تحقيقات وتقارير

حوار مع د. ناهد حبيب الله | قدس فلسطينية واحدة في مواجهة الرواية الصهيونية

حوار مع د. ناهد حبيب الله | قدس فلسطينية واحدة في مواجهة الرواية الصهيونية

“انظر إلى غربي القدس في اللحظة التي حصلت فيها نكبة 48 وكيف جرى الاستيلاء بعدها على الموروثات الفلسطينية الكائنة فيها، وتسويغ ذلك وكأنه حق أخذوه من الشرعية الإلهية، علما إننا إذا أردنا الحديث عن شرعية دينية فإنها موجودة…”

يشكل رفض الغرب إعادة تقييم قبوله الأعمى للرواية التي تطرحها إسرائيل وعدم الإصغاء لرواية الفلسطينيين أحد عاملين تسوقهما ناهد حبيب الله على لسان إدوارد سعيد يحولان دون السماح للفلسطينيين في رواية تاريخهم، يرتبط الثاني بإخفاق الفلسطينيين في سرد روايتهم من خلال خطاب سرديتهم بترابط مكوناته وتماسكها وانتظامها.

وترى حبيب الله في دراسة بعنوان “قدس فلسطينية واحدة – رواية وطنية في طور التشكل” كانت قد نشرت في دورية “قضايا إسرائيلية”، في الرواية التي تتناول مدينة القدس مثال حي في هذا الصدد.

حيث صاغ المشروع الإسرائيلي الصهيوني رواية عن القدس ترجع إلى ما يربو على 4,000 سنة، على نقيض الرواية الفلسطينية التي تنحصر في فترة قصيرة من تاريخ مدينة القدس الفلسطينية تسستهل مع الأحداث التي وقعت في العام 1967.

وتشكل القدس، بما تتبوأه من مكانة محورية في الديانة اليهودية، مكونا أساسيًا في تشكيل الخرافة القومية، التي تقوم دولة إسرائيل الحديثة عليها. فقد وجد المشروع الاستعماري الذي تتعهده إسرائيل ما يضفي صفة المشروعية عليه في تشكيل رواية تخفي سمته الاستعمارية وتعمي عليه من خلال الادعاءات التي يسوق أصلانيته فيها.

وتولد هذه الرواية، برأي الباحثة، انطباعا يوحي بوجود رابطة لم تنقطع بين الشعب اليهودي القديم الذي سكن أرض كنعان في ماضيه الغابر والمشروع الاستعماري الصهيوني الذي قام في زمننا العاصر.

وتدعي الدراسة إن عملية شرعنة المشروع القومي اليهودي كانت تعني، منذ انطلاقه، أن الديانة اليهودية بوصفها رواية دينية كان لا بد من تضمينها في مخيالات الأمة وغرسها فيها. وفضلا عن ذلك، فقد استأثر هذا المشروع بالسلطة السامية التي يملكها الرب ودمجها في العالم الدنيوي لادعاء بأن الرب “منح” القدس لشعبه المختار.

وتشير إلى أن الصهيونية كانت على وعي بالحاجة إلى تشكيل خطاب سردي يتناول الأمة “الحديثة” ويتضمن بين طياته القيم الدينية والخرافات القبلية من أجل إثبات صحة رواية يهودية محددة بشأن القدس في منظومة المعاني التي تتبناها الدولة.

وسعت الرواية الصهيونية الاستيطانية التي تناولت القدس إلى تشكيل وعي جمعي في أوساط المستوطنين اليهود الذي حطوا رحالهم في فلسطين، يقوم على أن هذه المدينة إنما هي حقهم المشروع… وقد اتخذت إجراءات عدة في هذا الإطار القومي الإسرائيلي، غايتها إحكام السيطرة عى المدينة وحرمان “الآخر” الفلسطيني الأصلاني منها.

وترى الباحثة بالمقابل، أن الرواية الفلسطينية التي تتناول القدس اليوم هي رواية منقوصة لأنها تعتمد في بعض مواضعها على الحقوق الدينية التي يملكها السكان الفلسطينيون فيها، في حين ترتكز في مواضيع أخرى عى إطار وطني مع أنها تصوغه ضمن رواية قاصرة تتناول حق الفلسطينيين في القدس الشرقية التي جرى تشويه معالمها وسلخها عن محيطها كما لو كانت معزولة عن تاريخ هذه المدينة.

وتشير إلى أن غياب رواية قومية متماسكة ومتكاملة بشأن القدس في الخطاب السردي القومي الذي يعتمد الفلسطينيون، يقوّض ادعاءهم القومي بأحقيتهم في المدينة باعتبارها عاصمتهم المشروعة التي سلبت منهم بالعنف عى يد النظام الاستعماري الذي فرضه الانتداب البريطاني أولا ثم النظام الاستعماري الاستيطاني اليهودي الذي نما وترعرع في كنف النظام البريطاني ثانيًا.

د. ناهد حبيب الله

لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا المضوع أجرينا هذا الحوار مع د. ناهد حبيب الله أستاذة علم الاجتماع في الجامعة العربية الأميركية.

“عرب 48”: معروف أن التمحور الفلسطيني في الشطر الشرقي من القدس جاء بسبب ضرورات سياسية، في حين أنه بالمقابل هناك موقف سياسي إسرائيلي متمسك بوحدة المدينة؟

د. حبيب الله: أنا أدعو إلى التمييز بين رواية قومية تمثل رواية كبرى تسترشد الثقافة والهوية الفلسطينيتان بها، وبين الرواية السياسية الآنية وأرى وأنه لا غنى عن اعتماد رواية قومية فلسطينية في إطار العمل عى بناء هوية فلسطينية تضرب جذورها في التاريخ ولها رؤية تستشرف المستقبل.

وأنا كإبنة المدينة كانت القدس هاجسي، فخصصت لها رسالة الدكتوراة التي أنجزتها في جامعة “The New School” في نيويورك وتناولت فيها حياة المقدسيين تحت الاحتلال، ولطالما كنت أنظر إليها كحالة مصغرة ودالة على العلاقات السياسية والنهج السياسي الذي تمارسه إسرائيل منذ قيامها في مناطق 48 ولاحقا في أراضي 67.

بدأت أفكر باللغة والرواية التي بنتها إسرائيل عن نفسها منذ قيامها وبالأساس في مركزية القدس في هذه الرواية، وكما نعرف فإن الرواية الإسرائيلية الصهيونية عن فلسطين التاريخية والقدس مبنية بالأساس على علاقة طويلة قائمة على نسيج رواية “وطنية” معينة، تمتد إلى أربعة آلاف سنة، وهي تستحضر مشاهد مختلفة من التاريخ وتبنيها كقصة، تظهر للوهلة الأولى بأنه لا يشوبها أية إشكاليات كحقيقة، ولكنها بالنهاية بناء يقوم على غايات وأهداف سياسية، بمعنى أنه يوجد من ورائها بعد سياسي.

لقد حاولت القيادة الصهيونية منذ انطلاق مشروعها الاستعماري بناء الفكرة الصهيونية الخاصة بها، وتنبع مركزية القدس في هذه الرواية من كونها تقع في صلب الرواية الدينية التي جاءت لتعزيز الكيان اليهودي الذي تمثل في الصهيونية، ونحن لا نتحدث عن اليهودية كديانة وإنما عن الكيفية التي استغلت فيها ببناء الدولة الإسرائيلية الصهيونية.

انظر إلى غربي القدس في اللحظة التي حصلت فيها نكبة 48 وكيف جرى الاستيلاء بعدها على الموروثات الفلسطينية الكائنة فيها، وتسويغ ذلك وكأنه حق أخذوه من الشرعية الإلهية، علما إننا إذا أردنا الحديث عن شرعية دينية فإنها موجودة في المربع الصغير المتمثل بالبلدة القديمة الموجودة في شرقي القدس.

إننا أمام رواية تعتمد على اليهودية لكنها كولونيالية في جوهرها، لأن الصهيونية التي ضمت القرى الموجودة بمحاذاة القدس في الـ48 ودمجتها وكأنها جزء من تاريخ المدينة المقدسة، تمددت لاحقا إلى شرقي القدس التي احتلتها عام 67 وضمتها لاحقا، ثم ضمت القرى المحيطة بها في إطار القدس الكبرى بحيث أصبحت تضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، وهي أن كانت تأخذ شرعيتها مما تدعيه من حق اليهود ولكنها تطبق ذلك بممارسات ضم استعمارية.

“عرب 48”: من الواضح أن الحركة الصهيونية رغم كونها حركة علمانية في جوهرها تستغل الرواية الدينية اليهودية للتغطية على أهدافها الاستيطانية الاستعمارية في القدس وفلسطين عامة؟

د. حبيب الله: صحيح أن الصهيونية استعملت الديانة اليهودية كجزء من شرعنة مشروعها، لكنها ومن خلال بلورة هذه الرواية بنت ثقافة أفرزت “جيشا” كاملا يؤمن بهذه الشرعية الممنوحة لليهود بحقهم في دولة إسرائيل وقيامها على هذه الأرض.

“عرب 48”: جيش كامل يتعدى اليهود ربما إلى أوساط واسعة في العالم؟

د. حبيب الله: العالم من الأساس، كما يقول ادوارد سعيد، لا يستطيع ان ينظر إلى قيام دولة إسرائيل من فراغ، بل كجزء من اللغة الاستعمارية التي كانت قائمة بعد الحرب العالمية الثانية، ومحاولة إيجاد حل للاشكالية اليهودية.

سعيد يقول إن الغرب أصبح يعترف بحق لليهود في اللحظة التي صاروا فيه “قومية إسرائيلية”، وأنهم خرجوا من دائرة المغضوب عليهم في اللحظة التي خرجوا فيها من دائرة “الآخر المختلف” في أوروبا، وأن الاستعمار الأوروبي شرعن أو استطاع أن يجد هذه العلاقة في اللحظة التي أصبحت فيه إسرائيل جزء من المشروع الاستعماري الأوروبي.

“عرب 48”: تقصدين أنهم كانوا معنيين باليهود كجزء من المشروع الاستعماري وليس كجزء من النسيج الأوروبي؟

د. حبيب الله: في اللحظة التي أصبحوا فيه خارج أوروبا لم يعد هناك مشكلة معهم، وحتى ظهرت تلك اللغة التي تريد أن تبني على اليهودية – المسيحية، ولذلك فإن تقليد “يهودي مسيحي” ليس غريبا وهو من إنتاج أوروبا، لكن الموافقة عليه حصلت في اللحظة التي خرج منها اليهود، وكما هو معلوم فإن بناء لغة دينية بمركزية لغة وطنية والتي كانت مرفوضة في أوروبا أخذت شرعية عندما خرج اليهود منها وبنوا دولة إسرائيل بلباس “أرض الميعاد” أو “أرض إسرائيل”.

“عرب 48”: أنه المنطلق الأوروبي العنصري؟

د. حبيب الله: صحيح، ولذلك فإن هناك الكثير من المفكرين يعتقدون اليوم أن فكرة اللاسامية هي إشكالية، لأن قبول اليهود في رواية المسيحيين الجدد “الافنجلييين” وغيرهم، الذين يؤيدون حق وجود إسرائيل وحق عودة اليهود جميعهم إلى “أرض الميعاد” هي فكرة عنصرية لأنها تحمل في ثناياها حق محوهم.

من هنا كان الصهاينة الأوائل أمثال فايتسمان وغيره يحكوا للبريطانيين أنهم سيمثلون المتنورين مقابل البرابرة والمتخلفين، مستندين إلى الأفكار الاستشراقية التي ترى في الفلسطيني جزء من هذا العالم “المتخلف” وغير المتنور وهي اللغة التي اعتمدتها الرواية الصهيونية لتسويق مشروعها في الغرب.

كما أن ترسخ هذه النظرة في الغرب هي أحد الأسباب التي ساقها إدوارد سعيد لعدم السماح للفلسطيني برواية روايته، إلى جانب الإشكالية في الرواية الفلسطينية القومية ذاتها والمرتبطة بالقيادة السياسية، في سياق الحديث عن القدس.

“عرب 48”: تقصدين تجزئة القدس إلى شرقية وغربية؟

د. حبيب الله: الرواية الصهيونية تمركز أهمية المكان ولذلك رأينا أنه حتى عندما لم تكن شرقي القدس تحت سيطرتها فإنها لم تغب من روايتها، ولكن الفلسطينيين، للأسف، وبسبب الضعف الذاتي والعربي بعد عام 1967 واستيلاء إسرائيل على الجزء الشرقي من المدينة، تمحورت لغتهم السياسية في شرقي القدس فقط.

كذلك تحول مفهوم شرقي القدس إلى المفهوم الوحيد للمدينة المقدسة، والإشكالية الكامنة هنا أنك إذا أردت أن تحكي عن الرواية الدينية فقط فإنها تقع ضمن هذا المربع الصغير الموجود في البلدة القديمة، لكن بالمقابل فإن التطور الفكري الحداثوي الفلسطيني الذي كان يتبلور قبل عام 1948 حدث في الشطر الغربي من المدينة وما زالت أحياء البقعة والقطمون والطالبية وعين كارم شاهدة على هذا المشروع الحداثوي المتعثر.

الخلل يكمن في أننا لا نتحدث عن غربي القدس كجزء من هذا النسيج ونحصر أنفسنا بشرق المدينة، وقد تسبب الاستغراق في الحيثيات السياسية وعملية أوسلو بتعزيز هذه المنطومة التي أصبح الفلسطيني فيها يساوم فقط على شرقي القدس، بغض النظر عن الخسارة التي تكبدها الشعب الفلسطيني منذ ولادة الرواية الدينية الصهيونية حول فلسطين التاريخية.

“عرب 48”: تقصدين أننا لم ننجح كفلسطينيين في تقديم رواية موازية للرواية الصهيونية ببعدها الثقافي – التاريخي؟

د. حبيب الله: للأسف نعم ومع أوسلو جاءت سلطة فلسطينية ضمن علاقات قوى مختلة، ونحن عندما نتحدث عن “خطابة روائية” فإن وراءها وزن كبير حيث يتم بناء روايات مختلفة تتشابك مع بعض وتخلق “حقيقة معينة”، هكذا صارت الرواية الصهيونية تمثل “حقيقة معينة” وقد نجحوا بأن يبيعوا هذه القصة للعالم ولأنفسهم.

وبيعها لأنفسهم ربما أهم لأنها تبرز العلاقة بين السياسة والثقافة وتساهم في ترسيخ وجود حق لليهود في كل شبر من المدينة، بالمقابل نحن تحصر حقوقنا في مربع محدود وقابل للمساومة من المدينة.


د. ناهد حبيب الله: أستاذة في الجامعة العربيّة الأميركيّة في فلسطين. تتضمن اهتماماتها الاكاديميّة علم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع الثقافي وتتضمن المقالات الأكاديمية التي نشرتها وقدمتها العناوين الآتية؛ “تفكيك القدس الفلسطينيّة” و”تمثيل الرأة في السينما الفلسطينيّة” و”المشاعر والجنسيّة ودولة القوميّة: الولايات المتحدة وإسرائيل”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب