يهودي مالطة: صراع المال والدين في مسرحية كريستوفر مارلو

يهودي مالطة: صراع المال والدين في مسرحية كريستوفر مارلو

إبراهيم خليل
يعد كريستوفر مارلو (1564 – 1593) واحدا من الشعراء والكتاب المسرحيين الذين لمعوا في القرن السادس عشر إلا أن عظمة شكسبير (1564 – 1615) وشهرته باعدا بينه وبين أن يكون علما شهيرا في الأدب العالمي كشكسبير.
من الأعمال التي تعزى إليه شهرتها المحدودة مسرحية «الدكتور فاوستس» ومسرحية «يهودي مالطة» The Jew of Malta التي تشترك مع مسرحية شكسبير الموسومة بعنوان «تاجر البندقية» في أنهما تسلطان الضوء على اليهودي البخيل الذي يطغى عليه حبّ الذهب، ولا يحول هذا الحب بينه وبين أن يضحي بأعز شيء مقابل المال بما في ذلك ابنته أبيجيل.
وقد سعى مارلو إلى إضفاء الطابع الإنساني على الشخصيات اليهودية، من خلال تصوير معاناتهم، والظلم الذي يواجهونه. وهذا واضح في القمع الذي تعرض له باراباس، الشخصية الرئيسية في المسرحية، على أساس أنه وقع ضحية مظالم مختلفة مثل التحول القسري لديانة أخرى، ومصادرة ثروته. على الرغم من أن مارلو يظهر أفعاله الشريرة، إلا أنه يدفع الجمهور أيضا إلى التساؤل عن مدى كون هذه الأفعال مدفوعة بالتهميش، والاضطهاد المجتمعي. ومن خلال القيام بذلك، يتحدى مارلو الجمهور للنظر في تأثير التحيز المجتمعي على الأفراد، وتشجيعه على فهم أكثر تعاطفا مع الشخصيات اليهودية.
ويصور مارلو شخصيات مسيحية، مثل: فيرنيز حاكم مالطا، فهي شخصيات يقودها الجشع وشهوة السلطة. وهذا يعمل على تقويض فكرة أن اليهود هم التجسيد الوحيد للشر، مع التأكيد على أن الفساد الأخلاقي، والخداع، موجودان عبر الحدود الدينية. ويشير تصوير مارلو للمسيحيين في المسرحية إلى أن الهوية الدينية وحدها لا تحدّد الأخلاق، مما يزيد من تعقيد فهم الشخصيات اليهودية، فباراباس يفضل أن يكون يهوديا غنيا، على كونه مسيحيا فقيرا، مستخفا بالنصارى، وبحديثهم عن الصدقات. ويشيد باليهود على الرغم من أنهم مشتتون، مبعثرون في أنحاء الأرض، لكنهم أثرياء، لا يطمحون إلا لعدالة تمكنهم من الحفاظ على ما يكنزونه من الفضة والذهب.
أول الغيث
تبدأ المسرحية بقدوم ثلاثة من اليهود ليخبروا باراباس المشغول بإحصاء ما بين يديه من الذهب، عن وصول الأسطول العثماني إلى جزيرة مالطة، ويطمئنهم ألا خطر على الثروة من هذا الهجوم. وبعد أن يغادروا يفكر في ما عسى أن يفعله هؤلاء الأتراك، وهل سيرفعون قيمة الضرائب على الجزيرة أم لا. وبهذا يلقي المؤلف الضوء على اهتمامات باراباس، وهواجسه، التي لا تنفك تتصل بالمال وبالذهب.
الابنة المرتدة
وهذا ما جرى بالفعل، ذلك لأن قائد الأسطول أبلغ حاكم الجزيرة بدفع ضرائب عن السنوات العشر المقبلة دفعة واحدة في موعد أقصاهُ شهرٌ واحد لا أكثر. ولأن مثل هذه المبلغ الكبير غير متوفر، سارع الحاكم فطلب من اليهود التبرع للسلطة بنصف ثرواتهم لتسديد الضرائب، وإلا فعليهم التحول إلى المسيحية. وحين يأبى باراباس أن يصدع بما أمر، يرد عليه الحاكم قائلا: إن اليهود ملعونون في جل أنحاء العالم، وإنه يعلن الاستيلاء على أموال باراباس، وجلّ ممتلكاته. ويحتج هذا الأخير زاعما أن المسيحية عقيدة تقوم على الإكراه، والسطو. في الأثناء تبدي إبيجيل ابنته الحزن على ما حاق بأبيها من خسارةٍ، وإفلاس، فيهمس لها قائلا: إنه أخفى في منزله كنزا ضخما من الفضة والذهب سيدلها عليه، لكن عليها أولا أن تتظاهر بالتحول للمسيحية، ريثما تتمكن من إخراجه. وبعد انضمامها للدير يتظاهر باراباس بالتخلي عن ابنته المرتدة.

كريستوفر مارلو
مكائد
ويواصل باراباس تدبير المكائد، كتلك التي ساقت كلا من لودويك وماثياس لمبارزة تودي بحياة الاثنين. أما إبيجيل فتعترف للقس برناردين بجرائم أبيها، ومنها تسببه في مقتل المذكوريْن، وأن من مكائده الفظيعة تسميم الراهبات. ولا تتوقف حيله، فقد تظاهر بالتحول من اليهودية إلى المسيحية، وخدع كلا من برناردين، وغيثامور، وكل منهما يمثل مذهبا في المسيحية مغايرا للآخر، فأفهم الأول أنه ينضم لديره، والثاني أنه ينضم لديره. وهذا يوحي بتسليط مارلو الضوء على علاقة بطل المسرحية باراباس بالدين، إذ لا يعدو الدين لديه العمل بمبدأ الغاية (تبرر) الوسيلة. فباعترافه هو لا يعبد اليهودي الله، وإنما يعبد المال، ويقدّس الثروة. فلا غرو لديه إن ضحى بابنته لأجل الفضة والذهب. ومع هذا نجده في المسرحية شديد الانتقاد للكنيسة وللمسيحية، وينعتها بما لا يمكن قبوله. فهي ديانة لا تهتم إلا بالسطو، والسرقة، والإكراه. وتبعا لذلك ظهرت المشاعر التي يكنها الآخرون حياله مشاعر تخلو من التقدير، أو التعاطف. فعندما اندلعت أعمال الشغب بين اليهود والنصارى في مالطة بسبب الضرائب التي فرضها العثمانيون، انتقم باراباس من طبيعته من حيث أنه يهودي، ومن الحاكم فيرنز الذي أمر بمصادرة ممتلكاته. وانتقم من ابنته مرسلا إيثامور ليسمم الدير بمن فيه من الراهبات، فماتت إبيجيل مسمومة فيمن متن.
فباراباس، فيما يؤكده مترجم المسرحية، حرب محمد شاهين، شخصية انتقامية، أنهى بنفسه حياة صديقه إيثامور والفتاة التي يحبها بزهرة مسمومة، وأنهى بمكيدة أخرى حياة اثنين آخرين كل منهما حاول خطبة ابنته إبيجيل، وهما لودويك وماثياس. وشخص مثل هذا يرتكب ما يرتكبه من الجرائم، ويكيد ما يكيده للآخرين، غير مستبعد أن تنتهي حياته بمأساة يتجرع فيها الكأس، التي شربَتْ منها ضحاياه. وهكذا سقط في حفرة السوء التي حفرها بنفسه لغيره، ومات في مرجل الماء وهو يغلي، فما أعدلها من عقوبة إلهية!
تاجر البندقية
وتذكرنا مسرحية مارلو «يهودي مالطة» بشخصية شيلوك Shylock في مسرحية شكسبير The Merchant of Venice «تاجر البندقية» فكل منهما تسلط الضوء على اليهودي البخيل، وهو نموذج متكرر كثيرا في الأدب الأوروبي في تلك الأثناء. ويرى بعض مؤرخي الأدب الإنكليزي أن شكسبير التفت إلى هذا النموذج بتأثير من مارلو. وهذا لا يستبعد، فكلاهما ولد وعاش في العصر الإليزابيثي. فمارلو ولد عام 1564 في مدينة كانتربري التي تذكرنا بجيفري تشوسر (1343- 1400) صاحب «حكايات كانتربري» The Canterbury Tales وعرف عن مارلو أنه شخص إشكالي، فهو عند بعضهم جاسوس، وهو عند بعضهم ملحد، وعند فريق ثالث مزور، وعند آخر مثلي. درس في كامبريدج وظفر بدرجة البكالوريوس في الآداب عام 1584 وتقدم للحصول على درجة الماجستير عام 1587 وبعد تردد من الجامعة، بسبب ما راج عن اعتزامه الذهاب إلى ريمس في شمال فرنسا ليصبح كاهنا كاثوليكيا، منح أخيرا الدرجة بتدخل من الملكة.
أما أشهر مسرحياته، وإليها تعزى شهرته الأدبية، فهي مسرحية «تمبورلين» التي عرضت للمرة الأولى عام 1587 ففي رأي بعض مؤرخي المسرح الإنكليزي هي أول مسرحية كتبت شعرا بهذه اللغة. وقد توفي مارلو قتيلا في عام 1593 وكثرت الاجتهادات، والتأويلات، في تفسير مصرعه وأسبابه.
ترجمت هذه المسرحية أكثر من مرة. الأولى لعمر عثمان جبق، وصدرت في الرياض عام 2016 تلتها ترجمة ثانية لعودة القضاة، وقد صدرت في عمان 2017 عن دار البيروني. والثالثة لحرب محمد شاهين وصدرت عن دار القدس بدعم من وزارة الثقافة – عمان 2024. وهذه الترجمة تختلف عن الترجمتين السابقتين بمقدمة طويلة تحدث فيها المترجم عن كريستوفر مارلو وآثاره، وعرض لفصول المسرحية، وما فيها من الشخصيات، مشيرا لعلاقتها بمسرحية وليم شكسبير «تاجر البندقية». وكان توفيق علي منصور من مصر قد ترجم المسرحية شعرا، وصدرت في القاهرة.
كاتب أردني