ثقافة وفنون

مخلص خليل: انكسار الحلم… ولا شعرية للمنفى

مخلص خليل: انكسار الحلم… ولا شعرية للمنفى

علي حسن الفواز

من الصعب توصيف المغامرة الشعرية العراقية خارج لعبة الأجيال، وبعيدا عن الأسئلة التي انفتحت على وعي مشاكس، وعلى رهانات ربطت الشعر بمفهوم الثورة، بوصفها بيانا شعريا، وشغفا مفتوحا على الحرية والحلم والقلق الوجودي، حتى بات «شعراء المغامرة» وكأنهم يسائلون العالم من خلال القصيدة، وأن يفتحوا للعمل الشعري أفقا لمغادرة مركزية التاريخ و»سرير الآباء» ومواجهة التعويم الأجناسي للشعر، وأحسب أن شعراء السبعينيات، كانوا أكثر هوسا بالحلم، وبالمغامرة، واستغلال الشعر لصياغة وعي أكثر استغراقا بالمغايرة والتجاوز، وكتابة القصيدة التي تشبه سيرة الأولاد المشاغبين، وسيرة قصيدتهم التي تُعنى باليومي والرمزي والتشكيلي، وهي تمثّلات دفعت بهذه القصيدة الى مواجهة التاريخ والنمط، وجعلت منهم شعراء مهووسين بتخريب الذاكرة، والذهاب إلى أقصى الحلم.
لم يشأ الشاعر مخلص خليل أن يكون خارج هذا الرهان، فرغم انغماره الأيديولوجي، إلا أنه كان أكثر حساسية وإفراطا إزاء الحلم، والهوس بإشهار تلك القصيدة، بوصفها خيارا لوعيه بالجدّة، واستبطانا لشغفه بالحرية، بما فيها حرية التجاوز، فانحاز إلى فكرة الحلم الذي سرعان ما انكسر، ليجد نفسه أمام انكسارات مُركّبة- وجودية وإنسانية وثورية دفعت بقصيدته الى ما يشبه المساءلة الفاجعة، والى مواجهة داخلية تراجع معها إلى ذاته المفجوعة، ليجد في المنفى هروبا، وفي اللغة ملاذا، وهذا التلازم ما بين المنفى والملاذ تحول إلى مجال «دوستوبي» حيث الإحساس بالعداء والنفور إزاء التيه، إزاء ما يصنع المنفى من أماكن متخيلة، بحثا عن الترياق الشعري، وعن عشبة الحلم، وعن الأسئلة التي توهمها صالحة للمغامرة التي كان يعشقها.

لم ينحز مخلص خليل إلى الأسطورة الفائقة، ولا إلى التجريب الصاخب، فبقدر وعيه الحاد إزاء انسحاره بجدّة القصيدة وشرطها التاريخي، إلا أنه كان ابن الأيديولوجيا المخلص، وهذه البنوة جعلته يتحسس «الكتابة الفائقة» التي اندفع إليها مجايلوه، حيث أساطير خزعل الماجدي، وبرودة هاشم شفيق واستعاراته الناعمة، وحيث شعرية البلاغة وعلامات فخامتها عند شاكر لعيبي، وحيث اليومي والميثولوجي والطقوسي عند زاهر الجيزاني، لذا بدت قصيدته وكأنها تنسحب إلى مكوثٍ شائهٍ داخل مزاج شعري حاد، لا مداخيل له سوى ما يأتي من الذات القلقة، والمترددة، الباحثة عن وجود متعال، لكنه لم يتخلص من ترياق الأيديولوجيا، التي لم تستنفد وجودها بعد.. حاول مخلص خليل أن يؤنسن مغامرته، وأن يجعل من قصيدته مجالا رحبا، يتسع لغنائية سعدي يوسف، ولحدوس فاضل العزاوي، ولشعرية الفلسفة، كما عند عبد الرحمن طهمازي، ليس ترددا من انحيازه إلى جماعته السبعينية، بل لأنه لم يطمئن للخروج الصاخب من غابة القصيدة العراقية الصاخبة في مرحلة ما بعد الرواد..

القصيدة الجديدة وشعرية المنفى

يمكن لقسوة المنفى، أو المهجر، أو الغربة أن تتحول الى شيفرة شعرية مفتوحة للتعبير عن يقظة الوجع، وعن إعادة دوزنة الذاكرات التي تتغاوى مع الأسى، فلا شيء يصدّ هذا الوجع سوى الوعي بوصفه استعارة كبرى، حيث تتبدى شعريته، من خلال أسئلته الجديدة، ومن خلال تحوّل عشبته/ لذته إلى توق استعاري/ استيهامي للخلود، وإلى مقاومة الموت، عبر ما تصنعه تلك العشبة، من إحالات وإشارات ومجازات، حيث يتوهم الشاعر أن القصيدة هي آخر ما تبقى من رهاناته على التلذذ بالوجود، مثلما كانت هي لعبته السحرية في استغواء ترميم العالم، وفي إبقاء الذاكرة مفتوحة على نوبات من اليقظة، وعلى قلقٍ للمساءلة والمراجعة، وعلى رؤية تجعل التاريخ واقفا عند أوهام الوطن الرومانسي، الوطن الذي خرج من معطف الأيديولوجيا إلى الغربة، فنزع عنه الشعراء كثيرا من استعاراته القديمة، ومراثيه، التي لم تشأ سوى أن تكون جرحا نرجسيا يساكن اللغة والجسد والحلم والمنفى.
أثار رحيل الشاعر مخلص خليل في منفاه كلّ هذا الأسى، والإحساس بأن الشعراء «الطيبين» الذين صنعوا للوطن وجودا صاخبا في اللغة، كانوا أكثر الناس إخلاصا لروح الشعر، وشغفا بتدوين سيرة الوجع، بوصفه نوعا من الاعتراف والتطهير، لذا تمسكوا به، فظل لصق قمصانهم المكشوفة للريح، مثلما كان جزءا من سيرتهم وهم يبادلون المكان/ الوطن مراثي الدوستوبيا، إذ تتحول هذه السيرة إلى نوع من مدونة الوجع، حيث يكون التمرأي في اللغة، هو ذاته التمرأي في الوجود، وحيث تبدو الاستعادة وكأنها بحث موجع عن الغائب، إذ هو الترياق والكتاب والحلم والحبيبة، مثلما كان هو «النسق المُضمر» الذي ظل يختزن زمنا لزجا من الصعب تقشيره، ورميه خارج البيت الشعري أو البيت الوجودي..
مخلص خليل واحد من شعراء ضياع الحلم، الحلم الذي توهمه قناعا للخلاص، وشغفا بالتمرد على التاريخ، إذ تبدت عبره صورة الوطن والحبيبة والآخر، بوصفها شيفرات لتمثيل الوجود، فكان يكتب القصيدة التي تتمرد على سكونها، وعلى رتابتها، القصيدة التي ظلت تتشهى الوجود، بوصفه بيتا أو ملاذا، أو حتى زاوية كانت تهبُ الشاعر نوعا من الاطمئنان، حيث تكون مواجهة القلق والخوف والنفي مفتوحة على ما يدونه الشاعر، المخذول والمنفي داخل المنفى، وبما يجعل قصيدته ذات «النبرة الخافتة» أكثر اصطخابا في تمثيل آساه وخذلانه، ورهاب أسئلته المدسوسة مثل مناشير مُهربة، إذ تحمل معها شهوة متخيلة للإشباع الرمزي، والإحساس بما يشبه الخلاص، فرغم ما كان يحمله مخلص خليل من صلابة الثوري والحزبي والأيديولوجي، إلا أن لغته كانت تشي بهشاشة الحالم الذي يجرّ العالم إلى اللغة، حيث تتنافذ عبرها الاستعارات، وحيث يتهرّب الوجود عبر المجازات، وأحسب أن قصائده عن التيه، و»رسائل أوانيس» و «مدن أخرى» تكشف عن قلق الشاعر، فـ»التيه» ليس متاهة فلسفية، بقدر ما هو اغتراب وجودي، وشغف بالبحث عن شيفرة الوصول، مثلما أن الرسائل تتحول إلى استعارات للمعنى الغائب، لتقصّي ما يحفل به وجوده المحتدم، فتبدو القصائد وكأنها تكشف عن «سيميائية» ذلك الاحتدام الذي يعيشه الشاعر، فهو الملتزم والقلق في آن معا، مثلما هو الحالم والواقعي في اللحظة ذاتها، حتى تبدو قصيدته وكأنها تحمل رعب ما يُساكنه من هواجس، فيندفع عبرها الى كتابة شهادته أو سيرته، بوصفها سيرة «عوليسية» تكون فيها بينلوب هي القصيدة، أو البلاد، أو الجسد، أو ربما المقبرة.. في قصائد مخلص ثمة آخر، هو قرينه، أو قناعه، حيث يشاطره لعبة الوجود، فيعيدنا إلى الآخر في قصائد سعدي يوسف، وكأن كلاهما يتقاطعان عند ثنائية الحياة والموت، أو الوجود والغياب..
ليوم انتحر رجل وحيد
لم أره إلا مرة واحدة
لا يعرفه إلا القليل من عائلتنا المهاجرة.
لم يجد الطريق إلى الشهرة
لم يقاسمه السكن أحد،
لم يبح بسره أبداً.
فجأة ذات مساء
كتب ثلاث كلمات ودسها في جيبه..
في قصائد «مدن أخرى» يتحول المنفى إلى إشارات، والمدن إلى امكنةٍ مُستعادة، يساكنها بوصفها كنايات عن مقاومة الغياب، فيستحضرها وكأنه يستحضر معها وجوده المعطوب إزاء شتات الدوستوبيا، مثلما يكتب عن إحالاتها العراقية، وكأنه يُحيل عبرها إلى ما يتشظي في منفاه، أو في ذاته اللائبة، المسافرة، فتبدو الكتابة بوصفها محاولة في استعادتها، أو في شعرنة وجوده الشخصي داخل عوالمها، وفي زمنها وهي تواجه النسيان والخوف والغياب. لا يكتب مخلص خليل رثاء لمدنه، بل يستدعيها لكي يمنحها ما يشبه طاقة الوجود، إيهاما بأنه يشبهها، وأنه يناظرها في لعبة البحث عن الاشباع المفقود، فالتذكّر يحضر بوصفه نوعا من البقاء، والقصيدة تحضر بوصفها شيفرة لتمثيل ما شعري أو وجودي لهذا البقاء، فتمنح الشاعر إحساسا بأن العالم في اللغة هو أكثر غواية وسحرا وبقاء..

الشاعر في منفاه العميق

قد يبدو انكسار الحلم وجها آخر للنفي، مثلما يبدو القلق تعبيرا عن تشظي وجوده، فلا هروب منه إلا إلى اللغة، ولا سياق له إلا أن يجعله عند سكنى التيه الذي بات يعيشه، بعد انهيار «سردية الأيديولوجيا» وسردية الثورة، فلا براءة له سوى أن ينسحب إلى ذاته بعيدا عن خراب العالم، فيكتب له مراثيه، وكأنه في نوبة تطهير، يواجه شيخوخة الزمن، وخيبة الفكرة، وخواء الحرية، وكآبة المنفى.. المنفى العميق هو منفى اللغة، وليس المكان، فلم تعد للشاعر قدرة على ترويض تلك اللغة، إزاء موت المكان، وإزاء رثاثة العلاقة بينهما، وهو ما جعل الشاعر يحمل وزر الخيبة، والخيانة، فاقدا القدرة على صناعة وجود مضاد، أو حتى سؤال مضاد، فبات المنفى العميق هو منفاه الشخصي والشعري والوجودي، أو استعارته في مواجهة عالم مُنهك، يفقد شروطه الإنسانية، إزاء هزائمه الكبرى، حيث لا إقامة له، وحيث لا شفاعة للشعر، ولا تصالح معه، ولم يعد له من وجود سوى التحقق في الموت، بوصفه إشهارا لموت العالم…

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب