ثقافة وفنون

الثورة… التاريخ وأزمة المفهوم

الثورة… التاريخ وأزمة المفهوم

علي حسن الفواز

يظل موضوع «الثورات» من أكثر القضايا إثارة للجدل، والاختلاف، فبقدر ما يحمله مفهوم الثورة من دلالة، فإنه يعكس خطورة المدى الذي يجعله مثار خلاف، على مستوى الصورة الذهنية الجاذبة، أو على مستوى التغيّر الفارق الذي يُحدثه، لاسيما وأن تاريخ تلك الثورات حافل بكثير من الحمولات الرمزية، والفواجع والمفارقات، حدّ أن بعض المؤرخين وصف التاريخ بأنه سلسلة طويلة من الثورات الدامية، التي صنعت مصائر الأمم، وأسهمت في صياغة مظاهر الصراع والاصطفاف الطبقي والهويات والأنماط الحاكمة..
ثمة من يجد في حديث الثورة حديثا إشكاليا في شرعنة العنف، وفي تفجير الصراع الاجتماعي، وثمة من يجد فيها ضرورة لإحداث التغيير في مجتمعات، أو دول تكدّس فيها الخراب والظلم والاستبداد والفساد، حتى باتت الثورة حاجة ملحة، أو أفقا دافعا للمغايرة، ولأسباب متعددة، يتحول فيها «المدّ الثوري» إلى خيار من الصعب السيطرة عليه، وأن ما يحدث جرّاءها سيدفع بالأمور إلى مستويات عالية من العنف، وأحسب أن حديث «الثورة الفرنسية» رغم شعاراتها البراقة ما زال ساخنا، وعالقا بتاريخ العنف الذي رافقها، وكذلك ما رافق الثورات الإنكليزية والأمريكية والروسية من عنفٍ دام، جعلنا نستعيد معها الحديث عما حدث خلال ثورة 14 تموز/يوليو 1958 في العراق، وخلال الانقلاب الدامي عام 1963.
من الصعب جدا الاتفاق على ترسيم تداولي لمفهوم الثورة، وللتعرّف على ظروفها وأسبابها، والتعاطي مع المصطلحات التي تقترن بسيرورتها، التي أفقدها الواقع الكثير من الدقة والموضوعية، لاسيما في ما يتعلّق بثورات العالم الثالث، لأن ما تخللها من أحداث دامية جعلها ضبابية، وأن غلو العنف فيها أفقدها طابعها الإنساني، فضلا عن أن أغلب هذه الثورات قادت إلى صناعة مظاهر ضاغطة لـ»الحكم الديكتاتوري» وتشكيل جماعات مسلحة وأيديولوجية راديكالية، اندفعت إلى تبنّي خطابٍ يقوم على سايكولوجيا العنف الثوري، الذي دفع للتحريض على الحديث عما يسمّى بـ»الثورة المضادة».
يحتاج إطلاق تسمية الثورة، إلى تسويغ تاريخي، وعلمي، ومراعاة للظروف والأسباب التي تدعو إلى تفجّرها، بوصفها دعوة لازمة للتغيير، حتى إن كان عن طريق العنف، وتحويل القطيعة التاريخية إلى صراع أهلي مفتوح، وهذا ما يُعطي الانطباع بعدم وجود «ثورة قياسية» وشروط موضوعية تُحدد آليتها ومسارها، فضلا عن عدم وجود توصيف مُحدد لـ»الثوار» الذين يتحول التمرد والاحتجاج لديهم إلى نسق يتمثله استيهام الثورة، بوصفها تمفصلا تاريخيا، قد يجرّ وراءه «تاريخات» أخرى، لم يُحددها علم الاجتماع في اشتغالاته المتعددة، لاسيما وأن كثيرا من توصيفات الثورة، لها ليست بعيدة عن المرجعيات الأيديولوجية، والاجتماعية، التي تدخل في إطار تمثيلها لحركات المقاومة الشعبية، وللمزاج الشعبوي، وحتى لدور النخب الثقافية الباحثة عن التغيير، لكن اخطر ما يواجه تداولية مفهوم الثورة، هو العنف، بوصفه رهانا ميدانيا على السيطرة، وعلى شرعنة القوى الثائرة في إحداث التغيير، وفي تقويض النظام القديم، فيتحول هذا العنف إلى نوع من القتل العمومي، والقهر الأيديولوجي، ولعل ما حدث في كمبوديا خلال سيطرة الخمير الحمر، دليل على ارتباط هذا القتل العام بمفهوم «العنف الثوري» والحرب ضد البورجوازية الطبقية.

تيدا سكوكبول والثورة الاجتماعية

لم تشأ دراسات علم الاجتماع مفارقة حديث الثورات، إلا على أساس ما تُحدثه من تغيّر صادم في الاجتماع السياسي والاقتصادي والطبقي، وفي صياغة عقد اجتماعي جديد، يقوم على خيارات تفرضها «سلطة الثورة» التي غالبا ما تكون بمرجعيات عسكرية، أو من جماعات تعاني من عقدة «الثأر الطبقي» الذي يقود إلى تسويغ العنف والتنازع، وإلى ما يشبه «الطرد الأنثروبولوجي». معالجة تيدا سكوكبول لما هو اجتماعي في الثورات تكشف عن علاقتها بالحاجة إلى ربط الثورة بالتحوّل الاجتماعي، وإلى معرفة اختمار العوامل التاريخية التي تستدعي حدوثها، لأن التغيير الذي تُحدثه يعني هدما للأبنية الرمزية للدولة، ولمؤسساتها ونُظمها القديمة، والعمل على خلق جمهور جديد يؤمن بشعارات الثورة، ويقبل بعنفها الاجتماعي والطبقي، لكن حديثها عن «ثورات بيض» يظل غير دقيق، ليس لأن ذاكرة الثورات غامرة بالعنف، بل لأن مشاركة ما تسميه بـ»الجماهير العريضة» يفتح شهية الإزاحة والطرد، وأحيانا القتل العنيف، كما حدث بعد الثورة الفرنسية، ومع الثورة الروسية، وثورة 14 يوليو في العراق، ومع الثورة الشعبية في رومانيا.. يقول جون فوران الاستاذ في جامعة هارفرد، «هناك ما يقل عن تسع وثلاثين حركة اجتماعية تحولت ثورات سياسية غيّرت نظم الحكم في كثير من الدول، خاصة دول العالم الثالث».

هذا التوصيف يحمل معه دلالة علاقة الأيديولوجيا بالثورة، وبعنفها، فمرجعيات أغلب هذه الحركات تؤمن أيديولوجيا بالعنف الثوري، مثل الثورة في كوبا والثورة في نيكاراغوا، لذا كانت ثوراتها، رغم رومانسيتها ورمزيتها، تتسم بمظاهر للعنف الثوري، تركت آثارا خطيرة في مجتمعاتها، لأن التغيير السياسي/ الثوري في مثل هذه الدول، يرتبط بطبيعة الديكتاتوريات العائلية والإقطاعية التي كانت تحكمها، وبحماية الاستعمارات الغربية، مثلما أن مجتمعاتها كانت تعاني من الرثاثات التنموية والثقافية والتعليمية، التي جعلتها محكومة برمزيات قبلية وسياسية و»ميتافيزيقية» وبهذا فإن العنف الثوري يتحوّل في هذا السياق إلى عنف مقدّس، وإلى ردِّ فعل على تاريخ طويل من الاستعباد والتزييف. ما قدمته سكوكيول من أطروحات حول «الدولة» وحول أنموذجها الأنكلوأمريكي يتعارض مع أنموذج الدولة في العالم الثالث، التي ظلت تعاني من إخفاقات متوالية، ومن ثورات عنيفة ذات طابع عسكري كما حدث في تركيا والبرازيل وبيرو وتشيلي وغيرها، حيث أضحت الدولة تعاني مأزقا وجوديا، وتشوهات عديدة، وخللا في توصيفها السيادي والدستوري، وفي قدرتها على القيام بإصلاحات حقيقية ووضع أسس اجتماعية للعدالة والحقوق والحريات.
حديث «الثورات الشعبية» وحتى الانقلابات العسكرية ليس بريئا، إذ لا يوجد «تاريخ صفري» للثورة، فالمصالح والصراع الدولي واصطفاف القوى والشركات العابرة للقارات، وأجهزة المخابرات الدولية وتدخلات «صندوق النقد الدولي» لعبت دورا كبيرا في توقيتات بعض هذه الثورات، وفي التحريض على إحداث العنف الدامي، ولعل الذاكرة تحفظ كثيرا من صور الانقلابات العسكرية العنيفة في افريقيا وأمريكا الجنوبية وحتى في بعض دول آسيا، ما جعل الدول الناشئة بعد تلك الانقلابات، تعيش هواجس الفشل، فتعمد إلى مزيد من العنف، مثلما تكون أمام تحديات تخص استقلاليتها وهويتها، وتخص سياساتها العامة وبناء الاقتصادات المُنتجة وعلاقتها بما يسمى بـ»المجتمع الدولي».

الربيع العربي والوعي الزائف

كشف تاريخ «ثورات» الربيع العربي عن كثير من «المخزون العنفي» ومن المقموع الأيديولوجي، مثلما كشفت عن المخفي في طبيعة الأنظمة السياسية التي خرجت أيضا من معطف الثورات التقليدية، أو من معطف «حركات التحرير الثوري» التي أفرزت مظاهر شعبوية للبطولات الرمزية لقادة أو «أبطال شعبيين» سرعان ما تحولوا إلى طغاة وديكتاتوريين. تعقيدات هذه الثورات، وطبيعة تحولاتها الغامضة كشفت عن الخلط المفاهيمي للثورة، ولهوية القوى الفاعلة فيها، التي جعلت من «الأيديولوجيا الضد» والولاءات الهجينة مستفزة على الانخراط في ممارسة التقويض لمركزية الدولة والعمران الثقافي، فرغم أن أغلب الأنظمة السياسية الجمهورية، كانت ترفع شعارات زائفة للعلمانية، إلا أنها في الجوهر كانت أنظمة مغلقة على ممارسات وأجهزة قمعية، ومؤسسات عسكرية ونظام اقتصادي يتوزع بين الريعية والتبعية، مع تشوه فاضح في مواقفها إزاء قيم الحريات والحقوق والتنوع الثقافي والإثني، ما جعل الحديث عن «موضوعية الثورة» أمراً إشكاليا، ومثيرا للجدل، فما حدث بعد أحداث الثورة التونسية، والثورة المصرية، وضعت تلك الموضوعية أمام توصيف غامض، ووضع «الحراك الأهلي» أمام تحديات كبيرة، وتعقيدات أسهمت في بروز «التيارات السلفية» تحت يافطة الحاجة إلى الإنقاذ والتطهير، والعودة إلى أثر السلف الصالح.. خواء «الثورات العربية» وبالتالي فشلها، كشف عن عجزها، وعن خطورة ما تعانيه من خواء أيديولوجي تورطت في شعاراته، وفي الترويج لرمزياته «السلفية» التي بدت واضحة، وسريعة الظهور، لاسيما من خلال الانتشار الغرائبي في وسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في الفضائيات التي تحولت إلى منابر للجماعات السلفية، التي كانت تُبشر بالويل والثبور للعلمانيين والشيوعيين والليبراليين ولأصحاب العقائد الأخرى..
بعد مرور أكثر من ثلاثة عشر عاما على انطلاق هذه الثورات ثمة ضرورة للمراجعة، في ظل نظام عالمي بات أكثر تعقيدا، وفي ظل صراعات وتحديات خطيرة في شرقنا الأوسط، لاسيما بعد العدوان الصهيوني على غزة، ودخول المنطقة إلى حافة الحرب، وتغوّل أدلجة التمركز الغربي- الأمريكي مع الحرب الروسية الأوكرانية، الذي ما زال يُلقي ظلاله على معطيات الواقع، وعلى المتغيرات السياسية، وحتى على «ذاكرة الثورات» التي انسحبت إلى الوراء، وتركت آثارها عبر التشظي الذي ما زالت تعاني منه دول عاشت مخاضاتها كما في ليبيا وسوريا واليمن وتونس. مراجعة ذاكرة الثورات، تتطلب مراجعة نقدية لـ»العقل الغربي» ذاته، بوصفه عقلا مركزيا، منحازا، له أهدافه الاستشراقية المتعالية، وبالاتجاه الذي يدفع إلى مواجهة افتراضية مع توجهات لنوع من «الاستعمار» الجيوسياسي، وإلى نقد مشروعه السياسي والأمني والثقافي، حتى يبدو الأمر وكأننا أمام «استشراق جديد» و»هيمنة جديدة» كالتي تحدث عنها حميد دباشي في نقده لـ»التفكير الأوروبي» وعلى نحوٍ يُعيد إلى الواجهة حديث «الثورة الثقافية» التي تجعل من «المثقف غير الغربي» أمام استحقاقات المواجهة، وإعادة النظر بتصوراته عن الثورات، وعن أهلية القوى الاجتماعية والنخب الثقافية للانخراط فيها، ليس بحثا عن «ثورة اخلاقية» غير واقعية، بل عن حراك ثقافي له قاموسه وخياراته، وله أسئلته في التعاطي مع التمثلات المفاهيمية للدولة والثورة، والأمة والجماعة والحرية والديمقراطية، وله وعيه الثوري/ التظاهري، الذي نجح إلى حدٍ كبير في وضع الدولة أمام تحديات من الصعب جدا تجاوزها والتغافل عنها.

كاتب عراقي

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب