ثقافة وفنون

جورج شحادة… بين الشعر والمسرح

جورج شحادة… بين الشعر والمسرح

رشيد سكري

لا وطن لكم أيها المبدعون، راحلون ومرتحلون في هذا الهجير…
لا وطن يأويكم، ولا سحابة تقيكم حر الكتابة.. في زمن البكاء والعويل على ماض توارى خلف السحاب. وهذه الهزيمة قصمت ظهر بعيركم، وما عاد متعب الهذال إلى مقامه الزكي، النقطة التي فاض بها الغيظ، والقهر، والتعب المذل.
جورج شحادة… ما مصيره لو ظل مصريا أو لبنانيا أو عربيا حتى؟ جورج شحادة… عصفور من الشرق أتعب متعب الهذال.. سجنته القوافي، وأبحر في بحورها إلى أن اختطفه دايدلوس، أو أورفيوس.. وما عاد إلى الوراء من أجل فرس ما وضعت حوافرها في ماء بحر الأندلس.. إن فرنسا لا تعبث بالمبدعين، ولا تبيع لهم السرابُ والسدى، الطاهر بن جلون، وأمين معلوف، وجورج شحادة، ورشيد بوجدرة، وأوكتافيو باث، وتزيفتان تودروف، واللائحة طويلة.
يتمرى جورج شحادة في مرآة من السريالية الفرنسية، التي أقامت الدنيا وشغلت الناس… وها هو تغيستن تازارا الطبيب والشاعر، الذي يركض خلف حصان ضَبِح، حتى أعياه وأتعبه، في مسالكه الوعرة، غموضَ وإبهامَ الشعر… إن المسرح، الذي ظل رقصا في مذبحة الديترامب، لم يتقنه سوفوكليس، إلا بعد ما امتزجت الأرواح في البرزخ، أو في الغيب.
كنت أقرأ كتاب أدونيس «زمن الشعر» وجورج شحادة يرقص على جمر الغضى، عندما أدركته الأبواب السبع. فانفتحت اللغة على المستحيل، في مداها سراب يتقلب قُدادا… وصل الشعر مداه، يحمّل اللغة ما لا تستطيع… فكان المسرح. جورج شحادة وأدونيس في مذبحة سوفوكليس، عندما كان المسرح مبحوحا، وبصوت واحد ووحيد ـ أو حتى جاء العبث مع توفيق الحكيم «يا طالع الشجرة»… يختار شحادة شخوص مسرحياته من الهامش والمنسي، الذي يتضور جوعا… فالواقع العربي في سلة العنب.. مواطنون قهرتهم مظان الاستعباد، وأسكن في جحورهم فراخ طائر الخوف.. ما تبقى لنا سوى هذا الحلم الذي يمتزج بالهواء.. فلا موقف لك إلا على حافة الواقع، بل على مشارف التيه، والتيه تيهان في مقبرة الجوعى. مخدوعون في أوطانهم الذي علمهم السحر والشعر والمسرح. جورج شحادة شيء من السفر في ظلال المعاني، أو تحت أشجار الزيزفون، فلا تفاحة أخرجت آدم، ولا تفاحة اكتشفت الجاذبية.. فهل مسرح جورج شحادة يصالحنا مع المستحيل؟ أم يصالحنا مع ذواتنا التي ترفض الحرية؟
فالجنون يعرف شحادة، وشحادة لا يعرف الجنون.. يسمو بالعقل نحو البرزخ ليعود طاهرا من دنس واقع رُتبت أوراقه على يخوت تجوب المحيطات، ومن ورائها أكواب، ونخب ترقص على جثث الجوعى، وعلى ذلك الموت المؤجل. الذات فلسفة جورج شحادة، لا تتجزأ، ولا تنشطر على الركح، أو على الخشبة الإيطالية في احتفالية عبد الكريم برشيد، أو حتى على أضواء تتجدد فينا باستمرار.
اللعب باللغة مدارج في صعود وهبوط، فجورج شحادة من أسر الشعر إلى فخاخ المسرح، حيث إنه مساحة كبيرة من حرية التعبير اللغوية والغنائية والرقصية، فهو يلعب ولا يزخرف كما قال أدونيس، يهتم دائما بالبدايات لأنها أساس الكون.. فالإنسان يلعب، والحيوان يلعب، والطبيعة في ملكوتها تلعب.
في مسرحية « مهاجر بريسبان» اختلط فيها الفقر بالشرف والموت بالثروة… القرية ساكنة سكونا مقيتا.. أضحى المهاجر يعانق الذهب فارا من كوابيس تطارده، فكان الحلم الوسيلة الوحيدة التي تغير من رتابة هذا الواقع في بريسبان. هذا الحلم يأتي شبيها بالشعر، لتصير له امتدادات في المسرح، وليس أي مسرح، إنه مسرح اللامعقول.. فيه المثلث يربع، والدائرة تسطح… اللامعقول جنون نحو ثورة على هذا الواقع غير المادي، ليظل الحلم سمتا نحو الحرية. تطاردنا الأحلام لنخلق لأنفسنا توازنا نفسيا مفتقدا.. زمننا النفسي مهدور خلف زجاجات النبيذ، وفي الساحات العمومية، المقفرة من تمثال الحرية.
جورج شحادة يكتب بلغة موليير، وفيكتور هوغو، وبلغة رولان بارت.. جورج شحادة يكتب لكل العرب مسرحا هادفا مشبعا بطاقات تفاضلية، يسهر على أن تصاحبه في ترحاله الأبدي، في إقامات شبيهة بزنازينَ تطارد شبق الحلم. وفيها تحسر وألم وأمل وفرحة… بغد آت لا محالة من أديم أوصال، وعروق تفيض دما قانيا، وكل ذلك من أجل حقيقة غائمة.

كاتب مغربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب