حين تعلمتُ الفلسفة في السجن
بقلم عدنان جابر
لو كان شقيقي الأكبر غازي، المدفون في رمل الكويت، حيَّاً، لقلتُ له: معك حق، ما كان ينبغي أن أدرس الفلسفة !
خطر لي ذلك، وأنا على الحدود الأردنية السورية صيف عام 1998 والجندي الأردني يفك “الكلبشات” عن معصميَّ، بعد أن قررت المخابرات ترحيلي إلى سورية لأنني ” شخص غير مرغوب فيه” !
قلت للجندي: أنا دكتور في الفلسفة
سألني: وهل أتيت إلى الأردن لتفتح عيادة ؟
لم يكن الجندي يمزح أو يسخر. كان جاداً. أما أنا فلم أغضب منه بل حزنتُ عليه، وعلى نفسي، وعلى الفلسفة !
كانت صحيفة “الدستور” الأردنية قد نشرت تحقيقاً موسعاً عن “غياب تدريس الفلسفة في الأردن” شارك فيه أكاديميون وتربويون وشخصيات لها علاقة بالفلسفة، وانطلاقاً من الهاجس ذاته نشرتُ رأياً في “الدستور الثقافي” بتاريخ 21-9-1994 بعنوان “حول الفلسفة وتدريسها في الأردن”. لم يكن الأمر يتعلق فقط بمكانة الفلسفة ومدى شيوع تدريسها في الجامعات، فالسؤال المحزن الذي صدر عن الجندي يجد تفسيره في فترة طويلة، تم خلالها إيقاف تدريس الفلسفة في مدارس البلاد.
هل يتوقف الأمر على الأردن فقط، وعلى الفلسفة فقط ؟! في العالم العربي، من الماء إلى الماء، هل هناك مكانة لائقة للعلم والفكر، بل هل ثمة مكانة للإنسان؟!
كيف نفسر انتشار الشعوذة وفتاوى الجهل والغرائب، شيوع إعلام الرعب من الموت والقبور على حساب معرفة العمران وحب الحياة؟!
بِمَ نفسر القسوة والهمجية لدى حركات وتنظيمات متطرفة، والاستهانة بقيمة الإنسان، والاستخفاف بحياة المرأة لدرجة رجمها وقتلها والتهاون مع فسق وجرائم الذكور؟!
وكيف نفسر نزيف الأدمغة وهجرة الكوادر والعلماء، وأن الدول العربية ومناخاتها بشكل عام هي دول ومناخات طاردة لا جاذبة، وقد تحول ملايين العرب إلى مشردين ولاجئين في أربع رياح الأرض؟!
بل أمام ما يجري من خلخلة واضطراب وتفسخ في أكثر من بلد عربي، ألا يبرز السؤال: من نحن، وإلى أي مدى نحن دول؟!
خلال سنوات أسري في السجون الإسرائيلية حصلت على الشهادة الثانوية في الفرع الأدبي، ثم الفرع العلمي. ذلك أنني حينما اعتقلتُ كنتُ قد أنهيت في المدرسة الإبراهيمية في الخليل الصف العاشر(الأول ثانوي) فقط.
ومن الطريف أن الموظف في وزارة التعليم العالي في عمان، خلال ذهابي لمعادلة شهادة الدكتوراة في الفلسفة بعد تخرجي من بلغاريا سألني: أين حصلت على الشهادة الثانوية؟ وعندما أجبته: في السجن، قال لي غاضباً: أنا لا أمزح معك! وأجبته: وأنا لا أمزح معك! وأوضحت له الأمر.
بعد إبعادي من سجن بئر السبع إلى الأردن في شتاء عام 1976، وسفري إلى الكويت لرؤية أهلي هناك، سألني شقيقي الأكبر غازي: ماذا تريد أن تدرس؟، أجبته ذاكراً خياراتي: علم اللغات، علم النفس، صحافة، فلسفة…
قال لي (وهو يشير بيده إشارة تعني بأن خياراتي هذه خيارات بائسة وغير موفقة): أُدرسْ طب، أو صيدلة، أو هندسة وأنا مستعد أن أساعدك بما تحتاج. وأراد أن يرسلني إلى الهند للدراسة هناك على حسابه.
خرجتُ من السجن وفي رأسي قرار بأن لا أسمح لأحد تحديد خياراتي ومواقفي، لم أرفض موقف شقيقي بشأن دراستي فقط، بل رفضت كذلك عرضه بأن أتعالج في الكويت.
بعد أن طعنتُ 3 جنود إسرائيليين بـ “سيخ كباب” في 5 حزيران 1969 أمام الحرم الإبراهيمي في الخليل، وكان عمري 17 عاماً، أُصبتُ برصاص الحاكم العسكري أبراهام عوفر وجنوده في رقبتي وقدمي. الجرح في رقبتي تعافى بعد 40 يوماً لأنه بفعل رصاص مسدس عادي. أما الجرح في القدم فلم يبرأ منذ ذلك الوقت حتى الآن، أي بعد مرور 46 سنة من تاريخه، ذلك لأن الرصاص هو من بندقية “ناتو” من نوع “متفجر ــــ دمدم” حيث تتحول الرصاصة في الجسم إلى عشرات من الشظايا، وما زالت في قدمي، بعد 14 عملية جراحية أجريتها في عدة دول، 60 شظية، فضَّلَ الأطباءُ بقاءها على البتر، وسترافقني هذه الشظايا حتى القبر!
.. لم أسمع كلام شقيقي غازي
أردتُ أن تتكفل “الثورة” بعلاجي ودراستي!
كانت المِنح الدراسية إلى الدول الاشتراكية متاحة وكثيرة. كنتُ أعشق الكمان. في بيروت عام 1980، رفض الرفيق “المسؤول الحزبي” أن أذهب في منحة وأدرس الموسيقا. استهجن رغبتي: ” كيف يدرس مناضل الموسيقا في زمن الثورة” ؟!
.. ودرستُ الفلسفة !
في بلغاريا، أثناء دراستي، كنتُ الأول على مجموعتي، ليس لذكاء خارق لدي، بل لأن كثيراً من المعارف التي درسناها هناك كنتُ قد درستها في السجن.
قبل أن أنال شهادة الدكتوراة في الفلسفة من بلغاريا عام 1991، كنت تعلمت الديالكتيك في سجن عسقلان عام 1970على يد ربحي حداد (أبو رامز) الذي استشهد وبيده السلاح في البلدة القديمة في نابلس خلال الاجتياح بتاريخ 6-4- 2002، له أنحني.
ربحي ولدته أمه بعد 7 أشهر “سبيعي”، قصير القامة، ولم يتخرج من جامعة القاهرة، لأن الحزب قال له عام 1967: أتركْ الجامعة، واذهبْ لمقاومة الاحتلال!
هو أفضل مني بكثير، رغم أن أمي ولدتني بعد 9 أشهر، وأنا طويل القامة، وأحمل شهادة دكتوراة!
هو معلم، وأنا أحد تلاميذه. في سجن عسقلان كان يكتب لنا تاريخ الثورات ومواضيع الفلسفة على علب السجائر الفارغة، روى لنا “الأم” لمكسيم غوركي مثل حكاية.. وفي سجن بيت ليد كان يغني لنا بصوته الشجي أغنية أم كلثوم: شمس الأصيل!
تجاوز عمري الستين، والشظايا ألـــ 60 التي تلازمني ( وهي من الأعداء وليس من الأشقاء، الحمد لله!) ترسل إلى رأسي من حين لآخر رسالة: كن يقظاً، إياك أن تنسى !
.. أنا رجل لا ينسى !
لا أنسى ربحي حداد، ولأنني مبعد وبعيد، وعدني صديق في نابلس بأن يضع على قبر ربحي وردة باسمي.
الثورة لم تنصفني، والفلسفة لم تطعمني خبزاً، ولم أبع نفسي للمخابرات حتى لا أبيعها مرة ثانية وثالثة…، لأنني أومن بمبدأ: قد يخسر الإنسان أشياء كثيرة، لكن عليه ألا يخسر نفسه. ولولا معرفتي ببعض اللغات التي أتاحت لي أن أعمل مترجماً، لأصبحتُ أنا وأسرتي على قارعة الطريق!
هل الحق على الفلسفة، أم على المخابرات؟! أم هي الحياة تطردنا، وتطاردنا، من فلسطين، إلى الأردن، إلى سوريا، إلى بلغاريا، إلى …؟!
أومن بالحكمة القائلة: كثرة المعرفة لا تولِّد إلا الحزن. لكنني وجدت حلاً:
عليكَ بالغناء، لا تأخذْ الحياة على محمل الجد، وحَوِّلْ الحُزْنَ إلى كتابة !
/ عدنان جابر/ سيرة مناضل