«لعبة مصائر» رواية العُماني هلال البادي: مرايا السرد والنهايات المتشابهة والمتباينة
«لعبة مصائر» رواية العُماني هلال البادي: مرايا السرد والنهايات المتشابهة والمتباينة
عادل ضرغام
في رواية «لعبة مصائر» للروائي العماني هلال البادي، هناك خطاب منفتح على الفرد العادي، وعلى المجموع، وعلى الوطن بوصفه مكانا له خصوصية، فيه إشارة لتحولات من شكل بدائي للحياة إلى شكل أو أشكال متعددة خارجة ومنبثقة من هذا الشكل البدائي الذي يشد الجميع في لحظات محددة، ويوقف حركتهم. وفي مراقبة وتأمل هذه الأنماط أو الأصناف لا يستطيع القارئ أن يلمّ بوجهة نظر نهائية ترتبط بهذه التحولات أو المتغيرات، لأن هذه الأنماط التي انتهى النص الروائي في مراقبتها ممثلة في الشخصيات وردود أفعالها، لم تصل إلى نهاية مختلفة، بل ظلّت عالقة دائرة في مدار من التشويش والنقصان، فالماضي حاضر بقوة وحركات التحوّل والتحديث تبدو شكلية زائفة، وخالية من المعنى، في فقدان الاتصال والحميمية بين البشر، فالبشر في ظل عملية التحديث لم يعودوا مرتاحين في دعتهم السابقة.
الرواية في منطلقها تقدم سيرة للأفراد في مصائرها الذاتية، وسيرة أيضا للمكان، ولا تتحرّك الشخصيات نحو متخيلها بشكل سلس، فدائما هناك الحدث الذي يهشم هذا المتخيل، أو يصبح الوصول إليه في موعد مختلف وغير مناسب، وهناك إحساس عام بأن حركة المكان نحو فعل التحديث والتغيير محل شد وجذب، وشك ويقين، فطبيعة الوجود تفرض نفسها في مصائر الشخصيات وحركتها. ففي هذه الرواية لا تنفصل إشكالية الشخصيات عن طبيعة المكان. الشخصيات تعاني نوعا من الانفصام الذي يفضي إلى التعدد، أو على الأقل إلى وجود شخصيات موازية للشخصيات التي تتحرّك، لها ردّ فعل مغاير، وتلق يباين الشخصيات الواقعية المتحركة، ولهذا يشعر القارئ بصعوبة في تلقي العمل، وتخليص الواقعي من الخيالي الموازي.
هذه الرواية فعل من أفعال الكشف، كشف التناقضات، وتعرية المجتمع المثالي الراغب في التحديث، والتحوّل من البداوة والتقاليد والماضي، لتضعنا في مواجهة العري، عري الذات الفردية أمام مرآتها، وعري الذات الجمعية في مساءلة نسق العلاقات في ظل التحوّل نحو الحداثة، حيث يبدو كل فرد – وكذلك المجموع – متحركا إلى الأمام، إلا أنه في الحقيقة يتوجه نحو الخلف، لأنه مشدود بخيوط داخلية دامغة، تجعل الأكثر تحررا أكثر تقليدية في لحظات فاصلة.
بنية الرواية والنهايات المتشابهة والمتباينة
في الرواية بداية من الاستهلال الذي يعدّ مقدمة لنص الحكاية أو الرواية، يجد القارئ نفسه أمام انقسامات ذاتية فالمؤلف منقسم على ذاته من خلال الرسالة التي يرسلها من البريد المزيّف إلى نفسه، وهي رسالة تحمل النص الروائي الذي يبدأ بعد الاستهلال، في قراءة متأنية لمجموعة من الشخصيات المتداخلة داخل الحيز الروائي. هناك أشياء بالضرورة سبّبت هذا الانقسام، منها الرتابة وآلية الحياة والروتين. فالبشر لا ينتبهون للحياة إلا من خلال حدث يهشّم هذه الآلية والسكون والهدوء، وقد تجلى ذلك في الاستهلال، وفي النص الروائي في أجزاء عديدة، منها موت (شوين) شقيق (وداد)، ومنها موت والدي وداد نفسها أثناء عملهما في مدينة العين.
بعد هذا الحضور المنقسم للمؤلف في الاستهلال، سيغيب بوصفه شخصية حاضرة في النص الروائي، ويترك المهمة لراوي الغياب في كل جزئيات النص الروائي، ولا يطل بوصفه شخصية (دون اسم) داخل الحيّز الروائي إلا في الجزء الخاص (بطلال)، فيتم تقديم سرد الجزء الخاص بطلال عن طريق ضمير الغياب، ويطلّ المؤلف بوصفه شخصية في جزئين من خلال ضمير المتكلّم. وهي – أي التحوّل من الغياب للتكلّم – لعبة سردية لها دلالتها في الإيحاء والتقييم والبحث عن الموضوعية في تأمل الذات، مما يؤسس لإشكالية الحقيقي والخيالي في النص الروائي.
يكشف النص الروائي بالتدريج، ومن خلال مفارقات زمنية سردية عن أنماط ثلاثة، في تلقي ومقاربة العالم أو الوجود، النمط الأول يتجلى من خلال شخصيات عديدة مثل شخصية (أبو طلال) الذي يبدو أكثر الشخصيات كاشفة عن طبيعة التقاليد التي تتمثل في كود النمط والأخلاق المرتبطة بمجتمع معين، تجلى ذلك النموذج في طبيعة التعامل مع القسيم النسوي، سواء أكان امرأة ناضجة أو طفلة، فهذا النموذج يصنع سلطته من القهر العام القائم على تغييب وجود الآخر، وتغييب وجهة نظره واستقلاله، استجابة لنمط موروث، يحاول تحقيقه والحفاظ عليه، وهو نموذج يكتسب صفة التقديس، ولا يقبل المناقشة لآراء الآخرين.
يتجاوب مع هذا النموذج أو النمط مجموعة من التجليات المساعدة، أو الأسباب التي تكفل له وجوده واستمراره، منها الخطاب الديني الذي يتشكّل فيما يقوله (أبو عبدالله) إمام المسجد، حيث ينصت إليه (أبو طلال) بمفرده دون الحضور، ويطبق ما يقوله بشراسة. وتؤسس لهذا النمط في السياق ذاته وجود استمرارية لصورة المرأة (الملاك) في نمط زوجته الأولى (أم طلال)، حيث أبرق النص الروائي إلى ذكر بعضهن من جارات وداد في مسقط.
يتشكل النمط الثاني شدّا وجذبا مع حارس النمط الأول، وصاحب الفاعلية الأكبر في استمراره وبقائه. فمن خلال النزاع بين طلال وأبيه بدأت ملامح هذا النمط في أخذ شكلها المفارق، وكذلك في الخلاف بين وداد وخالها في أمر تزويجها ممن اختاره أثناء دراستها الجامعية دون مناقشة أو انتباه لرأيها أو وجهة نظرها. فهذا النزاع الثنائي يأتي فاعلا في تشكيل نمط جديد في مقاربة الحياة والعالم. فطلال الموجّه توجيها خاصا من بداية السرد، يأتي بوصفه نموذجا كاشفا عن التحوّل عن نسق التقاليد المؤسسة، ومن مساحة الأعراف وسطوة النمط الممثل في الأب، يتجلى ذلك في معاينة الإشارات التوجيهية المشكلة للنمط بطريقة تدريجية بداية من تأجير الروايات إلى آخر الأعمال الخارجة عن النمط المقبول.
يتبقى نمط أخير، يظهر موزّعا بين القديم والجديد في آن، دون حسم نهائي لحركته وتوجهه. (فشوين) شقيق (وداد) يأتي رمزا لكل هؤلاء الموزّعين بين نمطين للحياة، النمط التقليدي الموروث، والنسق المنفتح على حركة الحداثة، فأصحاب هذا النمط لم يستطيعوا التخلص من القديم، وفي الآن ذاته لا يستطيعون القبول بشكل نهائي بهذا السيل الجارف الخاص بحركة الحداثة الشكلية على مستوى العلاقات أو على مستوى الأبنية في التحوّل التدريجي لشكل يلتهم مساحات البداوة والنمط القروي. وقد أشارت وداد إلى خوفها وتوزّعها – بالرغم من وقوفه ضد خاله في أزمتها- في إخباره بعلاقتها بصالح، ففي منطقها أن بداخله نموذجا جاهزا لخاله.
مرايا السرد: الشخصية وصورتها
بمكن القول أن بنية الرواية بألاعيبها السردية من جزئية الاستهلال إلى الفصل الأخير وثيقة الصلة بالهدف الأساسي من الكتابة السردية وإطاراتها المعرفية، فالهدف قائم في الأساس على المراجعة وإعادة النظر، للوصول رؤية نقدية لمجمل البثور والنتوءات الموجودة بالجسد الفردي أو الجسد الجمعي، ولهذا نجد الرواية من خلال بنيتها السردية تنتهج نهجا كشفيا، فيه من التعرية الكثير، لإحداث نوع من المواجهة الذاتية.
كان لمثل هذه الآلية أو اللعبة السردية أن تكون عادية، خاصة أنها دائمة الحضور في روايات سابقة، ولكن الذي يجعل القارئ يشعر أن بها نوعا من الجدة هو حضور المؤلف بوصفه شخصية موازية دون اسم في جزئيتين من الفصل الخاص بشخصية (طلال) مستخدما ضمير المتكلم في إطار سردي مباين عن الجزئيات الأخرى التي يستخدم فيها ضمير الغياب، للاقتراب من الشخصية ذاتها. وفي ظل ذلك الفهم ستظل جزئية الاستهلال دالة في إسدال مساحة من التشابه بين طلال والمؤلف من جهة، وبين المؤلف والشخصية الطيف التي تتحمل عبء السرد من خلال ضمير المتكلم.
قيمة الحضور بين المؤلف والشخصية أو تماهيه معها، تتمثل في إحداث حالة من الالتباس والتداخل بين الواقعي والخيالي، بوصف ذلك وظيفة أولى لذلك الحضور، فالقارئ- منطقيا لأنه أمام نص متخيل- لن يستطيع أن يحسم أيهما يمثل الواقعي، وأيهما يمثل الخيالي. ولكن القيمة الأساسية لهذا الحضور تتمثل في مراجعة التعبيرية الخاصة بخطاب التكلّم من خلال عرضها بشكل جدلي في مقابل الغياب الموضوعي. فالتعبيرية الخاصة بالفرد تستدعي- نظرا لطبيعة الانحياز الذاتي- تأملا موضوعيا، تقول الرواية على لسان الراوي/ الكاتب/ المتكلّم: (ما كنت ألحظ ذلك التغيير، كنت ذائبا في ذات منفصلة، وأظن أن الآخرين حولي، ما كانوا ليلحظوا أي رياح باردة مرت على المكان، لم يكونوا ليروا وجوههم في المرآة فيسألوا إن كانوا يعرفون الأشخاص في المرآة).
وإذا كانت قيمة كلمة المثقف والمحافظة على حريته ودوره هي أساس التماهي بين المؤلف والشخصية الخيالية طلال، خاصة إذا كانت هناك إشارات إلى أن المؤلف تعرض لمساءلة نتيجة لنشره رواية سابقة، فإن التماهي الأخير في نص الرواية بين وداد وأمل يدور حول الحرية، لكنها حرية من نوع خاص، فإطار الحرية هنا إطار فكري خاص بالنسوية، وبما حققته بعد كل هذه المراحل والسنوات السابقة التي مرّت بها. فالرواية من خلا هاتين الشخصيتين تضع حركة النسوية العربية عامة، والعمانية خاصة داخل إطار المساءلة والمراجعة، أو داخل إطار المرآة.
فالرواية تقول في الجزئيات الأولى في سردها عن أمل (تدرك أن حلمها مشابه إلى حد كبير لحلم وداد. وعندما تنظر إليها تتراءى صورتها هي لا صورة وداد)، وفي جزئية أخرى تقول الرواية عنهما (بدتا متشابهتين، أمل ووداد مغلّفتان بالصمت والغموض). وهناك جزئيات أخرى مرتبطة باللغة والأسلبة اللغوية، مما يكشف عن جدارة التلقي ومشروعيته، فتكرار لفظ المرآة في سرد الرواية عن وداد (إلا أنك يا وداد سقطت في الضعف والعجز، ما أوقعك سوى ذاتك نفسك التي في المرآة)، وفي سرد أمل عن نفسها تقول (هل نظر أحدكم إلى نفسه في المرآة، هل تعرّف إلى نفسه الراغبة فيّ الآن؟). بالإضافة إلى وصف (البئر) الذي تكرر في حكاية كل واحدة منهما للإفصاح عن الوقوع في الحب.
وتتجلى النصاعة الزائفة بين سلوك الشخصيات في اختلافه بين الداخل والخارج على نحو ما يمكن أن نرى في رحلة عزيزة ورفيقاتها إلى مصر. فما تقدمه الشخصيات في كل قسيم من القسيمين المتماهيين والمتحدين والمختلفين في الآن ذاته، بسبب زحزحة الخيالي عن الواقعي، أقرب إلى الوجه وصورته في المرآة، فصورة كل وجه لا تنفصل عنه، فهناك تشابهات وتباينات مشدودة للمراجعة والمراقبة، ولمساءلة المتحقق والمتأبي عن التحقيق.
هلال البادي: «لعبة مصائر»
الانتشار العربي، الشارقة 2024
365 صفحة.