الصداقة في فلسفة التوحيدي: رحلة البحث عن النديم الحقيقي
سفيان البراق
ينضح التراث العربي الإسلامي بحفنةٍ من المفاهيم الفلسفية التي اعتنى بها لفيف من الفلاسفة والحكماء العرب، وبوأوها منزلةً أسنى، وأكبوا على الكتابة عنها، وهي مفاهيم كثيرة قد لا تنقضي عدا وفي طليعتها: مفهوم الموت، العشق، الصداقة، العزلة والاغتراب إلخ. وقد حظي مفهوم الصداقة، من باب التمثيل والحصر، بوافر الاهتمام، ولعل المقالات والرسائل الفلسفية التي وصلتنا هي أجلى بيانٍ على ذلك، وأذكر في هذا المضمار الرسالة الطريفة والظريفة: «الصداقة والصديق» التي أفردها «فيلسوف الأدباء» (نعت ياقوت الحموي صاحب المقابسات بأديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء) أبو حيان التوحيدي لهذا المفهوم، والممتدة على مساحة 400 صفحةٍ ونيف، وقد انبرى إلى تحقيقها، لأول مرة، المحقق اللماح واللوذعي إبراهيم الكيلاني، ما يعكس رهافة قرين الحرْفة (نعت محمد الشيخ في كتيبه: «مع التوحيدي في شقوته» أبا حيانٍ بأنه «منحوس زمانه») ورقته البائنة، وتبين بجلاء كبير، أن المرء لا يمكن أن يستغني عن الغير- الآخر سواء أكان في فجر حياته أو في مساء عمره؛ إذ أن الصديق به يتمرفق الإنسان وعليه يتكئ، لأن زواريب الحياة عديدة، وحوائلها كثيرة، ودروبها ملتوية، ومن ثمة لا فكاك للإنسان، كيفما كان، من أن يتوكأ على إنسانٍ آخر، يستريح إليه استراحة المكدود، وينشد أنْ يجد في قوله راحة المكروب، ويضخ فيه أملا ينير درب هذا المغلوب، ويشاطره همومه وشواغله التي تستبد به. يقول التوحيدي في هذا السياق: «وقد قال الأوائل: إن الإنسان مدني بالطبع، وبيان هذا أنه لا بد له من الإعانة والاستعانة؛ لأنه لا يكمل وحده لجميع مصالحه، ولا يستقل بجميع حوائجه، وهذا ظاهر فبالواجب ما يعرض ذلك من الأخذ والعطاء والمجاورة والمخالطة والمعاشرة». (تحقيق: متولي صلاح، دار آفاق).
لا تماري في أن صفة الصديق لا يقدر على نيلها وبش القوم ممن أضحى الختل ديدنهم، والمماذقة دأبهم، والابتشاك مسلكهم في درب الحياة، وهم يبعثون سورة اشمئزاز على كل عاقلٍ فيه قليل من الصدق لتنهد الجوارح وتخبو جذوة الرغبة في تكوين الصداقات، وتلك مثلبة لا مناص من أنْ يتكره منها كل منْ منّ عليه الخالق بمنسوبٍ قليل من التعقل. ومن ثمة يظهر أن القول الذائع المنسوب إلى أرسطو: «أيها الأصدقاء ليس هنالك أصدقاء» هو قول ينطبق على هؤلاء الذين يزعمون أنهم أصدقاء صادقون في هذا الزمن الضنين على الصداقة، أما حقيقتهم فهم سليبو المروءة يستسهلون المخادعة، ويقتاتون على تنامي الإحن، وينتعشون بفشو الذحول في النفوس. إن منزلة «الصديق» لا يظفر بها إلا من كان هو والثقة المستحكمة مترادفين، مجبولا على الوفاء، مطبوعا بالإخلاص، ربيبا لأبي الهول (أي كتوما للأسرار) لا يعاني الذحل ولا تغمره الضغينة. ولا ينعم بها إلا من كان متشاكلا مع الآخر في المسلك الذي سلكاه معا في التفكير، ويجمعهما تجانس الرؤى والأدلجة، ويوحد بينهما نبل السجايا ونشدان الخير، وإذا مشيا في الطريق ما راغ أحدهما عنها، ولعل هذا ما جعل مفهوم الصداقة يسيل المداد عنه، وتتباين طرق التناول، وتختلف النظرة إليه من حكيمٍ لآخر، وكل هذا منبعه أن تجارب الغدر والخيانة ممن أخطأ بهم الظن هي عديدة ويصعب حصرها وعدها.
ذكر محقق الرسالة إبراهيم الكيلاني أن اشتغال التوحيدي على هذه الرسالة بدأه وهو نائف عن العشرين مقبل على الحياة، مكتظ بالأمل والتفاؤل، وما أنهاها إلا وهو في خريف عمره، وهذا يشي بلا شك بأن نظرته إلى تجربة الصداقة في شبابه تتنابذ مع رؤيته لها وهو كهل، يعاين تكالب تصاريف الأحوال عليه؛ إذ أن فترة الحداثة يغلب عليها الحماس والاندفاع والتسرع في الحكم، وفترة الشيخوخة تطبعها الروية والنضج، وفي ذلك اختلاف قد لا يخفى على أحد. كتب في مقدمة تحقيقه للرسالة: «امتد تأليف الرسالة فترة طويلة من حياة التوحيدي بدأها في سن الشباب وانتهى من تأليفها في أواخر حياته». (دار الفكر 1996). فخذم التوحيدي تجربة الصداقة وعظّمها، ومنحها منزلةً تحاذي القداسة؛ أي إن هذه الصفة هي نادرة وسنية لا تليق بجميع الناس، وهو الذي كان يلفه اليأس ممن عاصروه، وداهمته غارات الإحباط من المداهنين الذين لا رأي لهم ولا هم ثابتون على موقفٍ محدد، بل يتلونون حسب المكان والزمان والشخص ليحظوا بنعت أخلاقهم بـ»أخلاق البغال» وهم من جعلوا بضاعة الصداقة ينال منها البوار.
كانت الرسالة في مختلف مواقعها عامرةً بالطرائف اللطيفة وقد انتقاها «إمام البلغاء» بدقة عالية جدا ومنها: «قيل لمسور الزهري: أي الندماء أحب إليك؟ قال: لم أجد نديما كالحائط، إنْ بصقت في وجهه لم يغضب عليّ وإنْ أسررت إليه شيئا لم يفشه عني».. وذكر التوحيدي حكايةً توجز عمق الصداقة وألقها حينما انقطع نعل ابن مناذر فلما أبصر الخليل ذلك نزع نعله وقال: «أواسيك بالحفاء»..
لعل ما يزكي هذا الزعم هو ما جاء في رسالة التوحيدي حينما كتب عبارةً قوامها الإدهاش والدقة والتكثيف تختزل رحلةً كبيرة في مجالدة تعاور الأيام وتنبئ بخبرة عالية بالنفوس وطباع الناس: «أطول الناس سفرا من سافر في طلب صديقٍ». (تحقيق: علي متولي صلاح). يظهر من خلال هذا القول أن الإنسان من الصعب أن يجد صديقا حقيقيا تتجسد فيه معايير الصداقة المتعارف عليها، ومن ثمة فإنه يقضي ردحا من العمر مفتشا ومتعقبا هذا الصديق الحقيقي، أما أنْ تألف إبصار الوجوه نفسها وقراءتها في يومك، ويخال إليك أنهم صادقون غير أن انصرام الأيام تنسف هذا الاعتقاد وتؤكد أنهم مجرد «أناسٍ» عاديين بالكاد يتخلون وينصرفون في أول منعرجٍ حقيقي لتخيب الرجية وتتأرب الضائقة. الصديق ليس هو من يبتغي الإفك ويرنو التندر، أو من يفرج عن نواجذه وهم أمام الوليمة والوكيرة، أو من تجده حاضرا حينما يجتذل القلب وغائبا حينما تشرع غارات التكدر في شن حربها الشعواء. إن الناس أخياف تتباين طبائعهم وهذا صنف منهم لا يستحق أن يقطع عليه المرء فرسخا واحدا للقائه؛ ومن فعل فقد كان ذلك من باب المواربة ومكاذبة النفس.
لم يكن التوحيدي يروي سيرته مع الندماء والعشْران والخلان، وإنما درج في رسالته هذه على النزوع إلى التلميح؛ إذ أنه استحضر كومةً من الحكايات والطرائف والنوادر والحكم التي توارثها الحكماء العرب وطائفة من الفرس أيضا (بزرجمهر مثالا) التي لها وشائج عميقة واضحة مع تجربة الصداقة القوية والعميقة والصادقة، وأذكر في هذا الباب من باب التمثيل فقط لا الحصر: «قيل لأبي علي النصير: لم لا تتخذ الأصدقاء؟ قال: حتى أفرغ من الأعداء، فوالله لقد شغلوني بأنفسهم عن كل صديقٍ يعينني عليهم، وإحالة العدو عن العداوة أولى من استدعاء الصداقة من الصديق».. أضف إلى ذلك ما رواه التوحيدي عن أبي حامد الذي قال: «والله إن عداوة العاقل لألذ وأحلى من صداقة الجاهل» فضلا عما نقله لنا عن أبي العتاهية: «ما يجب للصديق؟ قال: ثلاث خلال: كتمان حديث الخلوة، والمؤاساة عند الشدة، وإقالة العثرة». كان التوحيدي يلمّح من خلال هذه الطرائف إلى جوهر الصداقة وعمقها، ويشير بإشاراتٍ في غاية الترميز إلى الصفات التي يجب أن تتوفر فيمن يود أن يكون صديقا، ومن بين هذه السمات التي انضوتْ عليها هذه الحكايات المستظرفة نجد في طليعتها: حب الصديق للصديق يترجم لأفعال، لا أن يحصر على القول فقط، ونقرأ للتوحيدي في هذا المضمار: «لقي رجل صاحبا له، فقال له: إني أحبك. فقال: كذبت، فلو كنت صادقا ما كان لفرسك برقع وليس لي عباءة». ويمكن إرداف ذلك بحكمةٍ أخرى في غاية الأهمية رواها التوحيدي: «الصاحب كالرقعة في الثوب، فإنْ كان مشاكلاً لم ينْب عن الطرْف، وإن كان غير مشاكلٍ كان الفضوح»..
كانت الرسالة في مختلف مواقعها عامرةً بالطرائف اللطيفة وقد انتقاها «إمام البلغاء» بدقة عالية جدا ومنها: «قيل لمسور الزهري: أي الندماء أحب إليك؟ قال: لم أجد نديما كالحائط، إنْ بصقت في وجهه لم يغضب عليّ وإنْ أسررت إليه شيئا لم يفشه عني».. وذكر التوحيدي حكايةً توجز عمق الصداقة وألقها حينما انقطع نعل ابن مناذر فلما أبصر الخليل ذلك نزع نعله وقال: «أواسيك بالحفاء»..
يتضح من هذه الطرائف المسلية التي تثبت الروية وتمتع الحاسة وتلطف النفس، أنها تحبل بعدة إشارات رمزية إلى السمات التي يجب أنْ يوسم بها الإنسان حتى يكون صديقا؛ ففي مقدمتها: التعقل، حسن التصرف، الصدق في القول والفعل، الثقة، الكتمان، وصفاء النفس وخلوها من الأدران إلخ، وبذلك يمكن وسمه بالصديق، أما من ضل عنها فهو عابر وزائل وفائتة عادية في الدنيا. لا شك أن المرء يعرف العشرات أو المئات من الناس وهو مرتحل في الدنيا، ويسقطون تباعا ويتوارون، ولا يبقى إلا الأصلاء والأصفياء الصادقين، والآخرون مصيرهم أن يصيروا أرشيفا يحيط به النسيان، كما يحيط السوار بالمعصم. كان التوحيدي عارفا بمناقب الصداقة، خبيرا بتقلب النفوس، مدركا لمقابح المخاتلين لذلك قرظ هذه الصفة وأنزلها مكانةً متميزةً جدا، وجعلها حكرا على البعض وأقصى البقية عن الظفر بها، ولهذا كان يروي كتلةً من الطرائف والغرائب لها صلة «بصداقة الفضيلة» قصد الإبانة عن أصالة الصديق الحقيقي وصدقه، وتمييز الصديق عن الموارب الذي مطمحه مآرب أخرى ذاتية وهذا شين لا يليق بالإنسان العاقل؛ إذ أن الظفر بنديمٍ أو رفيقٍ صادق ووثيق يكون قرينا لأبي الهول، يتحمل المقابح ولا يستبشعها، يستحب الإيثاق، يقمع هوائج نفسه إذا عاين زلةً، يرفع قدر المحامد ويتغاضى عن المعايب، لا يفتر عن الإسعاف ويكون مرفقا به تتمرفق، يغمرك بالعطف والحدب، ولا ينفك عن الحضور في أصعب الأيام وأجزلها، ولعمري إن ذلك أمر فريٌّ في هذا الزمان، ومن أحرز ذلك فإنه حظي بكنْزٍ سني لا يقايض بأي شيء مهما بلغت قيمته في دنيانا.
كاتب مغربي