثر من دولة عربية على شكل وكلاء يعملون على الدفاع عن مصالحها ويسعون لتعزيز حضورها في التقاسم الدولي الحاصل، لاسيما مع الإصرار الروسي الصيني على إحداث تغيير في النظام العالمي القائم.
«الطبيعة تكره الفراغ» هكذا استنتج الفيلسوف اليوناني أرسطو بأن الطبيعة دائمًا تملأ الفراغ، وهكذا شبّه بايدن غياب الدور الأمريكي في المنطقة بأنه سيخلق حالة من الفراغ تشكّل مناسبة لإيران للحلول مكانها. لهذا اعتبر أن حلفًا أمنيًا بين الدول العربية حاجة ضرورية لوقف مدّ النفوذ الإيراني في المنطقة حيث استطاع عبر وكلائه أن يملأ فراغ سياساتهم في سوريا ولبنان واليمن والعراق وحتى في غزة.
على ما يبدو فكرة بناء حلف أمني تعاوني بين دول المنطقة ليست جديدة، إذ كشفت وثائق سرية بريطانية أن الحسين بن طلال، ملك الأردن الأول الراحل، اقترح على بريطانيا إنشاء «كومنولث إسلامي» لمواجهة تأثير صحوة إسلامية تنامى انتشارها في الشرق الأوسط خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ونظر إليها على أنها تهديد لأنظمة الحكم خاصة الملكية في المنطقة.
حسب الوثائق، فإن رئيس الحكومة البريطانية لم يستبعد أن تكون الفكرة أساسا لصياغة مشروع وحدة أوسع بين العرب بعدما تفرّقت مواقفهم من إسرائيل بسبب سعي الرئيس المصري الراحل أنور السادات للصلح معها. طرح الملك مشروعه على رئيس وزراء بريطانيا جيمس كالاهان، في شهر أيلول 1978 بينما كانت العديد من دول الشرق الأوسط تشهد صعود موجة وعي إسلامي تغذيها تنظيمات إسلامية.

الوحشية الإسرائيلية في حقّ الفلسطينيين في غزة لم تترك طريقًا للعودة إلى أي تسوية طالما لم يزل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يصرّ على توسيع دائرة الحرب

كان التخوّف من صعود المدّ الإسلامي المتمثّل بالحركات الإسلامية على رأسها «جماعة الإخوان المسلمين» في مصر هو وراء طرح الملك، لاسيما وأن هذا الصعود استطاع إيجاد مساحة له داخل الأوساط المصرية والعربية، لتنامي نشاط تيارها المعارض لمبادرة السادات للصلح مع إسرائيل بعد حرب 1973. السلام هذا حفّز لارتفاع الأصوات القومية والإسلامية متّهمة السادات بشقّ صف العرب، وقد انضمّ إليهما هؤلاء المعارضون علنًا الاعتراف بدولة إسرائيل، هذا ما أدّى الى توسيع الشرخ في الساحة العربية.
فشل طرح الملك ولم تأخذ الحكومة البريطانية ذلك على محمل الجدّ، فاستمرّت الجماعات الإسلامية المتمثلة في «الإخوان المسلمين» في مصر تشهد تناميًا حتى نفّذت حكم الإعدام بالسادات على يد الملازم أول خالد الإسلامبولي الذي حُكم عليه بالإعدام رميًا بالرصاص لاحقًا عام 1982. لكنّ ما لم يدخل في حسابات الحكومة البريطانية رغم تدارك الملك لها، هو الغضب الشيعي ضدّ نظام الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، إلى حين تمّت الإطاحة به عبر الثورة الإسلامية على يد مرشدها المرجع الديني الخميني، حيث لم تكتفِ فقط بنجاحها بل صدّرت ثورتها إلى الخارج.
الكومنولث الذي أراده الملك هو عبارة عن اتحاد سياسي يضمّ مجموعة من الدول الإسلامية تتوحّد تحت راية المملكة البريطانية، وتعمل على توحيد الجهد الأمني المخابراتي لمنع تنامي الجماعات الإسلامية ذات المشروع السياسي المعارض والمختلف عن مشاريع الأنظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط. إذ إن مدرسة الإخوان المسلمين تدعو إلى عودة الحكم للشريعة الإسلامية غير معترفة بالحدود التي فرضتها اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم المنطقة.
شهد المدّ الإيراني توسّعًا في النفوذ والجغرافيا، حيث ساعدت الفوضى التي أصابت الدول العربية نتيجة الثورات في تشكيل قوة محلية تولي بالولاء إلى طهران في الانتماء والأهداف. لهذا دخلت المنطقة في موجة جديدة من توازنات القوى حيث فرضت الجمهورية الإسلامية في إيران أجندتها على الكثير من الدول العربية من اليمن إلى العراق إلى سوريا فلبنان وصولاإلى غزة.
لم تنجح القمة الأمريكية وحسب، بل باتت اتفاقية كوينسي بين المملكة السعودية والولايات المتحدة التي وُقّعت عام 1945 التي ترتكز على تأمين الشراكة الأمنية النفطية، على المحك وقد تتعرض للانهيار في ظلّ التوجه السعودي للتنويع في العلاقات الدولية. لهذا فالطرح الذي تقدّم به الملك حسين يومها، كان لينجح لو استجابت المملكة المتحدة في حينه، ولكانت اليوم حصدت نتائج على صعيد الحفاظ على استمرارية الحضور العربي في مختلف القضايا، ولعملت على تطويق المدّ الإيراني في المنطقة دون أن تصبح اليوم تلك الدول العربية مهرولة للتطبيع مع إيران حفاظًا على أمنها وعلى مصالحها الاستراتيجية والقومية.
لم تذهب المملكة العربية السعودية إلى لقاء إيران والذهاب بعيدًا نحو التطبيع الدبلوماسي إلا بعدما تأكدت أن المظلة الأمريكية لم تعد تجدي نفعًا، وأن الوحشية الإسرائيلية في حقّ الفلسطينيين في غزة لم تترك طريقًا للعودة إلى أي تسوية طالما لم يزل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو يصرّ على توسيع دائرة الحرب خصوصًا بعد استهداف الحوثيين تل أبيب بمسيرة في 18 تموز الجاري، وتعمّد الإعلام الإسرائيلي على اعتبار أنها كانت تستهدف السفارة الأمريكية في تل أبيب لإقحام أمريكا في الحرب.
أصبحت فكرة بناء «كومنولث» إسلامي من الماضي، لاسيما وإن المنطقة لم يملأ فراغها الإيراني فقط، بل الروسي والصيني والتركي والفرنسي، الأمر الذي أدّى إلى تشظّي المصالح وتنوّع السياسات وتغيّر الأهداف، فبات لكل دولة في المنطقة أولوياتها وتموضعها لاسيما وسط تصاعد حظوظ فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، وما يحمله من سياسة «أمريكا أولًا» وإسرائيل ثانيا.

كاتب لبناني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب