«شيفرة دافنشي»: استعادة الأنثى في سياق الثقافة الكاثوليكية
محمد دخاي
هل حاولت رواية «شيفرة دافنشي» لدان براون خلخلة الجاهز المغلق في الديانة المسيحية؟ سؤال من أسئلة كثيرة تسعى لاستجلاء كينونة أشياء كثيرة من مرجعية المسكوت عنه في الثقافة الكاثوليكية؛ كرمز من أحد رموز الوجود الإنساني. رواية يتداخل فيها المتخيل بالواقعي بين حكاية قتل واقعية وأحداث تمتح من مرجعيات الأبعاد التاريخية للقرون الوسطى تحضر بكل الدلالات والرموز لدى دان براون؛ وهي رموز استهوت كتابات روائية عديدة في العالم، بما فيها الكتابات العربية، كما في رواية «سمرقند» لأمين معلوف من خلال موضوعات عوالم الحشاشين وعصر عمر الخيام، لكن تميز رواية «شيفرة دافنشي» يعود الى إثارته أسئلة وجودية تهم جوهر العقيدة المسيحية.
زمن سردي في زمنين مختلفين
في «شيفرة دافنشي» يتداخل الزمن السردي عبر زمنين مختلفين فالأحداث تقع في العصر الحديث من، خلال حياة أمين متحف اللوفر المشهور في باريس، وهي الإحالة التي تؤسس لتوجهات الراوي بالعودة إلى إعادة قراءة شيفرات التاريخ السري للحروب الصليبية وفرقة فرسان المعبد الشهيرة التي بحثت أثناء وجوده في القدس عن هيكل سليمان، رغبة في الوصول إلى أسرار المسيحية في أيامها الأولى؛ لتضع يدها على وثائق في غاية السرية تهم الكنيسة الكاثوليكية. يرى كاتب الرواية أن المسيحية عالم من الأسرار القديمة تعود إلى زمن المسيح السلام من خلال الصراع الذي ميز ما بعد موته بين الحواريين رغبة في سلطة معنوية ستشكل للمتضررين بينهم في ما بعد القوة المادية والسلطة التي تحولت إلى مرجعية للشرعية لدى الحكام في محاولة لإخفاء الوريث الشرعي، بحيث أسست جمعيات سرية هدفها الحفاظ على ذلك السر الأعظم وعملية تناوله من فئة لأخرى كاملا، ومن بين من يمثلون تلك الجمعيات السرية شخصيات لها تاريخها الأدبي والعلمي والثقافي والفني مثل، إسحاق نيوتن وفيكتور هوغو وليوناردو دافنشي الذي رمز إلى تلك الأسرار بطريقة غامضة في لوحاته الفنية، خصوصا لوحة العشاء الأخير، الذي جعل منها المؤلف البؤرة الأساسية لروايته، علما أنها موجودة في إيطاليا، خصوصا إذا علمنا أن مكان وقوع الجريمة هو متحف اللوفر الفرنسي، فكانت الرغبة في قراءة دلالة تلك الأسرار الكامنة في تلك اللوحات، وفي كل ما ينتمي إلى الكنيسة بصفة عامة.
هل فعلا كان المؤلف دان براون في روايته «شيفرة دافنشي، يسعى إلى تقويض الإرث المسيحي وإعادة خلخلته من الداخل؟
قد يجزم البعض بذلك، من خلال تناول المؤلف لموضوع يطرح فرضيات، تعيد قراءة الممكن من معتقدات ديانة عمرت قرونا عديدة يتداخل فيها المقدس والمدنس، والمستفيد من ذلك طبعا هم اليهود، أما الإسلام فالكاتب لا يشير إليه إلا ثلاث مرات، من خلال إعطاء مصداقية للأثر الرمزي للفرق السرية، وإعطائه بعدا تاريخيا شرعيا، من خلال إدراج الفيلسوف الكندي للأبعاد الرمزية والأيقونية في نصوصه وقصائده، حيث يتداخل التاريخي بالمتخيل الذي أكسبها تفردا خاصا تحولت معه إلى فيلم سينمائي كان من نتائجه الإقبال الكبير للسياح على الأماكن المذكورة فيها، في كل من إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وغيرها.
المؤلف يبتدئ روايته بمدخل جعل منه حقيقة صادمة للمتلقي، وفيها يبرز كيف تم العثور في المكتبة الوطنية في باريس سنة 1975 على وثيقة تحمل اسم ( الأسرار) وتضم أعضاء لإحدى الجمعيات السرية (رهبانية سيون) ومنهم إسحاق نيوتن وفيكتور هوغو وليوناردو دافنشي عرفت بعلاقتها بمنظمة أخرى تدعى (طريق الرب الكاثوليكية) تقيم في مبنى في نيويورك أقامته بملايين الدولارات، انحرفت عن الخطاب المسيحي الكاثوليكي ليشكلا معا الوريث لأسرار فرقة المعبد تعكس ما سماه المؤلف بالصراع المرير داخل المسيحية وهي خصيصة من خصائص الديانات الوثنية.
منظمة (طريق الرب) في الرواية تعكس ذلك الصرع الداخلي المتناقض فهم قبل نومهم يجلدون ظهورهم إلى أن يسيل منها الدم إرضاء للرب، لكنهم يمارسون القتل الجماعي مثلهم مثل (سيلاس) أحد أشد الرهبان ورعا والساعي للحصول على سر القوة الأعظم في مقابل الفاتيكان ولو بالقتل وكل الممارسات السادية. تقنية الوصف كان لها وقعها في الرواية، فكانت سبيل المؤلف لجذب القارئ، لدقتها في استحضار خصوصيات معينة لكل من متحف اللوفر ولوحتي الموناليزا وعذراء الصخور لدافنشي، وكنيسة روزلين جنوب أدنبرة الأسكتلندية وكنيسة المعد في لندن وقبور مشاهير بريطانيا من كتاب وشعراء، كما هو الشأن مع إسحاق نيوتن، الذي اعتبره أحد العلماء الأشد حرصا على سر مقدس، مكتوب في ورقة بردية موجود داخل صندوق خشبي يوضع في سائل يفسده بمجرد التسرب إليه في حالتي السرقة أو الاغتصاب
الكأس المقدس والعشاء الأخير وأشياء أخرى
من بين ما تثيره الرواية رهبانية (سيون) وهي امتداد لما قلناه سابقا عن جمعية فرسان المعبد، التي أنشئت عام 1099 إبان الغزوات الصليبية الأولى لبيت المقدس؛ وتحضر هذه الجمعية في ذاكرة المسيحيين على أنها تضم، حسب مزاعمهم الكأس التي شرب منا المسيح عليه السلام في العشاء الأخير مع تلاميذه، وهو الكأس المقدس الذي استمدت منه الجمعية تأثيرها الكبير على الفاتيكان وحمايته لها لما يفوق عشرات السنين، وهو الطوق الذي كسره أحد الباباوات عام 1307، الذي دعا إلى قتل أصحابها لمخالفتهم تعاليم الكنيسة، بتعاطيهم للشذوذ وهو ما كان، بحيث تم ذبحهم وبالضبط في اليوم الذي صادف الثالث عشر من الشهر، ما جعل الأوروبيين يتخذون من الرقم 13 نذير شؤم.
الكأس تحولت إلى جمعية أخرى وهو ما ظل المسيحيون الأوروبيون يؤمنون به، في محاولة لاستردادها وهي الأيقونة التي جسدها دافنشي في إحدى لوحاته، وتحمل رمزية أخرى عند كاتب الرواية وهي أن الشخصية الأنثوية القريبة من المسيح لن تكون بطبيعة الحال غير مريم المجدلية إحدى أشهر حواريي المسيح. ذلك أن دافنشي يشير وبشكل رمزي إلى الصراع بين مريم المجدلية والحواريين، وكيف يشير المسيح بشكل غاضب بيده إليها وكأنه غير راغب في وراثتها الافتراضية له، فالكنيسة ذكورية بالدرجة الأولى، لذلك كان طبيعيا أن تناصبها العداء، بل إنها عمدت إلى الطعن في كرامتها كونها عاهرة.
هل تسعى هذه الرواية إلى كتابة تاريخ جديد للمسيحية، خصوصا عندما عمد المؤلف إلى نسبة مريم المجدلية إلى قبيلة يهودية من سلالة بنيامين شقيق نبي الله يوسف عليهما السلام، وهي الفكرة التي جسدتها كتابات جبران خليل جبران، الذي يعتقد أن المسيح عليه السلام يهودي من سلالة ديفيد الحامل الوحيد المعروف للدم الملكي الإسرائيلي بعد النبي سليمان.
فالمؤلف يخلص إلى زواج المسيح من مريم المجدلية، وأن سلالتهما مستمرة لا تحتاج إلا للحماية، كما فعلت جمعية فرسان المعبد، ومن بعدهم رهبانية (سيون) خوفا من أن يعرف الناس أن مريم المجدلية هي وارثة المسيح وليس القديس بطرس، وهو الصراع الذي تجسده إشاراته كما رمز إلى ذلك دافنشي في لوحته، ما يعني تآمر الكنيسة الكاثوليكية على سلالة السيد المسيح للقضاء عليها، وإلا لم نبشت عظام مريم المجدلية التي فرت سلالتها آنذاك إلى فرنسا هربا من الاضطهاد. لقد أعاد المؤلف الاعتبار إلى مريم المجدلية من خلال شخصية الرواية الرئيسية (صوفي) وللاسم دلالة رمزية تحيل على العقل والحكمة، فجدها هو القتيل وهو حارس السر المقدس، أي مكان الكأس المقدسة التي شرب منها السيد المسيح، والكاتب لا يحدد مكانه في نهاية الرواية وربما يوجد في مكان من أسكتلندا ولعل مقتل جد (صوفي) ووالديها في حادث سير مروري، لا يعكس إلا التخلص من تلك السلالة كحدث له رمزيته البالغة في الرواية.
بلاغة التداخل بين الوثني والعقائدي
المؤلف لم يخف مرجعيات الديانات الوثنية وحضورها في الديانة المسيحية، على الرغم من وجود صراع بينهما كطبيعة المسيح القائلة بتداخل اللاهوت والناسوت؛ ما جعل من شخصيته رغم طابعها الكاريزمي شخصية غامضة. المسألة الأخرى المشار إليها وهي غلبة الجانب الذكوري على الكنيسة في ما بعد وإلغاء دور المرأة فيه. وهو ما حاولت الكنيسة من خلاله محو آثار مريم المجدلية، بل إن في عهد قسطنطين الإمبراطور الوثني الذي اعتنق المسيحية بالقوة، أحرقت أكثر من ثمانين إنجيلا تكريسا لرؤية ذكورية محددة لا تعترف بشيء اسمه المرأة، وهو الموقف الذي سيتخذه لاحقا من إنجيل لوقا، الذي رفضت بعض الطوائف الاعتراف به لإشارته إلى النبي محمد، صلى الله عليه وسلم.
التداخل بين الوثني والعقائدي المشار إليه في الرواية يتحدد في تعويض الأعياد الوثنية إلى أعياد مسيحية، وهو الأمر الذي نجده في الإسلام مثلا من خلال تعويض الإسلام ليومين، بحيث كان الجاهليون يلعبون فيهما بعيدي الفطر والأضحى، لذلك جعل المسيحيون من يوم الأحد يوما للعطلة وهو ما يصادف يوم الشمس عند الوثنيين، والكاتب تعمد إرجاع تلك الديانات إلى أصلها الذكوري، على الضد من الوثنية القمرية المؤنثة التي كثيرا ما ربطت بين حركة القمر وخصوبة الأنثى، من خلال العلاقة بين حيض المرأة شهريا وحركة القمر.
يشار إلى أن اليهودية يتداخل فيها الوثني بالديني، فمعظم التقاليد اليهودية أخذت من البابليين؛ بما في ذلك عطلة يوم السبت الذي هو يوم راحة (عشتار) ويسمونه (بالسباتو) وفيه تعتزل المرأة أثناء العادة الشهرية كعادة دأب عليها اليهود إلى اليوم وهي عادة لا تخص اليهود فقط، بل تمتد إلى العديد من سكان التبت شرق آسيا، حيث البوذية وهي ديانة وثنية بامتياز.
رواية «شيفرة دافنشي» تعميق للنزوع نحو استعادة قراءة في اللاشعور المسيحي كانكشاف باهر حد السديم يعيد قراءة الذات المسيحية، من خلال الحضور الاستيهامي لشخصية السيد المسيح ودلالات الحضور السيميائي في صور حجبت لفترة من الزمن وهي تعلن عن قراءتها التأويلية في مرايا مختلفة، أليست كل القراءات ممكنة؟
كاتب من المغرب