
«الكينونة والمعنى» لأوس حسن: قراءة معاصرة في الفلسفة الوجودية والإنسان
أمير الجبوري
مضى على الإنسان فترة طويلة من الزمن وهو في راحة، بعد الحياة البدائية التي عاشها على الأرض، والتي كان منغمساً فيها بتلبية حاجاته الأولية وغرائزه، لقد ساعدته هذه الأزمنة من الراحة، التي تبلور فيها الوعي، على التأمل والتفكير كي يبحث عن معنى جوهري في الحياة، وعلى الرغم من قفزته غير المسبوقة في التطور، وتقدم علومه على الأرض، إلا أنه ظل عاجزاً عن إيجاد قيمته الأسمى.
في كل مرحلة جديدة من تاريخ الحياة البشرية، كان هناك دوماً ظلام دامس يطغى على المعرفة وينبئ بأفولها الوشيك، وهو غياب المعنى والغاية من الحياة، وهو عجز بشري طالما أرّق البشرية برمتها، ووضع الإنسان موضع العاجز عن إدراك البواطن الخفية للوجود والفكر.
لقد أدرك الإنسان أن كل ما سبقه من أساطير غيبية وسماوية، ما هي إلا بواعث داخله المقهورة التي أسقطها على العالم، وعلى قوى الطبيعة التي تفوق مقدرته، وإمكانيته في الوجود، مبتغيا بذلك المعنى والغاية والنهاية. من ذلك بصيص الضوء البسيط الذي بدأ يبزغ من ظلام البشرية، انتقل الفكر رويداً رويداً من الخرافة إلى العقلانية والمنطق، لكن هل يكفي المنطق وحده لتفسير العالم وظواهر الوجود والحياة الإنسانية؟ وهنا لا بد لنا أن ننتقل إلى الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون، الذي شبّه ذلك بعمل العنكبوت الذي يفرز نسيجه من داخله، فأراد أن يكون بصيص الأمل في عمل النحل الذي يجمع الرحيق فيصنع منه العسل. أما شوبنهاور فقد ذهب الى أن هذا العالم بأكمله يتمثل لنا وفق منظورنا البشري، ليأتي فيلسوف المطرقة نيتشه ويضع يده على انفعالات النفس البشرية تجاه هذا الوجود، والتي تمخضت عنها لعبة الفلسفة في صراع الإنسان مع العالم؛ تلك اللعبة الذهنية الوحيدة القادرة على قهر تلك الانفعالات وموازنة الإنسان مع عالمه. وفي المحصلة استفاد فرويد أيضاً من جميع هذه المفاهيم الفلسفية والأفكار في تحليله النفسي وتأسيسه لبنية اللاشعور. هذه النقلات المعرفية المتسلسلة تقادمت وتراكمت لتفتح للإنسان أبواب بواعثه من جديد ليصوغ معنى حياته على الأرض بعيداً عن أوهامه في الأعالي الماضية.
كيف نفهم الوجودية في وقتنا الراهن؟
يرسم لنا كتاب «الكينونة والمعنى» للمؤلف أوس حسن مجموعة من اللوحات الوجودية المرصعة بألمع الأسماء وأبرزها في تاريخ الفلسفة، التي أمسكت بمفاتيح الفكر والحياة للولوج إلى الإنسان وصناعة المعنى في حياته. يتكون الكتاب الصادر مؤخراً عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» من مقدمة وتسعة فصول وخاتمة، مع قائمة لأهم المصادر والمراجع.
يأخذنا الكتاب نحو عدة مفاهيم فلسفية، كاليأس، والوجود الأصيل، والقلق، والرعب، والتمرد، إضافة إلى العلاج بالمعنى، وهي من أبرز المحطات التي استوقفتنا، لتبدأ بعدها جولتنا في ثنايا الكتاب وسطوره.
في الفصل الأول الذي خصصه المؤلف لكيركيغورد، نلاحظ أن اليأس هو مقولة وجودية لا تختلف عن غيرها من مقولات الوجود، فاليأس هنا ليس مرضياً أو ناتجاً عن انعكاسات خارجية يفرضها العالم على الإنسان، وإنما قفزة إلى الإيمان خارج كل منطق، وخارج كل مجردات العقل؛ فالإيمان عند كيركيغورد قفزة ليس للعقل شأن فيها مستشهداً بقراءته الحكيمة لقصص الأنبياء، حين يرنو قلبهم للإيمان في اللحظات التي تكون فيها أبصارهم شاخصة للسماء، بحثاً عن الحرية وعن خلاص أبدي من قسوة اليأس. وفي الوجود الأصيل عند هيدغر نراه نابعاً من القلق الذي يكشفه العدم للإنسان، القلق الذي يضع الإنسان في مواجهة دائمة مع مصيره، ومع نهايته الحزينة بالموت، ومن هذا المنطلق يصبح وجود الإنسان حراً من الآراء السائدة والأفكار العامة، ومجرداً من كل أحكام مسبقة وأفكار غرستها فيه الأديان والسلطات، ومن ضمنها الأعراف وتقاليد المجتمع. إنه تجرد يسمو بالإنسان فوق كل شيء ليعي نفسه وبواعثه أولاً. هكذا يربط هيدغر القلق بالوجود الأصيل، فتتحول كينونة الإنسان من مصير لا يريد مواجهته إلى وجود يريد اغتنامه، فيتبدد القلق إلى صناعة جديدة للحياة.
ونجد التمرد عند كامو هو في نهاية الأمر تمرد على سخافة الحياة والوجود ومنح هذا الوجود الفارغ معنى ذاتياً، لكنه لا يتوقف عند الذات وحدها، بل يتقاطع مع مصائر الآخرين وأقدارهم المشتركة في عبثية العالم ولا جدواه. وانعدام الوضوح عند كامو هو سبب رئيس في اللاجدوى، والشعور باللاجدوى هو أشد الانفعالات إزعاجاً عندما تستولي على المرء كما يقول كامو، والاستمرار في اللاجدوى هو استمرار للحياة، وانبثاق مفاجئ للمعنى عن طريق الصدفة القدرية، فقد تكمن المعجزة في هذا الاستمرار الممل لذلك العبث اللامتناهي في مصير الإنسان والعالم، وهناك كلمة اقتنصها أوس بدقة عند ألبير كامو لتختصر الكثير من لا جدوى كامو وهي: «إذا استطاع المرء أن يقول مرة واحدة فقط هذا واضح فسيتم إنقاذ كل شيء». وفي الفصل الأخير حول السيكولوجية الوجودية والعلاج بالمعنى نرى خلاصة أفكار الكتاب، وقطفه لثماره الفلسفية، وهي كيف نقرأ الوجودية في زماننا الحالي. في إضاءة نفسية تتمحور حول هدف الإنسان في حياته، مخلفاً وراء ظهره كل وهم، وكل شيء غريب عن كينونته، حيث المدرسة النفسية عند فرانكل ترى أن على الإنسان أن يتقبل المعاناة الوجودية ويواجهها بالمعنى، وهي تجربة فردية تختلف من فرد لآخر.
ختام نقدي
وفي إضاءة نقدية سريعة على الكتاب، يمكننا أن نشم رائحة نيتشه وفلسفته، عندما يكون الأمل واليأس متضافرين في خلق المعنى والحياة عند الإنسان، لكننا لا نرى أسلوب نيتشه الذي يستفز التفكير ليوقظ مطرقته ويحفر كلماته في العقول. ومن جهة أخرى لا نرى في الكتاب قطفاً لثمار هيغل في صناعة المعنى بالفن. وهي رؤية تخص المؤلف وحده ما دام أنه قد جمع الفلاسفة الوجوديين في هذا الكتاب وميزهم عن بقية الفلاسفة، لكن يمكننا القول إن الباعث الفني للإنسان قديماً وحديثاً جاء لتلوين الحياة بالمعنى وإعطائها قيمة مستمرة ومرافقة لكينونة الإنسان، وهذا فيه تفاؤل كبير بخلاف ما احتواه الكتاب من بحث في الألم، والتمرد، والعدم، والقلق، لكنه لم يخلُ من إضاءات فنية تمثلت في الأدب الوجودي عند سارتر ودستويفسكي وكامو ونيتشه.
في النهاية نستطيع القول إن «الكينونة والمعنى» هو كتاب قراءة معاصرة لوجودية جديدة تمسك بخيوط الحاضر والماضي معاً، إنه فعلاً يستحق العناية والاهتمام، لما يضيفه من أفكار جديدة ورؤى غير مسبوقة عنها. ومن أهمها فكرة العدم التي يتقاطع عندها أغلب الفلاسفة الوجوديين، فهي بقدر ما تشكل قاعا سحيقا وهاوية لا قرار لها، إلا أنها في الوقت نفسه تتحول إلى قفزة لا متناهية إلى الحرية وإشراقة كبيرة على حياة مفعمة بالقيم والمعاني. ولو شئنا أن نعطي تقييما للكتاب من منظور شخصي، فهو يستحق درجة تسع نجمات على مقياس عشرة. حيث ترك أوس حسن نجمة الفن مغيبة عن سطور كتابه، أو ربما مسكوت عنها وغير مفكر فيها.
أكاديمي وباحث عراقي