ثقافة وفنون

صدور الأعمال النقدية الأولى للناقد خلدون الشمعة: مفاهيم تنويرية حداثية في مواجهة أصولية أيديولوجية

صدور الأعمال النقدية الأولى للناقد خلدون الشمعة: مفاهيم تنويرية حداثية في مواجهة أصولية أيديولوجية

مفيد نجم

كاتب سوري

أهمية استعادة المؤلفات الأولى التي أسست لمشروع خلدون الشمعة النقدي، والتي قامت دار المتوسط بإعادة نشرها( الشمس والعنقاء: دراسة في المنهج والنظرية والتطبيق، والنقد والحرية، والمنهج والمصطلح: مدخل إلى أدب الحداثة) تتأتى أولا من كونها البداية التي أسست لهذا المشروع الذي أتبعه لاحقا بكتابي «المؤتلف والمختلف: تمثيلات المركز العربي والهامش العربي وشيطنة الآخر» و»كعب آخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي» اللذين صدرا عن الدار نفسها قبل سنوات قليلة. والأهمية الثانية لهذه الاستعادة، تنبع من الجرأة في مواجهة المد الأيديولوجي الذي كان يهيمن على الأدب والنقد في سبعينيات القرن الماضي.
وما يزيد في أهمية هذه المواجهة أنها كانت تستند إلى خلفية معرفية ونقدية تسعى إلى تحرير الأدب والممارسة النقدية الحديثة من الرؤية الأحادية الضيقة، وادعاء العلمية والكمال حتى تحولت الأيديولوجيا إلى أصولية جديدة مرتبطة بعلاقة ظاهرة ومستترة مع نظام سياسي مسيطر ذي طابع عسكري، كما يقول في مقدمة أحد كتبه. لذلك فإن هذه الاستعادة هي استعادة لتاريخ مهم من الحياة النقدية والثقافية السورية بوجه خاص، يمكن أن يوفر للقارئ العربي معرفة جديدة بالحراك النقدي والأدبي الذي كان يسم تلك المرحلة، ومعنى أن يغرد ناقد خارج سرب هذه الثقافة في مواجهة رموز النقد والأدب الأيديولوجي، الذين وجدوا في هذه المؤلفات محاولة للنيل من مفاهيم الثورة والالتزام في الأدب، على الرغم من طابع السجال الذي اتسمت بها أفكاره عن النقد والأدب في حواره مع الآخر.
ومما يعزز أهمية هذا المشروع أن الناقد ينطلق في مشروعه من خلفية معرفية ونقدية، تهدف إلى تطوير الجهاز المعرفي والنقدي العربي الحديث انطلاقا من اعتبارات جوهرية تتصل بصميم نظرية النقد الحديث، لأجل تأصيل هذه المفاهيم وتطويرها بهدف تطوير الممارسة النقدية وتحريرها من التبسيط وفوضى المصطلحات من جهة، ومن جهة ثانية تصحيح العلاقة القائمة بين الثقافة الغربية والثقافة العربية، في ضوء الشواهد الأدبية والتاريخية التي يسوقها ما ينسف مقولة المركز التي تدعيها الثقافة الغربية ويظهر الأثر المتبادل بين الثقافتين.
هذا الجهد النقدي حيال مفهوم المركزية الغربية والاستشراق، سيحظى من قبل الناقد في كتبه اللاحقة، باهتمام أوسع وأكبر في دراسته لنظرية الاستشراق وتفنيده لدعاواها، الأمر الذي يدل على القيمة المعرفية والنقدية التي تنطوي عليها استراتيجية هذا المشروع، الهادف إلى إعادة الحيوية للذاكرة الثقافية العربية وضبط الممارسة النقدية منهجا ونظرية، وتطوير علاقة الأدب مع الواقع والحياة حيث تعد الحرية شرطا لازبا لهذ التقدم، في واقع لا يكف عن التطور والتبدل. وبقدر ما تكشف هذه الاستعادة عن إسهامات الناقد المبكرة في فتح باب الحوار المعرفي والنقدي حول تلك القضايا السجالية في الفن السائد، ومرجعياته الفكرية والسياسية، فإنها توفر للقارئ العربي الجديد معرفة وفية بمرحلة تاريخية مهمة من الواقع النقدي والثقافي العربي الحديث، وما كان يعاني منه من إشكالات ومواقف ناجمة عن محاولة فرض رؤية واحدة ووحيدة على الحياة الثقافية العربية ما ساهم في تأطير هذه الحياة ووقوعها في التكرار والتنميط في الرؤية والهدف انطلاقا من ادعاء امتلاك الحقيقة، حتى تحولت إلى نوع من الكهنوت الذي راح الكثيرون يسبحون بحمده.

في المنهج والنظرية والتطبيق

تشكل قضية المنهج والنظرية وتطبيقاتها في النقد العربي الحديث في كتاب «الشمس والعنقاء» الذي صدر في طبعته الأولى عام 1974 محور الكتاب، الذي يسعى الناقد من خلاله إلى تحقيق التأصيل النقدي والمعرفي، من خلال تحريره من سلطة الأيديولوجيا، ومن رواسب الغموض والفوضى وعدم الدقة في استخدام المصطلح، من خلال تفنيد جملة من الهرطقات الفكرية، تسم جانبا من الحياة النقدية الأدبية العربية، سواء من حيث الفهم الحرفي لمفهوم العلم، أو نظرته إلى الشكل الفني، على أساس وعائية متخيلة، أم بسبب تورم المنهج التاريخي على حساب المنهج الموضوعي.
ينطلق الناقد في حواره مع الواقع النقدي من ثلاثة اعتبارات جوهرية، تتمثل في اعتبار النقد الأدبي فناً يستخدم العلم وليس العكس، وأن المنجز الأدبي يتمتع بالاستقلال الموضوعي عند اكتماله ما يجعل مهمة الناقد البحث عن المنهج الملائم لتناوله، وأخيرا التعامل مع الشكل في العمل الأدبي بوصفه غاية وليس وسيلة لتحقيق غاية أخرى.
يستفيد الناقد في هذه الدراسات من المنهج الموضوعي في النقد الأدبي الأمريكي وتطبيقاته المنهجية، انطلاقا من رؤيته للنقد الأدبي بوصفه فن تعريف وتفسير العمل الأدبي، من خلال استخدامه للعلم. يتوزع الكتاب منهجيا على ثلاثة أقسام مترابطة، حيث يحاول الناقد الشمعة أولا ضبط دراسة المنهج والنظرية في النقد ثم ينتقل في الفصول التالية بشكل متسق إلى استجلاء حقيقة هذه الضوابط النقدية عمليا، في واقع التجربة النقدية السورية. ويستكمل الناقد هذا الإجراء في القسم الثاني من الكتاب، حيث يعمل عبر سبر وتطبيق هذه المفاهيم التي سبق وقدمها في القسم السابق، مستخدما لتحقيق هذه الغاية المنهج الموضوعي واستعادة المنهج التاريخي، كما هي الحال في استقصاء منطلقات تقويم الاتجاهات الأدبية العربية المعاصرة. وفي هذا السياق يقوم الشمعة بدراسة تقنية القصة القصيرة في سوريا والقصة الإيقاعية كنوع أدبي مستقل دون الاستناد إلى تعريفات أو حدود مسبقة، طالما أنها تتمتع بوجود موضوعي مستقل، يمكن من خلاله استنباط المنهج النقدي الموائم لهذه الدراسة.
وفي سعي منه لتحقيق الاتساق بين المنهج والنظرية في هذه الدراسة يلجأ الناقد إلى تطبيق المنهج النظري على قصيدة «تحولات محيي الدين بن عربي» للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي، بحيث يمكن قراءة القصيدة كقصيدة يمكن معها اكتشاف مجاهلها السرية والتعرف إلى بنيتها التعبيرية.

النقد والحرية: سؤال الأدب

تكشف المحاور التي توزعت عليها أقسام الكتاب الثلاثة (حدود في الأدب- حدود في النقد- حدود في الأدب والنقد) عن الضبط المنهجي وتنوع القضايا الأدبية والنقدية المهمة التي يقاربها الناقد في هذا الكتاب من موقع الجدل الساعي إلى تجديد الوعي المعرفي والنقدي بها وتطويره. وقبل أن يخوض الشمعة في موضوعات كتابه، يحاول أولا الإجابة عن سؤال جدوى الأدب من خلال الحديث عن الوظيفة الاجتماعية والجمالية له، ومدى الجدوى منه، بهدف صياغة استجابة نقدية طليعية ومتسقة لمجموعة من التحديات السجالية التي تواجه النقد العربي المعاصر، سواء فيما يتعلق بحدود الأدب أو حدود النقد. يستخدم الناقد لتحقيق هذا الهدف منهجا يسعى إلى سبر مسألتي الحرية الفنية والاجتماعية على ثلاثة صعد متداخلة هي، العلاقة بين المؤلف والمتلقي والعلاقة بين صاحب العمل والعمل وبينه وبين المتلقي. وإذا كانت العلاقة بين المبدع كما يسميه والمتلقي تتضمن معالم الحدود القائمة أو الافتراضية فإن هذه العلاقة تتضمن حكما مسألة الجدوى من الأدب والالتزام، حيث يميز الناقد هنا بين مفهومي الالتزام بالسلطة والالتزام بالمجتمع. إن محورية الحرية كشرط أساس في الأدب، تدفعه إلى تناول مسألة الحرية الفنية المتاحة أمام الكاتب، وهنا يتساءل حول أحكام القيمة التي يمكن للناقد أن يصدرها على هذا العمل أو ذاك، حيث ما تزال المعرفة بحدود كل جنس أدبي قاصرة عن التمييز بينها.
إن مواجهة هذه الإشكاليات المطروحة على النقد والأدب العربيين تقتضي منه العمل بشكل أساس على بلورة المصطلح النقدي العربي، من خلال توليده عندما تكون هناك حاجة كما يفعل الناقد في القسم الأخير من الكتاب. إن التركيز على مسألة المصطلح تنبع من الدور الذي يلعبه في توفير مساحة واسعة من الحرية أمام الناقد، إلى جانب ما يتيحه من إمكانية لكي يرى النص الأدبي على حقيقته. ويخلص الناقد من دراسة هذه الإشكاليات التي تواجه النقد العربي الحديث، إلى أن الأدب العربي لم يدرس حتى الآن كفاعلية تسهم في توسيع حدود التعاطف والوعي الإنساني، لأنها تكشف عن معجزة التماثل والتباين في الحياة الإنسانية العربية، طالما أن الأدب لا يمكن أن نحصره في وظيفة محددة في أي مجتمع من المجتمعات.
إن القارئ الذي يجب أن يتوجه إليه الأدب يجب ألا يكون قارئا محددا لأن القارئ كما هو الواقع دائم التغير. كل هذا يتطلب من النقد أن يبقى في حالة من الصيرورة التي لا تسمح بتحوله إلى أيديولوجيا معصوبة العينين، ما يستدعى أن تظل المصطلحات اللسانية تحت مراقبة الناقد كونها مقولات تجريبية في حالة تشكل مستمر.

المدخل إلى أدب الحداثة

يستكمل الناقد الشمعة، ما سبق وطرحه في كتابيه السابقين من أفكار ومفاهيم بخصوص المنهج والمصطلح بشكل عام وأدب الحداثة بشكل خاص، بهدف تأصيل وتطوير الجهاز المفاهيمي والمعرفي للنقد العربي الحديث بغية تصويب العلاقة القائمة بين الأدب والثورة في الأدب العربي الحديث، في ظل سيطرة بعض المفاهيم السائدة حول علاقة الأدب والثورة، خاصة بعد أن هيمن نوع من النقد الشعاري المتخفي وراء العلمية وأدى إلى تزييف العلم والفن معا. يتوزع الكتاب على أقسام ثلاثة يناقش في محاورها الكثير من قضايا الأدب عموما والأدب السوري على وجه التخصيص. إن رفض الناقد للأيديولوجيا يتأتى من كون العمل الأدبي يعمل دوما على تحطيم النظام القديم للأفكار باسم نظام جديد إضافة إلى أنه يقوم على الكشف عن ضعف وأخطاء الإنسان، وليس تقديم نظام متسق من الكمال، كما تحاول الأيديولوجيا فعل ذلك. وفي مجال أدب الحداثة الذي يجري التركيز عليه، ثمة مدخل يقدم فيه الناقد سبرا لمجموعة من المفاهيم والعمل على استجلاء معناها من موقع سجالي، باعتبارها مقولات تجريبية قابلة للتغيير الأمر الذي يفتح باب الجدل الموضوعي حولها، بما يحقق تطورها وهو ما يتعارض حكما مع المفاهيم الناجزة التي تفرضها الأيديولوجيا على الأدب والمجتمع والحياة.
تتوخى أطروحات الناقد في هذا الكتاب تحقيق هدفين اثنين فهي من جهة تعمل على العرض والتقييم المنهجي، ومن جهة ثانية تحاول السبر التوليدي للمصطلح النقدي العربي دون أن تفقد اتصالها مع سياقها الخارجي أو تتخلى عن التواصل في قاعها البنيوي. ولأجل تحقيق هذه الغاية يبدأ الكتاب بمناقشة بعض المفاهيم المتحكمة، لاسيما ما يتعلق منها بالعلاقة بين الأدب والثورة مثل مفاهيم الفانتازيا واليوتوبيا والأيديولوجيا لكونها مفاهيم خاصة بالتحول وهي أشكال خاصة بالأدب، ما يجعل لها القدرة على الدفع في اتجاه تغيير الواقع. ومن أجل البرهنة على ما كان يحدث في الفن العربي، يتوقف الناقد عند مفهوم الأيديولوجيا في الأدب العربي الحديث، كما ساد هذا المفهوم في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي من قبل السوسيولوجيين العرب، الذين سموا تلك الأيديولوجيا بأنها الدين العلماني. مفاهيم كثيرة يقوم الشمعة بمناقشتها مثل مفهوم المغالطة التاريخية ومفهوم الاستبدال واللفظ والتلقين والطقس والاستهواء والتلبس والقناع. كذلك يناقش الناقد مجموعة من القضايا الأخرى في محاور الكتاب الأخرى مثل قضايا المثاقفة للتدليل على ما يذهب إليه حول تأثير الأدب العربي في الأدب الغربي وعلاقة الشعر بالصورة في شعر عزرا باوند، إضافة إلى مناقشة مفهوم الواقعية والمحاكاة، والمحاكاة المعكوسة. وكالعادة يضع الكاتب في نهاية الكتاب ملحقين بالمصطلحات النقدية المؤسسة والمولدة، إضافة إلى المراجع التي وردت في فصول الكتاب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب