اقتصاد

كيف دمر الاحتلال آخر سلة غذاء في غزة؟

كيف دمر الاحتلال آخر سلة غذاء في غزة؟

غزه/بهاء طباسي

غزة ـ  جرفت آليات جيش الاحتلال الإسرائيلي نحو، 60 في المئة من الأراضي الزراعية بقطاع غزة، ونحو 6 كيلو مترات مربعة من الدفيئات الزراعية في منطقة مصبح، شمال غربي مدينة رفح، وهي آخر أرض مزروعة بالخضراوات في قطاع غزة «آخر سلة غذاء» بعدما دمرت كامل البنية التحتية الزراعية على مدار حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال على كافة مناحي الحياة في غزة منذ 10 أشهر.

احتلال لا يرحم، يقتل الإنسان ويدمر الحجر ويحرق النبات، حسب شهود عيان من السكان والنازحين إلى منطقة الشاكوش، الذين أكدوا أن جيش الاحتلال لم يكتف بحرق المحاصيل الزراعية والمزارع بل استهدف النازحين فقتل وأصاب العشرات منهم وأحرق مزارع الدجاج، والتي كان بعضها يأوي أيضًا نازحين.
عبد الله الجعب كان نازحًا مع أسرته إلى مزرعة دجاج، وفي صباح يوم 28 تموز/يوليو الماضي، فوجئ بجيش الاحتلال يداهم مزارع المنطقة باستخدام الجرافات والدبابات الحربية، التي دهست الدفيئات الزراعية وأحرقتها بالكامل.
يقول لـ«القدس العربي»: «آليات الاحتلال الإسرائيلي حاصرت المنطقة وأطلقت النيران على النازحين وأصابت البعض منهم، واستشهد مزارعان كانا يعملان في مزرعتهما».

لحظات من الرعب

اختبأ النازح الأربعيني رفقة عائلته في مزرعة الدجاج مرعوبين من أصوات الرصاص والقذائف، وأخذ يدعو الله أن ينجيهم، ثم أجرى اتصالًا هاتفيًا بالصليب الأحمر: «كانت لحظات صعبة. كانت أصوات القصف قريبة جدًا منّا. سمعنا أصوات الأشجار وهي تحترق، وأصوات طقطقة أخشاب الأشجار تدهسها الجرافات، فاتصلت فورًا على الصليب الأحمر علّه يخرجنا من هنا».
كان الجعب يهاتف الصليب الأحمر وهو موقن أنهم لن يردوا عليه، ولكن لحسن حظه تلقى ردًا بعد محاولتين من الاتصال، وحينذاك كانت أصوات القصف قد هدأت، فأخبر متلهفًا عامل الصليب أنهم محاصرون في المنطقة «ربنا قدّر ولطف، لو لم تكن طواقم الصليب موجودة في المكان لكنّا متنا أو تعرضنا للأسر».
اصطحبت سيارات الصليب الأحمر عائلة الجعب ونازحين آخرين إلى مدينة خان يونس، وبينما هم في الطريق شاهدوا دمارًا أصاب مزارع المنطقة لم تصدقه عقولهم. يوضح الجعب: «عقلي توقف تمامًا في تلك اللحظة. كان الضرر والدمار شيئًا مخيفًا. مُسحت الزراعات عن بكرة أبيها. لم يبق شيء على حالته. أحرقوا كل المزارع والمنازل والبركسات».
يشعر الجعب بالحزن على حال السكان والنازحين الذين بقوا في المنطقة بعد مغادرة الصليب الأحمر: «كان جنود جيش الاحتلال يقتلون أو يأسرون كل من تقع عليه أعينهم. كل من بقوا في المكان بعدما أخلى الصليب المنطقة كانت الأمور صعبة كثيرًا بالنسبة لهم. حزنت كثيرًا عليهم».
يتعجب النازح الغزي من مداهمة قوات الاحتلال لمنطقة زراعات في أقصى الشمال الغربي والشرقي لمدينة رفح، كل سكانها من المزارعين المسالمين: «هذه المنطقة بالتحديد لا يوجد فيها أي مقاوم. ولا أي حد كان يضرب على الصهاينة نار. ولا واحد طخ طلقة. كلهم سكان مسالمين».

أشلاء مزارعين تحت جنازير الدبابات

وبعد انسحاب جيش الاحتلال من المنطقة الزراعية قبل أسابيع، دخلت طواقم الهلال الأحمر الفلسطيني إلى هناك، لانتشال جثث الشهداء وإنقاذ المصابين، وكانت الصدمة أنهم وجدوا بعض الجثث مقطعة إلى أشلاء بعد أن دهستها جنازير الدبابات، كان من ضمن الشهداء خمسة مزارعين من عائلة واحدة.
دينا السطري زوجة المزارع علاء الذي استشهد في نفس الحادثة، تبكي أمام جزء من جثمان والدها الثمانيني، وشقيقها يقبل قدمه الذي تبقى من جسده بعد أن دهسته دبابات الاحتلال.
كانت دينا رفقة عائلتها ونازحين آخرين داخل مزرعة قبل أن تحاصرهم من كافة الجوانب، وحينذاك اضطرت العائلة للاختباء داخل إحدى المباني، ليتعرضوا لقصف من الدبابات.
سقط الكثير من المصابين بين الأسر التي كانت متحصنة داخل المبنى، وفقًا للنازحة الأربعينية خلال حديثها لـ«القدس العربي» والتي هربت رفقة بعض أفراد عائلتها بين الأراضي الزراعية، فيما بقي 5 أشخاص من العائلة بينهم كبار في السن لم يتمكنوا من الخروج، وهم والدها جمال وعمها أسامة وجدها وزوجها وشقيقه.
وبعد انسحاب جيش الاحتلال من المنطقة، عادت دينا مع أشقائها، للبحث عن والدها وبقية أفراد العائلة، لتجد أجزاءً صغيرة هي ما تبقى من أجسادهم بعد تعرضهم للتعذيب والدهس من قبل الدبابات الإسرائيلية.
لملمت دينا أشلاء والدها وجدها، ووجدت عمها أسامة ميتًا وهو مكبل اليدين وجسده أزرق من شدة التعذيب، فيما تصف إحساسها في ذلك التوقيت: «الشعور صعب. لقد سحقت الآليات جسد أبي بشكل كامل. وسحقت نصف جسد جدي. وعذب جنود الاحتلال عمي حتى الموت».
لم تكن دينا تتوقع أن يعذب الاحتلال أبيها وأقاربها قبل أن يقتلهم: «جيش الاحتلال لم يحترم الميت فينا. كبلوهم وعذبوهم وفرموهم تحت جنازير الدبابات. لم أجد من جثة أبي سوى بعض الأطراف».
وكان محمد أخ دينا الأصغر يتمنى أن يرى أبيه ويودعه قبل أن يدفنه، لكنه لم يجد من جثة أبيه سوى قدمه، فأخذ يقبلها: «أشعر بالصدمة. حاولت حمل جثة أبي لكنني اصطدمت بأشلاء فقط».
فقد الشاب ياسر أجحيش والده أسامة في جريمة الحرب تلك، إذ تواصل معه ليلة الحادث، وكان يشعر أن شيئًا ما قد يصيبه، يوضح الشاب: «بعد ساعتين من المكالمة الهاتفية، أبلغني أخي أنهم محاصرون في منطقة مصبح وجميعهم مصابون. استُشهد والدي وجدي وأبناء عمي وأبناء عائلتي. كل هؤلاء شهداء. نحن لسنا أرقامًا. من حقنا العيش بأمان وحرية».
يبدي ياسر دهشته من حصار آليات الاحتلال مدنيين عُزل في منطقة زراعية وقتلهم: «بأي حق وضمير يُحاصَرون بالآليات الإسرائيلية ويتم قتلهم، ذهبت للصليب الأحمر لإجراء تنسيق لإخراجهم وتخليصهم من الحصار وهم مصابون والصليب أبلغنا بعدم وجود تنسيق للتحرك من أجل إنقاذهم».
ويتابع لـ«القدس العربي»: «نحن أصحاب حق وحرية ودولة تحت احتلال، ومن حقنا العيش مثل أي دولة. ماذا سيفعل الأطفال من مواليد الحرب والمصابون يموتون على أسرتهم والحياة التعليمية للأطفال توقفت؟».

بقايا الطماطم طعام النازحين الجائعين

كثير من النازحين لم يستطيعوا الخروج من منطقة مصبح ومنطقة المواصي غرب مدينة رفح حتى بعد انسحاب جيش الاحتلال منها، خاصة أن بعضهم لا يملك المال الكافي لرحلة نزوح جديدة، فيما لم يستطع البعض الآخر توفير وسيلة انتقال لمغادرة المنطقة النائية.
ورصدت «القدس العربي» بعض النازحين يأكلون الطماطم من بقايا الأراضي الزراعية المُدمرة، ويطلبون من أصحابها أن يسامحوهم، بعد أن أصبحوا عابري سبيل بلا طعام أو حتى مالٍ لشراء الأكل.
طلب محمد التُرك، وهو يلتهم ثمرة الطماطم، من صاحب إحدى المزارع أن يسامحه، ويقول «نريد أن نأكل، نريد أن نعيش، سامحنا يا عمي، لا نريد ان نسرق يا عمي. نريد أن نأكل ونعيش. الله يعوضك يا عمي عن الذي فقدته».
يعرب النازح الثلاثيني عن حزنه لما أصاب المزارع والمحاصيل في منطقة الشاكوش: «أصبحت دمارا في دمار، حزين أن صاحبها فقد مصدر دخله اللي كان يعيش ويترزق منه. وأتمنى منه أن يسامحني، أنا لست سارقا، لكن إن لم أكل سأموت من الجوع».
ومثل التُرك كان علي الأدهم يبحث عن ثمار بندورة صالحة للأكل في أرض زراعية خربة: «أنا واحد من كثير لا نجد ما نأكله ونشربه، لكن الحمد لله وجدت هنا المنطقة مقصوفة بها أرض زراعية. أنا وغيري نأخذ الطماطم المتبقية».
يحكي الأدهم ما شاهده يوم في 28 تموز/يوليو الماضي، عندما داهمت آليات جيش الاحتلال الأراضي الزراعية وخيام النازحين: «كان هنا نازحون كثر، منهم من مدينة خان يونس ومن مدينة رفح ومن كل المناطق، المنطقة هذه تعتبر آمنة، فجأة صار إطلاق نار. تحول بسببه مواطنون لأشلاء».
النازح الخمسيني يؤكد أنه حتى كتابة هذه السطور هناك أشخاص ميتون عند منطقة الدفيئات الزراعية، لم تنجح طواقم الإسعاف في الوصول إليهم: «حتى الآن هناك شهداء وكثير من المزارعين تضرروا. في كل مكان صار فيه ضرر».
ويشير المزارع علي ضهير إلى أن منطقة مصبح تضم واحدة من أجود الأراضي الزراعية في قطاع غزة، مبديًا دهشته من استهداف كل شيء في القطاع حتى الزراعات.
ويقول «الاحتلال دمر البلد كلها حتى النباتات. كانت هذه المنطقة الزراعية جميلة، والأرض تأتي بمنتوج وفير، ومزارعو المنطقة لم يقصروا في زراعتها ورعايتها بكل السبل، لكن الاحتلال جرفها كلها».
يطالب المواطن الغزي المجتمع الدولي بالتدخل للضغط على الاحتلال ومنعه عن استهداف المستشفيات والمدارس والأراضي الزراعية: «هذه ليست ساحات للقتل، هذه مناطق آمنة فيها مدنيون. الاحتلال لا يرحم، يقتل الإنسان ويدمر الحجر ويحرق النبات، هذا المكان نزرع فيه الخضروات بجميع أنواعها لكي يعيش أهالي القطاع».

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب