كيف نكتب عن «العشرية السوداء» دون أن نكسب أعداء؟
سعيد خطيبي
صارت الكتابة مهنة شاقة في الجزائر، فمن يدنو من العشرية السوداء، تصوب إليه مسدسات النقد والازدراء، يصير شخصاً غير مرغوب فيه. كأن توافقاً حصل، في السر، من غير علم الكتاب، بأن نحيل تلك السنوات إلى النسيان.
عشر سنوات كاملة ويزيد دار فيها عنف غير مسبوق، في تسعينيات القرن الماضي؛ سيارات مفخخة، قنابل وتفجيرات، مجازر ومذابح، قطّاع طرق وحروب شوارع، سال فيها دم الأبرياء في الأزقة والطرقات. في تلك السنوات التي عشتها طفلاً، كان السؤال الأوحد بين زملائي في المدرسة: «هل تفضل الموت بسكين أم برصاصة؟» كنا نرى الموت يطوف فوق رؤوسنا ولن يتأخر في الوصول إلينا، لكن كل شيء انتهى باستفتاء على قانون، أطلق عليه «قانون المصالحة الوطنية» ترتب عليه العفو عن أشخاص ارتكبوا أفعالاً، بعدما سلموا أنفسهم، بل قضى كذلك بإعادة إدماجهم في وظائفهم السابقة، كأن شيئاً لم يحصل، وقضى كذلك بتعويضات إلى أهالي الضحايا، وألغى المتابعات القضائية. تغلبت السياسة على القضاء، وقانون واحد أفضى إلى مسح الدماء التي سالت، لكن هل بوسع ذلك القانون أن يمسح الذاكرة كذلك؟
في خضم العشرية السوداء، صدرت روايات تروي وقائعها ما يدور على الأرض. ونتذكر منشورات «مرسى» الفرنسية، التي اختصت في نشر مجلة مرفقة برواية باللغة الفرنسية لكتاب من الداخل. روايات تشترك جلها في التعبير عن العنف الذي يدور أمام أعين الكتاب. في توثيق اللحظة وأوجاعها. كل كاتب كان يرسل مخطوطة روايته مثل من يرسل وصية وداع، وهو لا يعلم هل سوف يحيا في اليوم التالي أم لا. في خضم الموت، بلغ الأدب في الجزائر أعلى مراتب الحرية، فعندما يصير الموت قدراً مشتركاً، يتوارى الرقيب. كانت البلاد مشغولة في مطاردة نواطير الأرواح، في التخلص من أولئك الذين زرعوا الموت في القرى والبلدات المعزولة، ولا وقت في التفكير في منع كتاب أو مجلة. لكن عقب إقرار قانون المصالحة الوطنية، توقف نهر الكتابة، أو بالأحرى تعكر ماؤه. فهمت السلطة أن بالها لن يرتاح إلا إذا أوصدت الباب أمام المبدعين.
لم يتعسر عليها الأمر في بسط يدها على السينما، بحكم أن كل قاعات العرض تسير تحت أمرها، وبالتالي يمكنها منع فيلم أو الحد من انتشاره، لكن صعب عليها منع كاتب من إصدار رواية. مع ذلك عثرت السلطة على الحل، حفظت دروس جورج أورويل في «1984» ونصبت نفسها أخاً أكبر على المبدعين. وضمنت قانون المصالحة الوطنية مادة، لا تزال محل جدل، تهدد فيها بالسجن من 3 إلى 5 سنوات (مع غرامة مالية) كل من يستعمل في كتاباته جراح المأساة الوطنية. المأساة الوطنية هو المصطلح الرسمي الذي أطلق على العشرية السوداء، والجميع يخشى تسميتها حرباً أهلية، فالخطوة الأولى صوب محو الذاكرة بدأت من استخدام كلمات محايدة، تحيد عن السياق الذي عاش فيه الناس. هل عندما يُقتل البشر جماعات كل يوم، نسمي ما يحصل «مأساة» وكفى؟ لكن المأساة الأخرى جاءت عندما اصطف كتاب في خندق محو الذاكرة. من أجل التقرب إلى السلطة أعلنوا «حرباً» على زملائهم الذين يكتبون عن عشرية التسعينيات. وباتوا يطلقون على تلك الكتابات تسمية غريبة وهي: كتابة استعجالية. عندما كانت منشورات «مرسى» تنشر روايات عن الموت والخوف والدم المنهمر، لا أحد سماها «كتابة استعجالية» وعندما جرى إقرار قانون المصالحة، صار اسمها كذلك.
والغاية من هذه التهمة هي التقرب من السلطة التي ودت محو الذاكرة، وكذلك من أجل دفع الحرج عن النفس. غالبية الذين أشاعوا مصطلح «أدب استعجالي» هم أشخاص لم يكن لهم موقف واضح سنوات التسعينيات، أو كانوا من الحالمين بانتصار الجماعات المتطرفة، وقيام دولة إسلامية في البلاد. رغم انقضاء ما يقرب عن عشرين عاماً منذ صدور قانون المصالحة الوطنية، ورغم هذه السنوات التي تلت العشرية السوداء، لا يزال مصطلح الأدب الاستعجالي يتكرر، على الرغم من أن الكاتب يباشر عمله وهو يبعد مسافة أمان عن الأحداث، ليس ضالعاً فيها، لا معارضاً ولا موالياً، لكن مثلما أسلفنا الذكر جرى توافق في محو كل كلام عن تلك العشرية، والخاسر في هذه الحالة هم ضحايا التسعينيات، الذين حرموا من الحياة، مثلما يحرمون من صوت لهم في الأدب.
جرت العادة أن نحصر العشرية السوداء، في سياق السياسة، وننسى أنها مسألة ثقافية في جوهرها، اندلعت في جسد الثقافة ثم توسعت نيرانها. فعام 1989، ظهر حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأول عملية قام بها لم تكن سياسية، بل ثقافية، عندما حشد المتعاطفين معه في الإساءة إلى المغنية ليندا دي سوزا، ومنع حفل لها، كان يفترض أن ينتظم في قاعة ماجيستيك (قاعة الأطلس حالياً). إذن أول عملية خطط لها هذا الحزب استهدفت الثقافة، ثم تساقط المثقفون في التسعينيات، بالرصاص أو الطعن (الطاهر جاعوط، يوسف سبتي، بختي بن عودة، إلخ). كانت حرباً ضد الثقافة والمثقفين، أليس من حق المثقفين الذين عاشوا من بعدهم أن يكتبوا عما حدث، من غير أن توجه إليهم رماح الطعن من طرف مواطنيهم؟ عندما يصدر كاتب جزائري رواية عن العشرية السوداء، فهو يعلم أن كتابه لن يبيض ذهباً، لأن الكتابة عن الحرب ليست من الموضوعات الرائجة، التي تتبوأ قائمة أفضل المبيعات، لأن الناس يفضلون قصص الحب أو الخيال العلمي أو الأدب الخفيف، لكنه يدافع عن حقه في الكلام، في إتاحة الكلام للذين رحلوا، يمارس حقه كشاهد، يلجأ إلى المخيلة في ترتيب الوقائع التي حصلت، من غير إدانة جهة أو تبرئة أخرى، يمعن في حقه في التخييل، في الحفاظ على ذاكرة شعب ووطن. لكن هذه الحالة من ازدراء من يكتب عن سنوات التسعينيات لن تتغير، إلا في حالة واحدة، إذا تغير القانون. ما دام أن القانون لم يخضع إلى تعديل ويخوف الكتاب، فكلما كتب أحد عن العشرية السوداء، سوف يكسب المزيد من الأعداء.
سبق للجزائر أن أعادت النظر في الكثير من القوانين، بدءاً من اتفاقيات إيفيان، التي تغيرت بنودها عقب الاستقلال (1962) فماذا يمنع من إعادة النظر في قانون المصالحة الوطنية؟ لاسيما المادة 46 منه، التي تضيق حرية الكتاب والمبدعين في مجالات أخرى، أن يعاد لهم الحق في الكتابة وفي التدوين، دون أن يجري ازدراؤهم أو التعتيم عليهم، حفاظاً على الذاكرة، كي لا تتكرر «المأساة الوطنية» كما يسميها القانون.
كاتب جزائري