شهرزاد في مسرح البولشوي

شهرزاد في مسرح البولشوي
بهاء بن نوار
توطئة:
حين أعدّ الموسيقارُ الروسيُّ ريمسكي كورساكوف (Rimski-Korsakov) المنتمي إلى مدرسة القوميّين الروس متواليتَه السيمفونيّة الشهيرة: «شهرزاد» (Shéhérazade) سنة 1888 أكّد على جمهور النقّاد والمستمعين أنّه لا يلتزم بأيّ برنامجٍ فيها، بل يستلهم أجواءَ الليالي الشرقيّة في عمومها، من دون أن يتقيّد بحكاية ما دون غيرها، وحذّر من أيّة محاولةٍ للربط بين ما أعدّه من حركاتٍ سيمفونيّةٍ تجريديّةٍ، وما يضمّه المرجعُ الأدبيُّ من أحداثٍ وحبكاتٍ وشخوصٍ تلازم ذهنَ المتلقّي، وتعلق فيه.
رغم هذا التحذير الواضح، فإنّ جمالَ هذا العمل، ومحاكاته العميقة لسحر الشرق، ونفسَه السرديَّ الواضح، كان قد أغرى مُصمِّمَ الرقصِ الروسيَّ ميخائيل فوكين (M. Fokine) فتجرّأ على تقديمه في باريس سنة 1910 وقام بالدور المحوريّ فيه صحبة زوجته فيرا فوكينا (V. Fokina) ولقي ومنذ أول عرضٍ له نجاحا باهرا، عُدّ معه علامةً فارقةً في تاريخ الباليه الروسيّ، فما زال يُعرَض حتّى اليوم في كثيرٍ من المسارح العالميّة والعربيّة، متراوحا بين الحفاظ على تفاصيل الليبريتو الأوّل كما وضعها فوكين أو التجديد والانفتاح على مدارس الحداثة والترميز وتقنيات الرقص الحديث.
تجرّأ فوكين إذن على ما حذّر منه كورساكوف واختار أن يربط حركات المتوالية الأربع بالحكاية الإطاريّة لألف ليلةٍ وليلة: حكاية السلطان «شهريار» وألمِه الدفين لخيانة زوجته: «زبيدة» التي يعشقها، وكان مُستعِدّا للعفو عنها بعد أن أباد جميعَ عبيدِها وجواريها، لولا أنّها ترفّعت عن عفوه، واختارت الانتحارَ في مشهدٍ دامٍ، خُتِم به العرض،
الذي غابت عنه «شهرزاد» ولم تحضرْ فيه إلّا حضورا رمزيّا من خلال العنوان، ليُسلَّط الضوءُ كلُّه على السلطانة «الخائنة» وعلى عالمها النفسيّ المعقَّدِ بأداءٍ دراميٍّ، ينسجم كثيرا مع خصوصيّات الموسيقى، وتقلّباتها العنيفة بين العلوِّ والانخفاض، والشدّة والارتخاء. وهو ما سأحاول استجلاءَه من خلال أحدِ عروض مسرح البولشوي الروسيّ، المعروف بفخامته المشهديّة، والذي تقاسم الأدوارَ فيه كلٌّ من إلز لييبا (Ilze Liepa) بدور «زبيدة» وأندريس لييبا (Andris Liepa) بدور «شهريار» وفيكتور ياريومانكو (Victor Yeriomenko) بدور «العبد الذهبيّ»:
الإطار الزمكانيّ:
يأتي فضاء المكان، المجسّد من خلال الديكور شديدَ الجرأة، ومفعما بالألوان، والظلال؛ فنرى الأقواسَ الجداريّة حافلةً بالنقوش الشرقيّة الدقيقة، ونرى الطنافسَ الفاخرة، والوسائدَ الناعمة، والأغطية والستائر الحريريّة، والأصص والأباريق والأكواب الفضيّة، ونرى أعوادَ البخور تنفث عبيرَها، ويكاد أن يصلنا عبقُها، وطاووسا أنيقا، يتهادى متبخترا، قريبا من مخدع «زبيدة» وفي أيّة لحظة نتوقّع أن ينشر ريشَه الملوّن، ويغمر المكانَ بهجةً وجمالا، ممّا يعكس حسّا عاليا بالرفاهيّة، والبذخ، ويوحي بتماهٍ عميقٍ مع تفاصيل المرجع الأدبيّ، والطبقة التي يمثّلها.
أمّا الزمان، فأتى نهاريّا، مشعّا، نتلمّس هذا من خلال تلك الأضواء القويّة التي غمرت المكانَ، وأتت بنورها الساطع معادلا للشمس بأشعّتها الذهبيّة الوهّاجة، ونتلمّسه أيضا من خلال مشهد خروج شهريار إلى الصيد، حيث نلمح بوّابة القصر لدى فتحها تتفتّق عن ضوءٍ غامرٍ، هو ضوء النهار، دون سواه، وإلى جانب هذا نلاحظ أنّ هذه الإضاءة الساطعة تشرع في الخفوت شيئا فشيئا، إلى أن نرى «كبيرَ الخصيان» (Le Grand Eunuque) يشير إلى تابعيه بإضاءة المشاعل، فنعلم أنّ فسحةً زمنيّةً طويلةً قد استُهلِكت، وأنّ الزمن الليليّ الحميم؛ زمن العشق والاختلاء بالذات أو الحبيب قد أتى، وبخاصّةٍ لدى تزامن هذا مع دخول العبيد الذهبيّين، وبدء طقوس العشق، والاحتفاء بالجسد، والملذّات.
ملامح الشخصيّات:
يمكن هنا تسجيل ملاحظاتٍ كثيرة، أهمّها ما بدأ به العرضُ من تركيزٍ شديدٍ على «شاه زمان» وتوقّف الكاميرا لحظات طويلة أمام ملامح وجهه الجامدة، ونظراته المرتابة، ويده القابضة بحدّةٍ على مقبض سيفه، فانسحابه بهدوءٍ، ومنظرُه يوحي بأنّه شاهد أمرا مريبا، لا شكّ أنّه يمتّ بصلةٍ ما إلى سلوك زوجة أخيه، ويشير إلى شبهةٍ ما تلطّخ سيرتَها، وهو ما يتكرّس أكثر حين تركز الكاميرا مجدّدا عليه، وهو يجلس عابسا، يفكّر حتما في طريقةٍ ملائمةٍ لتنبيه أخيه المتيّم جدّا بزوجته، والذي لن يستمع أبدا إلى أيّة وشايةٍ في حقِّها، ولو كانت من أخيه الوحيد.
وفي تلك الأثناء، كان شهريار مختليا بزوجته في مخدعهما الوثير، يعيشان معا لحظات حبٍّ جارفٍ، يلفت انتباهَنا فيها رومانسيّتها العالية، وعذوبتُها الموحية بحبٍّ عميقٍ يربط بين قلبيْهما، وتبدو «زبيدة» مثالا للعاشقة المحبّة، لولا ظلٌّ خفيٌّ من وجومٍ يطلُّ من عينيْها، ويوحي ببؤسٍ وتعاسةٍ يغمران روحَها، فهل ستجد السكينة بين ذراعيْ رجلٍ آخر غير زوجها؟ الذي بدا شديدَ الوسامة، نبيلَ الملامح، متخلِّيا عن الشاربيْن المتضخّميْن اللذيْن شوّها وجهَه في النسخ السابقة لهذا العرض، وأضفيا عليه مظهرا كاريكاتوريّا، مثيرا للسخرية، وهو عاشقٌ صادقٌ، وملتزمٌ، يسخو على محبوبته بعطفه واهتمامه، ويغمرها بعناقه وقبلاته، ويزجر أخاه بحسمٍ حين يحاول الهمسَ في أذنه بما يمسّها، ولا يفرد في قلبه مكانا لسواها، فلم يحاول طوال العرض الاقتراب من بقيّة المحظيات، ولم يمتدّ ذراعُه لأيٍّ منهنّ مغازلا.
وما دام هذا الزوج على هذا القدر من النبل والمثاليّة، فلماذا تتورّط الزوجة في فعل الإثم والخيانة؟ ما هو سرُّ تعاستها يا تُرى؟ ولماذا تبدو يائسةً وبائسةً إلى ذلك الحدّ؟ هل هي امتدادٌ لبقيّة نساء الليالي الفاسدات، اللواتي لا يردعهنّ شيءٌ عن الفسق والغواية؟ أم أنّها لم تجد فيما يغدقه عليها زوجُها من حبٍّ ورعايةٍ ما يكفي لإفعام روحها، وإرواء ظمئها؟
لنتأمّلْها إذن في حضرة العشيق، ولنر كيف سيكون حالها، هل ستجد شيئا من السكينة التي تفتقدها؟
وهنا لا بدّ من تسجيل ملاحظةٍ مفصليّةٍ، هي أنّها لا تتواصل مع بقيّة المحظيّات، وليس لها سوى وصيفةٍ واحدةٍ مخلصةٍ، تفهمها دون الحاجة إلى إشاراتٍ كثيرةٍ، فبمجرّد أن تشعر بدخول العبيد العشّاق حتّى تنظر إليها نظرةً طويلةً، تفهم منها الأخرى أنّها ستتخلّى بعيْد لحظاتٍ عن ثوب الزوجة لترتدي ثوبَ العشيقة، ستخلع جلدَها الشرعيَّ، وتكتسي جلدا آخر بديلا نسيجه التمرّد، والعنفوان؛ ستتمرّد على الملذّات المباحة، وتجرّب الاغترافَ من الملذّات المحظورة، ستقتطف المتعَ المحرّمة، وستقتحم الخطرَ، وستفعل أيَّ شيءٍ لتهدأ روحُها المعذّبة وتستقرّ! وهو ما يتمّ اختزاله رمزيّا حين تغيّر ثيابَها، وتمثل أمام عشيقها بحلّتها الجديدة، يتعانقان طويلا، ويرقصان بنعومةٍ وانسجامٍ، ويرشفان كؤوسَ الهوى عذبةً صافيةً على أنغام الحركة الثالثة؛ أرقِّ ألحان المتوالية وأجملها، ولكنْ، لا شيء من ذلك ينجح في إسعادها، ما تزال عيناها تحملان الجمودَ نفسَه، وما يزال العبوسُ يهيمن على ملامحها: ما الذي تريده حقّا؟ وما الذي ينقصها؟ وهي غير سعيدةٍ بين ذراعيْ الزوج، وغير سعيدةٍ أيضا بين ذراعيْ العشيق! ولا أجد جوابا لهذا سوى أنّها مخلوقٌ تراجيديٌّ، يعيش ظمأه الوجدانيَّ، ويعايشه، ويسعى بكدحٍ لأجل إفعامه، وما من أمل في ذلك؛ إنّها نموذجٌ للبؤس العاطفيّ والعجز عن الحبّ، اللذيْن لم تجدْ مفرّا منهما إلا بالموت، فهي لم تقتل نفسَها حزنا على ذاك العشيق الذي استعملتْه ولم تحبّه حقّا، ولا خوفا من الزوج الذي غفر لها كلَّ شيء، وبذل كلَّ شيءٍ دون جدوى. وهو ما يشكّل ـ حسب وجهة نظري ـ أهمَّ إشكالات هذا العرض، الذي ترتكز جماليّاتُه على إعلاء آلام «زبيدة» وتصوير قسوة حزنها، ووحشتها الروحيّة.