الحياة على حَرف
توفيق قريرة
قد تقف في الحياة على حرف، أي على طرف أخير من ربوة تطل على مهوى سحيق؛ تطل فتخشى أن يسحبك الفراغ إليه فتقع تاركا وراءك صدى من صراخ من وقع وأراد أن يودع. قد تقف هذا الموقف على الحقيقة أو المجاز. هذه الصورة التي استعملتها الآن هي صورة مستوحاة من تجربة يمكن أن يعيشها المرء في الواقع أو يراها وعليها يقيس.
دعنا نتكلم في كيفية رؤيتنا لتجاربنا التي نستعملها في الاستعارات. في عصر ما قبل السينما، كنا نرى التجارب إمّا عيانا وإمّا عبر قناة القراءة. في عصر الصورة والسينما صرنا نرى المشاهد الكثيرة والتجارب المتنوعة، وكأنها أكوان وقعت أو قابلة لأن تقع ومن الممكن أن نستفيد منها في بناء تجاربنا الخاصة. لكن دعنا نتحدث أولا عن الكيفيات التي بها نبني تجاربنا اعتمادا على الكتابة. هيئة الوقوف على حرف جرف، أي على طرف منه هي وضعية يمكن أن ترى وتعاين في الوجود. عادة ما لا يقف المرء في تجربته اليومية على أطراف الأشياء المنتهية إلى منطقة الخطر. حين تكون على أعلى بناية شاهقة ما تزال غير مسورة فإنك تعرف أنّك ستخاطر بحياتك إن وقفت في آخر أطرافها. في السينما أو في الحكايات الافتراضية، يمكن أن يصور مشهد يغامر فيه البطل بالوقوف على الحرف من أجل إنقاذ أحدهم مثلا، أو من أجل التهديد برمي النفس من العلوّ. لكنّ اللغة هي أصل بناء هذه الوضعيات التصويرية في السينما أو الموصوفة في الواقع ونحن يمكن أن نقدم في ما يلي نماذج من لغة القرآن التي فيها حديث على الوقوف على حرف.
في سورة التوبة (109) خير مثال على تأسيس اللغة هيئة الوقوف على حرف في قوله تعالى: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين). في هذه الآية تأسست مشهدية الوقوف من داخل مشهدية أكبر، هي مشهدية الإيمان والكفر. تجربتا الإيمان والكفر استعيرت لهما تجربة البناء. البناء الذي يرتكز على أساس متين، والبناء الذي يكون على شفا جرف هائر أي آيل للسقوط. استعارة مشهد البناء للكفر والإيمان لم يبن في الآية بالطريقة نفسها، فالانتقال من الحديث عن البناء باعتباره وعاء لتجربة الإيمان كان أقل وسائط من الانتقال إلى الحديث عن تجربة الكفر. (أفمن أسّس بنيانه على تقوى من الله): الجزء الأوّل من الكلام حقيقي وسرعان ما يصبح بعد ذلك مجازيا، ففي الآية تأسيسان تأسيس البنيان بما هو تشييد هندسيّ فعلي سرعان ما ينتقل إلى تأسيس غير هندسي، بل عقدي هو الإيمان. المشهد جزؤه الأول مادي، ثم سرعان وبلا أيّ إشعارات مسبقة ينتقل إلى العقيدة، والمتحدث عنه: الباني يبدو لنا في النهاية مؤمنا إيمانه مؤسس على تقوى الله ورضوانه. يقف المؤمن في هذا المشهد في فناء متين البناء لا جرف فيه ولا حرف، بل يستوعب البناء الباني، فالعلاقة بينهما علاقة حالّ بمحلّ، بعد أن كانت علاقة مشيد محسن التشييد ببناء هندسي متين الأساس. ليس في هذا المشهد واقف على حرف، بل هذا ما نجده في المشهد الثاني، مشهد البناء الكافر الذي تكون أسس البناء فيه مختلة آيلة للخراب.
أن يبني الإنسان اليوم بناء فوضويا منزلا في أرض جرفها مهترئ هو بمنظار القانون مخالف، لكن البناء نفسه دينيا واستعاريا هو بمنظار الشرع آثم لأنّ صاحبه لم يحسن التأسيس.
ورد في تفسير الطبري ما يلي: «قال أبو جعفر: وإنما هذا مَثَلٌ. يقول تعالى ذكره: أيّ هذين الفريقين خير؟ وأيّ هذين البناءين أثبت؟ أمَن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله، وعلمٍ منه بأن بناءه لله طاعة، والله به راضٍ؛ أم من ابتدأه بنفاق وضلال، وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه، فيهدمه كما يأتي البناءُ على جرف ركيَّةٍ لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه، ثَرِيّةِ التراب متناثرة، لا تُلْبِث السيول أن تهدمه وتنثره». يدلي المفسر في هذا السياق بمعطيات يعرفها استمدها من تجربته في الحياة وفي الدين. تجربتنا في الحياة توصلنا إلى أنّ الطراز في البناء هو أن يحسن صاحبه التأسيس. تجربتنا مع الدين وفق هذا التصور ينبغي أن تكون من جنس طرازية البناء الأصلح، لكنّ الأمر ليس مرتبطا بالباني، بل أيضا بمن يدرك ذلك البناء بعد اكتماله: من الممكن أن يعتقد المرء أنّ بناءه صالح وممتاز الأركان لكنّ التقييم الذي ينبغي أن يجرى بعد ذلك قد يثبت هشاشة البناء. ليس الواقف داخل بنيان متماسك الأركان متين كالواقف على شفا جرف هار يمكن في أي وقت أن يسقط ويتداعى ويكون وبالا على بانيه.
الواقف في النصّ القرآني مضمر ولا وجود له لأنّ الصورة مركزة على الباني لكننا سنتصوره موجودا في طبقات وفي دوائر. الواقف على الجرف الهار بناء على سياق الآية هو الكافر، ووقوفه في موضعه من ذلك البناء هو اختيار خطأ وقد فعل، يحمل في الإطار نفسه على أنّه حتمي عادل موجه إلى القصاص. هذا تأويل لكنّه يمكن أن يكون شهادة مثلما في هذا الرأي من تفسير الآية نفسها: «حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: بنو عمرو بن عوف. استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بنيانه فأذن لهم، ففرغوا منه يوم الجمعة، فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد. قال: وانهار يوم الاثنين.. قال ابن جريج: ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه فأبصروا الدخان يخرج منه».
لم نعد بهذا التفسير إزاء بناء مجازي؛ بل بتنا نتحدث عن بناية فعلية هي مسجد بناه المنافقون وأنّه انهار فعلا وأنّ جهنم حقيقية هي التي ابتلعته. الواقفون هنا كثر منهم الواقفون على بناء المسجد المنفذون له وهم المنافقون والواقفون على الحدث متى تم وهم المؤرخون لهذا الوقوع والواقفون الذي يريدون أن يروى أين وقع المسجد هم أهل البينة والبرهان لكنّ الواقف الفعلي على كلّ هؤلاء جميعا هو المفسّر.
وقد يقف الراوي مساندا لفعل البناء الحقيقي: مسجد للمؤمنين وآخر للكافرين: وهذا ما نجده في مقطع تفسيري آخر فيه: «حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا خلف بن ياسين الكوفي قال: حججت مع أبي في ذلك الزمان يعني: زمان بني أمية فمررنا بالمدينة فرأيت مسجد القبلتين يعني مسجد الرسول وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر، قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة! فهذا البناءُ الذي ترون، جرى على يَدِ عبد الصمد بن علي. ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن وفيه حجر يخرج منه الدخان وهو اليوم مَزْبَلة».
مسجد القبلتين هو المسجد الذي تقف فيه خاشعا لأنّه المسجد الذي أحسنوا بناءه وهو معدّ للصلاة والواقف فيه لا تضيع لديه الاتجاهات. وآخر هو مسجد المنافقين وأنّ فيه حجرا يخرج منه الدخان وقد تحوّل إلى بيت للقاذورات. وعليك أنت أن تختار موقفك فإن كنت على شفا جرف هار فقد اخترت وصنّفت وبتّ شخصا حياته بين قبضتين: قبضة تدفع إلى السقوط وأخرى تقبض الميت في انتظار ساعة الحساب. لكن أهمّ ما يمكن قوله في هذا السياق أنّ المفسّر أيضا لم ينج من هذا الجرف الهار أحيانا.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية