في فشلنا التربوي العظيم
في فشلنا التربوي العظيم
ياسين الحاج صالح
الغرور أو «العنطزة» و«شوفة الحال» الهياج والانفعالات الحادة، الاستعداد المستمر للنقار، أو للمشاجرة والتقاتل، هذه ثلاثة من بين نواقص إنسانية، تصادف هنا وهناك. بعض الناس متبجحون مغرورون، وبعضهم أميل للانفعال وأقل تحكماً بأنفسهم من بعض، ولا يكاد يوجد بين البشر من قد لا يدخل في شجار في مواقف معينة. لكن يبدو أن هذه الثلاثية تنزع لأن تشكل بنية متكاملة مستقرة في حالتنا السورية، ركيزتها ربما تتمثل في الافتقار إلى بنية داخلية للنفس، إلى عمق نفسي، يتحكم بالمهيجات الخارجية، ولا يستجيب لها على طريقة المنعكسات الشرطية البافلوفية. لدينا كغيرنا من البشر «عقول» تعمل على معطيات التجربة المباشرة وتحولها إلى أفكار ومعقولات، و«ضمائر» تضبط الغرائز وتوجه نحو مسالك أكثر سداداً. العقل والضمير ليسا معطيين بيولوجيين، فهما يتطوران ويغتنيان بالتربية والمعرفة وتجربة الحياة. عقولنا قوى تكتسب وتتطور وتُرهَف، وليست شيئاً مركوزاً ثابتاً في أنفسنا. ومثلها ضمائرنا، هي أيضاً أفعال تحكم ونفي للهوى الأول والرغبة الأولى، تصير بالرعاية استعداداً مترسخاً. وهما معا يشكلان بنيتنا النفسية، عالمنا الداخلي.
العيوب المتواترة المذكورة، الغرور والهياج والميل للشجار، تشير ثلاثتها إلى توجه نحو الخارج وركون إلى منطق رد الفعل، ربما يمد جذوره إلى نقص تشكل هذا العالم الداخلي، أي إلى ضعف أو تعثر أفعال العقل والضمير.
ماذا يعني ذلك؟ يعني فشلاً تربوياً كبيراً يبدو متفاقماً، ينعكس تدهوراً في سويتنا الإنسانية. ولعله يعني وجوب مساءلة مؤسسات التربية في مجتمعاتنا المعاصرة: العائلة والمدرسة والمسجد والدولة. يحتاج الأمر إلى عمل بحثي منظم حول هذه المؤسسات الأربع، لكن يمكن قول أشياء أساسية في عجالة.
لا تنجح عائلات كثيرة الأولاد محدودة الموارد في توفير مقادير حب كافية لأمن الأبناء العاطفي، وفي تنمية عقول وضمائر الأطفال في عالم متسع، معقد، وسريع التغيرات، ولا يكاد الآباء والأمهات يعرفون كيف يتعاملون معه. لم نعد مجتمعات تقليدية، تنضبط فيها أدوار النساء والرجال والأولاد وكبار السن بقواعد معلومة مسبقة تصون التماسك الاجتماعي. هذا على الأقل بسبب تقدم الأوضاع الصحية وزيادة عدد الأولاد في الأسرة الواحدة، وعدد الناس في الحي أو البلدة أو القرية، أو البلد ككل، دون نمو مواز في الموارد، بخاصة في بلدان مثل سوريا ومصر ارتفع سكانها فوق ثلاث مرات خلال نصف قرن، وتواجه أكثر العائلات فيها مصاعب على مستوى الكفاية المادية، ويتراجع وزن الطبقة الوسطى فيها.
وتدهورت المدارس التي لم يعامل دورها كأعلى الأولويات الوطنية، ولم تخصص لها موارد كافية من أجل إعداد المعلمين وتوفير المستلزمات المدرسية، وتأمين بيئة تفاعل صحية لنمو الأطفال واليافعين. عمل المدرسة ليس إعداد أولاد يحفظون معلومات وينال بعضهم عليها درجات عالية، بل تأمين نمو متكامل لعقول وضمائر وقلوب المواطنين الصغار. مدراسنا مكتظة، مستوى المعلمين متواضع غالباً، ويشيع أن يجري التعويض بالقسوة لضبط الناشئة. وفوق ذلك جرت في العقود الأخيرة خصخصة من باطن للتعليم العام عبر الدروس الخصوصية. المدارس التي تخرج بعض «المتفوقين» تخرج قدراً أكبر من «الفاشلين» الذين كان يمكن ألا يكونوا كذلك في تصور آخر للتربية والتعليم لا يقوم على المعلومات والتلقين والحفظ. وفوق هذا جرى إفساد المدارس في سوريا طوال نصف القرن الأخير بتسخيرها لعبادة الحاكم والتغني به واختزال البلد فيه.
يبدو أن المآسي الكبيرة تعزز من حدة انفعالاتنا وتوجهنا نحو الخارج، في شكل غضب وكراهية، أو ربما في عنف وتدمير
وتعتمد المساجد كذلك على الحفظ والتلقين، على نحو لا يتلاءم وتشكل عقول أكثر تركيباً. ويغرس المشايخ في قلوب المؤمنين شعوراً قوياً بالذنب على تقصيرهم الدائم، ويقيمون سلطتهم بنيوياً على حاجة الناس إلى استفتائهم في مستجدات الحياة الكثيرة، بدل تنمية حسهم بالعدالة والاحترام والتواضع. وعبر ذلك يشغل الشيخ موقع الضمير الخارجي الذي يُغني أناساً متعبين حائرين عن ضمير داخلي صاحٍ، يستفتيه المرء ويتوجه به. وعلى هذا النحو يخفق المسجد كذلك في المهمة التربوية، الاعتناء بعقول وضمائر الناس، أي توسيع وإغناء عوالمهم الداخلية، وإن كان عبر ذلك يعزز سلطته عليهم. ولا أدل على فشل ديني المنشأ في رعاية العالم الداخلي من فشل أكثرنا في واجب أخلاقي إسلامي معروف: غض البصر. من يعيشون بيننا منذ سنوات في بلدان الغرب لا بد أنهم لاحظوا أن عموم من نعيش بينهم من أهالي بلدان لجوئنا غاضون لأبصارهم خلافاً لنا، تلوب أعيننا في المكان حولنا، وتستقر على أجساد النساء طوال الوقت. ننظر إلى الخارج لأننا بلا داخل، بلا مركز في داخلنا، خلافاً للغربي المتوسط. وبدل تغيير النهج كلياً يحمل المشايخ النساء عبء افتقار الرجال إلى داخل نفسي، أي إلى مركب عقلي وجداني يقود به المرء نفسه، فيطلبون منهم الحجاب والاحتجاب.
إلى ذلك تعارض الإسلامية المعاصرة تحديد النسل، ويعمل وكلاؤها في الوقت نفسه على أن يكون المسلمون متماثلين، نسخاً طبق الأصل الصحيح في القول والمظهر والفعل، فنحصل على عدد كبير من أناس فائضين عن الحاجة بالضبط لأنهم متماثلون. ماذا يمكن لـ«غثاء السيل» أن يكون أكثر من ذلك؟
وتطورت دولنا، وسوريا التي تحولت من جمهورية إلى ملكية عائلية أكثر من غيرها، في اتجاه مزيد من الأنانية والخصخصة، وليس في اتجاه الغيرية والعمومية الوطنية. وانشغالها بدوامها الذاتي مقدم على كل شيء آخر، وهو ما اقتضى الاحتراس من المحكومين وتفريقهم وإضعافهم وإفسادهم، بدل الثقة بهم وتعزيز ثقتهم بأنفسهم وببعضهم، وتطوير كفاءاتهم. ولا تجسد هذه الدول كرامة سكانها بل ذلهم بالأحرى. ويكذب حكامنا في كل شأن تقريباً دون أن يرف لهم جفن مع علمهم بأن محكوميهم يعلمون أنهم يكذبون. والكذب عنصر في ثالوث يشمل السرقة والقتل، بحيث تشكل أطقم الحكم في بلداننا المثل الأسفل الذي ننحط بالاقتداء به. وبالفعل يمثل الموالون للأنظمة الحاكمة في بلداننا أحط النماذج الإنسانية. الواقع أننا نفتقر إلى مثل عليا مشخصة في مجالنا، في صورة قادة وأدباء ومفكرين وأهل خير. قليلون جداً من يمكن أن يكون الاقتداء بهم مربّياً. وهو ما يكمل مفعول الأسرة والمدرسة والمسجد والدولة في إنتاج مجتمعات برية، تعيش مثل نبتات صحراوية دون رعاية، تواتي المصادفات بعضنا ليعيشوا حياة أغنى، بينما يعيش أكثرنا حياة فقيرة معنوياً وأخلاقياً وفكرياً.
وهو ما يعززه فقر مادي متزايد، إن بالمقياس النسبي، في عالم تتنوع الحاجات فيه وتتكاثر، أو بالمقياس المطلق للوفاء بالحاجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ورعاية صحية وتعليم معقول. عدا دول الخليج التي تستفيد من مداخيل ريعية كبيرة، يبدو أن الدول العربية الأخرى تشهد تراجعاً عاماً لمقدرات سكانها المتزايدين. ليس أننا لا نتحضر ولم نتحضر طوال نصف القرن المنقضي، بل إنه يبدو أن عملية ترثيث أو نزع حضارة نشطة تعتمل في مجتمعاتنا، وتفاقم من صفتها البرية.
مركب الغرور والانفعال والشجار يحيل إلى الجانب النفسي من عملية الترثيث، نفس بلا بنية داخلية مركبة، كان من شأنها أن تحول ما يرد إليها من الخارج إلى أفكار ومعان وقيم. وإنما لذلك لا يبدو أن ما نالنا من كوارث في الزمن الحديث، وهي كثيرة ومديدة، تدفع إلى التوجه نحو الداخل، إلى النظر في الذات، إلى تطوير عمق روحي. بالعكس، يبدو أن المآسي الكبيرة تعزز من حدة انفعالاتنا وتوجهنا نحو الخارج، في شكل غضب وكراهية، أو ربما في عنف وتدمير. هذا في واقع الأمر أكبر خساراتنا. كان يمكن لأي هزائم أو كوارث تقع لنا أن تكون نسبية وعارضة لو كانت عوالمنا الداخلية أقل ضحالة وفراغاً.
كاتب سوري