دراسات

هنري كيسنجر في «القيادة»: أقنع السادات ونيكسون بفعالية سياسة الخطوة خطوة فقطفت ثمارها إسرائيل ودفعت ثمنها فلسطين

هنري كيسنجر في «القيادة»: أقنع السادات ونيكسون بفعالية سياسة الخطوة خطوة فقطفت ثمارها إسرائيل ودفعت ثمنها فلسطين

سمير ناصيف

قد يكون من الصعب الكتابة بنقد موضوعي غير ملتزم عن آخر كتاب كتبه وزير خارجية أمريكا السابق الراحل وهو في التاسعة والتسعين من عمره، أي قبل عام على وفاته مؤخراً في عامه المئة على وجه هذه الأرض.
عنوان هذا الكتاب هو: «القيادة: ست دراسات في الاستراتيجية العالمية» الذي تناول كيسنجر فيه طبيعة الأدوار القيادية لرئيس الجمهورية الراحل الفرنسي شارل ديغول والرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون ورئيس جمهورية مصر أنور السادات ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر والمستشار الألماني كونراد اديناور ورئيس حكومة سنغافورة السابق لي كوان يو، وجميع هؤلاء شخصيات رحلت ولكنها قبل رحيلها لعبت أدواراً أساسية في تاريخ العالم وقد التقاها وتعامل معها كيسنجر بشكل مباشر وتعرّف حسب قوله على دوافعها وقيمها وحساسياتها وسلبياتها برأيه، بالإضافة إلى إيجابياتها، ليس فقط من منطلق دوره كوزير خارجية أمريكا وقبل ذلك كمستشار للرئيس الأمريكي للأمن القومي، بل كأستاذ للتاريخ السياسي الحديث البارز في جامعة هارفرد الأمريكية وهي الجامعة المصنفة أكاديمياً كأفضل جامعات أمريكا والعالم.
من أجل تحقيق القدر المستطاع من التوازن، إزاء عمل فكري هام كالكتاب الذي تجري مراجعته هنا يجب الفصل بين قيمته الأكاديمية والتاريخية من جهة ومدى انحياز أو عدم انحياز مقاربته أو موقف كاتبه السياسي من جهة أخرى على حساب مواقف أخرى. وقد يكون الكتاب مفيدا تاريخياً برغم انحياز بعض مواقف كاتبه.
وقد اخترنا التركيز في هذه المراجعة على ما تناوله كيسنجر في الكتاب عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات وعن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون الذي عيّنه في مناصبه الهامة في القيادة الأمريكية وعن الجنرال والرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي يبدو في الكتاب وكأنه مثَلُ كيسنجر الأعلى في مواقفه عموماً نظراً لشجاعته ودبلوماسيته المحنكة في الوقت عينه خلال أدواره في الحربين العالميتين الأولى والثانية، بنظر كيسنجر.
يعتبر كيسنجر ان السادات اختلف عن رؤساء مصر الذين سبقوه أو لحقوه بانه كان واقعياً ورؤيوياً وشجاعاً في القرارات التي اتخذها بالنسبة إلى السلام مع إسرائيل وقبل ذلك خلال المواجهة العسكرية مع إسرائيل، وان القليلين يتذكرون أهمية مواقفه في المبادرة المفاجئة للسلام نحو الدولة العبرية وقيمتها من الناحيتين الأخلاقية والإنسانية علماً انها برأي الكاتب: «شكلت الأساس لاتفاقيات أوسلو في التسعينيات واتفاقية السلام بين إسرائيل والأردن ولمعاودة العلاقات الدبلوماسية الطبيعية بين إسرائيل مع دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب مؤخراً (في نطاق اتفاقيات ابراهام)». (ص 206).
ويضيف كيسنجر في الصفحة نفسها أن السادات طرح مفهوم السلام المطلوب تحقيقه بشكل أكبر في المراحل اللاحقة، ولم تبادر في زمنه أي شخصية قيادية عربية معاصرة بمثل هذه المبادرة والقدرة على تحقيقها!
ويستطرد قائلاً في الصفحة التالية إن «السادات اختار تحقيق السلام حسب الممارسات المعمول بها في الغرب مفضلاً التركيز على القومية المصرية وعدم الانحياز والتفاعل مع الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً من التركيز فقط على خيارات القومية العربية».
ويشير المؤلف إلى أن السادات التقى الرئيس جمال عبد الناصر عام 1939 بعد تخرجهما من الكلية العسكرية المصرية وأسسا معاً مجموعة «الضباط الأحرار» وكان السادات آنذاك متأثراً بأيديولوجيا حركة «الإخوان المسلمين» وبالتالي كان تركيز مواقفه على التحرر من الاستعمار البريطاني في مصر، وقد سُجن آنذاك بسبب هذه المواقف.
وبسبب صداقته مع عبد الناصر كُلف السادات خلال حكم ناصر بمناصب وزارية إعلامية فيما كانت المناصب الأمنية بيد مجموعة الضباط الكبار المصريين المقربين من الاتحاد السوفييتي، علي صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف وغيرهم، الذين أقصاهم السادات لاحقاً.
وقد تم تعيين السادات نائباً للرئيس في عام 1969 ولم تتوقع الشلة الأمنية المقربة من عبد الناصر أن يبقى طويلاً في منصبه كرئيس جمهورية انتقالي بعد وفاة عبد الناصر عام 1970 علماً أن السادات كان يتجنب الاحتكاك السلبي مع هذه الشلة الأمنية قبل وفاة ناصر، بيد انه: «لعب دوراً في ترطيب الأجواء إلى حد ما بين ناصر والإخوان المسلمين والحركات الإسلامية الأخرى وخصوصاً بسبب التوجهات العلمانية لحكومة ناصر». (ص 216).
ويكشف كيسنجر في الفصل الرابع عن السادات عن الأسباب التي دفعت الرئيس المصري السادات إلى الانتقال إلى المعسكر الغربي الأمريكي والعوامل التي دفعته إلى سحب القوات السوفييتية المرابطة في مصر إلى الخارج. كما يصف المؤلف العلاقة الحميمة التي نشأت بينه هو شخصيا وبين السادات وكيف انبثقت وتصاعدت ثقة عميقة بين الجانبين دفعت السادات إلى الإصغاء لنصائحه.
كما يتضح للقارئ أن همّ كيسنجر الأساسي في علاقته بالسادات لم يكن دفعه إلى السلام مع إسرائيل فحسب بل إلى التوجه في ذلك المسار السلمي عن طريق «منهج الخطوة ـ خطوة». فبعدما شعر السادات بأن عبور جيشه قناة السويس إلى الضفة الأخرى في حرب 1973 وانه أصبح في وضع يمكنه من فرض واقع انتصاري ميداني جديد وبرنامج ملائم له ولبلده، نصحه كيسنجر بدلاً من ذلك باعتماد «الخطوة ـ خطوة» بينما السادات ظن أن الفرصة سانحة أمامه لتحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967 وتطبيق قرار الأمم المتحدة (242) فيما يخص بوضع القدس والأراضي المحتلة. ولكن الصديق هنري أشار إليه بان الوقت لم يحن لذلك بعد!!
ولما أبلغه السادات ان حليفه في حرب 1973 الرئيس السوري حافظ الأسد في وضع صعب ميدانياً وتنفيذ مثل هذا الاتفاق سيفيده، وجد الرئيس المصري نفسه فجأة في وضع ميداني عسكري صعب وجيشه الثالث محاصراً واضطر للرضوخ لسياسة «الخطوة ـ خطوة» التي قطفت ثمارها قيادة إسرائيل بمساهمة كيسنجر.
وفي موقف مماثل إلى حد ما وعندما كان ويليام روجرز، وزير الخارجية في حكومة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، يطرح «مشروع روجرز» للحل الشامل وكان كيسنجر مستشاراً للأمن القومي، نجح الأخير في إقناع نيكسون بصواب خطة «الخطوة ـ خطوة» وتأجل فرض مشروع روجرز أمريكياً على إسرائيل وخرج بعد ذلك ويليام روجرز من وزارة الخارجية وحل «الرفيق هني» في مكانه واستمر في الترويج لمشروع (الخطوة ـ خطوة). وفعل ذلك في فترة رئاسة جيرالد فورد وبعد ذلك لاحقاً على أثر انتخاب رؤساء من الحزب الديمقراطي (جيمي كارتر وبيل كلينتون) وفي فترة رئاسة رونالد ريغان وجورج بوش الأب والابن. وبالتالي، أفشل مشروع (الخطوة ـ خطوة) وصاحبه مقررات مؤتمر مدريد في عام 1991 ومقررات اتفاقيات أوسلو في عام 1993 إذ كان مشروع (الخطوة ـ خطوة) يتناغم مع مشاريع إسرائيل البعيدة المدى، أي الاستمرار في توسيع الاستيطان على حساب الشعب الفلسطيني ومنع نشوء دولة فلسطينية على جزء من الأرض الفلسطينية بشتى الوسائل. وهكذا ظل «الرفيق هنري» صديقاً وفياً لإسرائيل حتى اليوم الأخير من حياته ولمشاريعها في التطبيع غير المشروط مع دول العالم العربي صاحبة الثروة أو الفعالية السياسية والعسكرية على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه.
وهنا تصح التفرقة بين كيسنجر الأكاديمي والمؤرخ والدبلوماسي الذكي وكيسنجر صاحب الخطط السلبية في حق فلسطين والشعب الفلسطيني الذي يعاني أسوأ أزماته في هذه المرحلة.
يقول كيسنجر في الصفحة 266: «في كامب ديفيد بعد خمس سنوات على حرب 1973 وافق السادات على تسوية تأجل تحقيق ثمارها وروحها إلى المستقبل. واستندت تلك التسوية على الثقة التي اكتُسبت تدريجياً في السنوات الأربع السابقة. وبالتالي، وافقت الجهتان إسرائيل ومصر على نبذ العنف وتطبيع العلاقات بينهما والتوقيع على معاهدة سلام ثنائية والسماح ببقاء انتشار قواتيهما على ضفتي قناة السويس والانسحاب الكامل لإسرائيل من سيناء».
ويضيف: «ان مقاربة مشروع (الخطوة ـ خطوة) حققت جميع ما كان يسعى إليه المطالبون بمشروع سلام شامل في مؤتمر سلام واحد. وهكذا حقق السادات مشروعه المصري القومي وأهدافه بناء للاستراتيجية التي اعتمدها من دون الركون إلى مشروع سلام إقليمي. وحصلت إسرائيل على اتفاقية سلام ملزمة مع جارتها التي سعت إلى تحقيق السلام معها منذ زمن طويل. وأتاح ذلك المجال أمام اتفاق سلام مع الأردن ومفاوضات مستقلة عن هاتين المبادرتين في مجال الضفة الغربية وغزة وذلك من أجل إنشاء سلطة فلسطينية تناسب العرب والفلسطينيين. وهكذا حظي السادات ومناحيم بيغن رئيس حكومة إسرائيل بجائزة نوبل للسلام لعام 1978». ومن هذا المنطلق يتضح أن كيسنجر وضع الأسس لإلغاء مشروع الدولة الفلسطينية الفاعلة واستبداله بمشروع التطبيع العربي مع إسرائيل من دون أي التزامات باتجاه فلسطين. وهذا الأمر بلا شك ربما ساهم في انطلاق عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 بعد فشل جميع المشاريع التفاوضية التي يمكن ان تحقق النتائج بين إسرائيل والفلسطينيين. والأسوأ في كل ذلك أن «الرفيق هنري «يتمنى قبل وفاته عدم حصول المزيد من الحروب في الشرق الأوسط وفلسطين. (ص 267).
بالنسبة لرأي كيسنجر بالرئيس ريتشارد نيكسون الذي أوصله إلى مناصبه القيادية، بدا في هذا الكتاب وكأن وزير الخارجية السابق وقف موقف المتفرج عندما انطلقت قضية «ووترغيت» التي قضت على رئاسة نيكسون لأمريكا وظهر كأن كيسنجر في فصله عن نيكسون يحاول اظهار صفات نيكسون الحسنة وجرأته، خصوصاً عندما انطلقت المواجهة بين قيادة الملك الأردني الحسين بن طلال مع منظمة التحرير الفلسطينية في عملية «أيلول الأسود» في الأردن. إذ هدد نيكسون حسب قول كيسنجر باستخدام الأسلحة المدمرة وحرك الأساطيل في البحر المتوسط في قراره مواجهة أي تحرك ميداني ممكن للجيش السوري في عام 1970 ضد القوات العسكرية الأردنية التي واجهت قوات منظمة التحرير وطردتها من الأردن. كما ينوه كيسنجر بموقف الولايات المتحدة تحت قيادة نيكسون عندما شعرت إسرائيل بالخطر بعدما تقلصت ترسانتها العسكرية على أثر هجوم الجيش المصري والجيش السوري عليها في حرب أكتوبر 1973 وخصوصاً عندما «قرر نيكسون» آنذاك التهويل باستخدام الأسلحة النووية لمنع خسارة إسرائيل تلك الحرب ما دفع الاتحاد السوفييتي بقيادة ليونيد بريجنيف إلى عدم المجازفة بوقوع حرب على هذا المستوى مع أمريكا الأقوى منه عسكرياً برأي المؤلف.
ولكن القارئ المتعمق في قراءة ما وراء السطور يلاحظ أن كيسنجر وبرغم انه ينسب هذه الإنجازات في الكتاب لنيكسون، فإنه يذكر في أكثر من مناسبة أنه لعب دوراً رئيسياً في قرارات نيكسون آنذاك وربما كان المبادر في اتخاذها.
ففي الفصل الثالث عن نيكسون يشير كيسنجر في الصفحات 143 ـ 142 إلى أن الرئيس الأمريكي آنذاك كان متردداً ومتناقضاً في مواقفه إزاء الحرب والسلم في الشرق الأوسط وفي التعامل الصارم مع الاتحاد السوفييتي في تلك المرحلة، وأن نيكسون لم يكن يمتلك ثقة بنفسه وكان يوكل القرارات المصيرية إلى معاونيه وبينهم الرفيق هنري شخصياً، فيما قد يرى آخرون أن نيكسون كان معتدلاً ومتأثراً بمعلمه الرئيس دوايت ايزنهاور الذي كان يفضل التوجه نحو المشاورة والقرارات الجماعية بدلاً من الاعتماد على مستشار أو مستشارين قد تكون لهم أجندتهم الخاصة في دعم جبهة ضد أخرى.
وبالتالي، دفع نيكسون ثمناً لذلك. إذ أن فضيحة «ووترغيت» واستقالة نائبه سبيرو آغنيو حدثتا في فترة حساسة كان على الرئيس الأمريكي اتخاذ القرارات المصيرية خلالها إزاء حرب أكتوبر 1973 وفي وقت اتخذ كيسنجر وأعوانه هذه القرارات والمبادرات السلبية المتكررة بعد استمراره في منصبه كوزير للخارجية في حكومة الرئيس جيرالد فورد. علماً أن فورد لم يكن ضالعاً في الشؤون الخارجية وحصلت خلال مرحلة رئاسته تطورات خطيرة في الشرق الأوسط بينها اغتيال الملك السعودي فيصل عبد العزيز والحرب الأهلية في لبنان وما تلاها.. وبالتالي، لم يعارض كيسنجر مشروع روجرز فحسب عام 1970 كما قيل انه لم يعارض بل وافق على ارسال قوات عسكرية سورية إلى لبنان في عام 1976 استناداً إلى حجة إيقاف الحرب الأهلية اللبنانية وذلك بموافقة ضمنية من إسرائيل.
ويبقى السؤال مطروحاً لماذا تفاقمت فضيحة «ووترغيت» بعد زيارة قام بها الرئيس نيكسون إلى سوريا برفقة كيسنجر وبدا نيكسون خلالها مستعداً للتفاوض المثمر مع الرئيس حافظ الأسد عام 1973؟
لعل كل ما قيل عن دهاء وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر والذي يندرج في ما يسمى نظرية المؤامرة يتقلص عندما يقرأ القارئ الفصل الثاني من الكتاب المتعلق بالجنرال شارل ديغول.
ديغول بالنسبة لكيسنجر كان القائد المقاوم الشجاع المثالي الذي لم يكترث لقوة خصومه في ألمانيا النازية ولا للمؤامرات التي حيكت ضده من قبل القادة الذين كان يُفترض أن يكونوا حلفاء له كرئيس الوزراء البريطاني في الحرب العالمية الثانية ونستون تشرتشل وحليفه القوي آنذاك الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت.
لقد نظر هذان القائدان إلى ديغول وكأنه حليف مرحلي محدود النفوذ بالإمكان استخدامه لتحقيق أهدافهما وبعد ذلك تهميشه إذا لزم الأمر. ولكنه أثبت أنه كان قائداً فريداً في التاريخ إذ جمع جيشاً فرنسياً مقاوماً من أفريقيا وفرنسا وأثبت بأن فرنسا لن تُقاد سوى بالفرنسيين أنفسهم تحت الراية الفرنسية وانه لن يكون عميلاً لأحد. وبالتالي بقي اسمه خالداً في سجلات فرنسا حتى الساعة وفي ضمير كل القادة الأحرار في العالم الذين لا يخضعون لمشغليهم.
Henry Kissinger: «Leadership – Six Studies in World Strategy»
Penguin Books, London 2024
499 Pages.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب